الکلام فی مفاد العلوی الأوّل
أمّا قوله علیه السلام : «المیسور لا یسقط بالمعسور» ـ ففیه احتمالات : أوضحها أن یقال : إنّ نفس المیسور لا یسقط بالمعسور .
وأمّا احتمال أنّ المراد : أنّ حکم المیسور لایسقط عن عهدته ، أو أنّ حکمه لایسقط عن موضوعه ، أو أنّ المیسور لایسقط عن موضوعیته للحکم فکلّها خلاف الظاهر .
وإنّما قلنا إنّ کون الأوّل أظهر لأنّ استعمال کلمة «لا یسقط» یتوقّف علی ثبوت ما یسقط بنحو من الأنحاء فی محلّ عالٍ حقیقة أو اعتباراً .
فلمّا کان الطبائع ثابتاً بواسطة الأمر فی عهدة المکلّف وذمّته التی هی أمر عالٍ فی عالم الاعتبار کانت الأجزاء ثابتة فی ذلک المحلّ بعین ثبوت الطبیعة .
ولمّا کان سقوط الجـزء وتعذّره موجباً لتعذّر المرکّب وسقوطه حسب القاعدة الأوّلیة جاء الحدیث نافیاً لتلک القاعدة ؛ قائلاً بأنّ سقوط المعسور لا یوجب سقوط المیسور ؛ وإن کان ملاک عدم السقوط مختلفاً ؛ فإنّ الملاک لعدم سقوطه قبل التعذّر إنّما هو الأمر المتعلّق بالطبیعة الموجب لثبوتها ـ الذی هو عین ثبوت أجزائها ـ وأمّا الملاک لعدم سقوطه بعد التعذّر فإنّما هو لأجل أمر آخر مستفاد من ذلک الحدیث . وهو غیر قادح أصلاً ؛ فإنّ الاختلاف إنّما هو فی جهة الثبوت لافی أصله ، نظیر السقف المحفوظ بالدعائم المختلفة المتبدّلة ؛ فالسقف ثابت وإن کان ما به الثبوت یختلف ، کما أنّ الأجزاء المیسورة ثابتة وإن کان ما به الثبوت مختلفاً ؛ فتارة یکون ما به الثبوت هو الأمر المتعلّق بالطبیعة التامّة ، واُخری یکون الأمر المستفاد من ذلک العلوی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 407
وأردأ الاحتمالات هو الأخیر ؛ وإن کان الجمیع غیر الأوّل مشترکاً فی کونه خلاف الظاهر .
وجه الأردئیة : أنّ لفظة السقوط لا یلائم هذا الاحتمال ؛ لما عرفت من أنّ تحقّق مفهوم السقوط یتوقّف علی کون الساقط فی محلّ عالٍ ، ککون الحکم بالنسبة إلی الموضوع ، وهو بالنسبة إلی ذمّة المکلّف .
وأمّا کون سقوط الموضوع ـ المیسور ـ عن الموضوعیة فلا یتحقّق فیه الشرط المذکور ؛ لأنّ الحکم یسقط عن الموضوع لا الموضوع عن الموضوعیة ، إلاّ بتبع سقوط الحکم عن موضوعه . نعم لو کان ارتفاع الموضوع لأجل موضوعیته لصحّ ذلک فیه ، کما یقال : سقط الآمر عن الإمارة ، والمقام لیس من ذلک القبیل .
وأمّا کون الکلّ مشترکاً فی کونه خلاف الظاهر ؛ فلأنّ الحکم الذی کان متعلّقاً بالمیسور قبل تعذّر بعض الأجزاء فهو یسقط قطعاً ـ سواء قلنا إنّه وجوب غیری أو نفسی ـ والثابت له بعد تعذّر بعض أجـزائـه إنّما هـو أمـر آخـر بملاک آخـر ، فنسبة عدم السقوط إلیه مسامحة موجودة فی الاحتمالات الثلاثة ، وهذا بخلاف الأوّل ؛ فإنّ عدم السقوط مستند فیه إلی نفس المیسور ، وهو لایستلزم شیئاً من المسامحة .
وأمّا ما ربّما یقال : إنّ المراد من عدم السقوط عدم سقوطه بما له من الحکم الوجوبی أو الاستحبابی ؛ لظهور الحدیث فی ثبوت ما ثبت سابقاً بعین ثبوته أوّلاً ، الراجع إلی بقاء الأمر السابق ، نظیر قوله علیه السلام : «لاتنقض الیقین بالشکّ» ، الشامل للوجوب والاستحباب .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 408
فضعیف ؛ لأنّ الحکم الوحدانی المتعلّق بالمرکّب الثابت بثبوته کیف یتصوّر بقاؤه مع زواله ، والإرادة الشخصیة المتعلّقة بالمراد ، المتشخّصة به کیف تبقی بحالها مع زوال ما هو ملاک تشخّصه ؟
وقیاس المقام بأدلّة الاستصحاب مع الفارق ؛ فإنّ مفادها التعبّد بإبقاء الیقین عند الشکّ فی بقاء المتیقّن ، وأمّا المقام فلا شکّ فی سقوط ما ثبت وزوال ما کان موجوداً . نعم یحتمل فی المقام وجود ملاک آخر یوجب ثبوت البقیة فی الذمّة ، لکن بأمر آخر وحکم مستقلّ وملاک مغایر .
وأمّا ما أفاده شیخنا العلاّمة ـ أعلی الله مقامه ـ تبعاً للشیخ الأعظم من التمسّک بالمسامحة العرفیة فغیر وجیه ؛ لأنّ العرف ـ مهما کان متسامحاً ـ لا یرضی أن یقول بأنّ الوجوب الغیری الثابت سابقاً عین الوجوب النفسی الحادث لاحقاً بدلیل آخر .
ولو فرض تسامحه إلی هذه المنزلة فسیوافیک : أنّ المسامحات العرفیة غیر مقبول ، وإنّما المیزان فی المقام هو العرف الدقیق . نعم لاعبرة بالدقّة العقلیة ، کما لاعبرة بالمسامحة العرفیة ، فانتظر .
ثمّ إنّه یظهر ممّا ذکرنا : اختصاص العلوی بالواجبات ؛ إذ لا ثبوت ولا عهدة فی المستحبّات إلاّ بوجه آخر ، وأمّا تنقیح المناط أو إلغاء الخصوصیة مع الاعتراف بظهورها فی الواجبات فلا وجه له .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 409