المقصد السابع فی الاُصول العملیة

الکلام فی مفاد العلوی الأوّل

الکلام فی مفاد العلوی الأوّل

‏ ‏

‏أمّا قوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«المیسور لا یسقط بالمعسور»‏ ـ ففیه احتمالات : أوضحها‏‎ ‎‏أن یقال : إنّ نفس المیسور لا یسقط بالمعسور .‏

‏وأمّا احتمال أنّ المراد : أنّ حکم المیسور لایسقط عن عهدته ، أو أنّ حکمه‏‎ ‎‏لایسقط عن موضوعه ، أو أنّ المیسور لایسقط عن موضوعیته للحکم فکلّها خلاف‏‎ ‎‏الظاهر .‏

‏وإنّما قلنا إنّ کون الأوّل أظهر لأنّ استعمال کلمة «لا یسقط» یتوقّف علی‏‎ ‎‏ثبوت ما یسقط بنحو من الأنحاء فی محلّ عالٍ حقیقة أو اعتباراً .‏

‏فلمّا کان الطبائع ثابتاً بواسطة الأمر فی عهدة المکلّف وذمّته التی هی أمر‏‎ ‎‏عالٍ فی عالم الاعتبار کانت الأجزاء ثابتة فی ذلک المحلّ بعین ثبوت الطبیعة .‏

‏ولمّا کان سقوط الجـزء وتعذّره موجباً لتعذّر المرکّب وسقوطه حسب‏‎ ‎‏القاعدة الأوّلیة جاء الحدیث نافیاً لتلک القاعدة ؛ قائلاً بأنّ سقوط المعسور‏‎ ‎‏لا یوجب سقوط المیسور ؛ وإن کان ملاک عدم السقوط مختلفاً ؛ فإنّ الملاک لعدم‏‎ ‎‏سقوطه قبل التعذّر إنّما هو الأمر المتعلّق بالطبیعة الموجب لثبوتها ـ الذی هو عین‏‎ ‎‏ثبوت أجزائها ـ وأمّا الملاک لعدم سقوطه بعد التعذّر فإنّما هو لأجل أمر آخر‏‎ ‎‏مستفاد من ذلک الحدیث . وهو غیر قادح أصلاً ؛ فإنّ الاختلاف إنّما هو فی جهة‏‎ ‎‏الثبوت لافی أصله ، نظیر السقف المحفوظ بالدعائم المختلفة المتبدّلة ؛ فالسقف‏‎ ‎‏ثابت وإن کان ما به الثبوت یختلف ، کما أنّ الأجزاء المیسورة ثابتة وإن کان ما به‏‎ ‎‏الثبوت مختلفاً ؛ فتارة یکون ما به الثبوت هو الأمر المتعلّق بالطبیعة التامّة ، واُخری‏‎ ‎‏یکون الأمر المستفاد من ذلک العلوی .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 407
‏وأردأ الاحتمالات هو الأخیر ؛ وإن کان الجمیع غیر الأوّل مشترکاً فی کونه‏‎ ‎‏خلاف الظاهر .‏

‏وجه الأردئیة : أنّ لفظة السقوط لا یلائم هذا الاحتمال ؛ لما عرفت من أنّ‏‎ ‎‏تحقّق مفهوم السقوط یتوقّف علی کون الساقط فی محلّ عالٍ ، ککون الحکم بالنسبة‏‎ ‎‏إلی الموضوع ، وهو بالنسبة إلی ذمّة المکلّف .‏

‏وأمّا کون سقوط الموضوع ـ المیسور ـ عن الموضوعیة فلا یتحقّق فیه‏‎ ‎‏الشرط المذکور ؛ لأنّ الحکم یسقط عن الموضوع لا الموضوع عن الموضوعیة ، إلاّ‏‎ ‎‏بتبع سقوط الحکم عن موضوعه . نعم لو کان ارتفاع الموضوع لأجل موضوعیته‏‎ ‎‏لصحّ ذلک فیه ، کما یقال : سقط الآمر عن الإمارة ، والمقام لیس من ذلک القبیل .‏

‏وأمّا کون الکلّ مشترکاً فی کونه خلاف الظاهر ؛ فلأنّ الحکم الذی کان‏‎ ‎‏متعلّقاً بالمیسور قبل تعذّر بعض الأجزاء فهو یسقط قطعاً ـ سواء قلنا إنّه وجوب‏‎ ‎‏غیری أو نفسی ـ والثابت له بعد تعذّر بعض أجـزائـه إنّما هـو أمـر آخـر بملاک‏‎ ‎‏آخـر ، فنسبة عدم السقوط إلیه مسامحة موجودة فی الاحتمالات الثلاثة ، وهذا‏‎ ‎‏بخلاف الأوّل ؛ فإنّ عدم السقوط مستند فیه إلی نفس المیسور ، وهو لایستلزم شیئاً‏‎ ‎‏من المسامحة .‏

وأمّا ما ربّما یقال :‏ إنّ المراد من عدم السقوط عدم سقوطه بما له من الحکم‏‎ ‎‏الوجوبی أو الاستحبابی ؛ لظهور الحدیث فی ثبوت ما ثبت سابقاً بعین ثبوته أوّلاً ،‏‎ ‎‏الراجع إلی بقاء الأمر السابق ، نظیر قوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«لاتنقض الیقین بالشکّ»‏ ، الشامل‏‎ ‎‏للوجوب والاستحباب‏‎[1]‎‏ .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 408
فضعیف‏ ؛ لأنّ الحکم الوحدانی المتعلّق بالمرکّب الثابت بثبوته کیف یتصوّر‏‎ ‎‏بقاؤه مع زواله ، والإرادة الشخصیة المتعلّقة بالمراد ، المتشخّصة به کیف تبقی بحالها‏‎ ‎‏مع زوال ما هو ملاک تشخّصه ؟‏

‏وقیاس المقام بأدلّة الاستصحاب مع الفارق ؛ فإنّ مفادها التعبّد بإبقاء الیقین‏‎ ‎‏عند الشکّ فی بقاء المتیقّن ، وأمّا المقام فلا شکّ فی سقوط ما ثبت وزوال ما کان‏‎ ‎‏موجوداً . نعم یحتمل فی المقام وجود ملاک آخر یوجب ثبوت البقیة فی الذمّة ،‏‎ ‎‏لکن بأمر آخر وحکم مستقلّ وملاک مغایر .‏

‏وأمّا ما أفاده شیخنا العلاّمة‏‎[2]‎‏ ـ أعلی الله مقامه ـ تبعاً للشیخ الأعظم‏‎[3]‎‏ من‏‎ ‎‏التمسّک بالمسامحة العرفیة فغیر وجیه ؛ لأنّ العرف ـ مهما کان متسامحاً ـ لا یرضی‏‎ ‎‏أن یقول بأنّ الوجوب الغیری الثابت سابقاً عین الوجوب النفسی الحادث لاحقاً‏‎ ‎‏بدلیل آخر .‏

‏ولو فرض تسامحه إلی هذه المنزلة فسیوافیک : أنّ المسامحات العرفیة غیر‏‎ ‎‏مقبول ، وإنّما المیزان فی المقام هو العرف الدقیق . نعم لاعبرة بالدقّة العقلیة ، کما‏‎ ‎‏لاعبرة بالمسامحة العرفیة ، فانتظر .‏

ثمّ إنّه یظهر ممّا ذکرنا :‏ اختصاص العلوی بالواجبات ؛ إذ لا ثبوت ولا عهدة‏‎ ‎‏فی المستحبّات إلاّ بوجه آخر ، وأمّا تنقیح المناط أو إلغاء الخصوصیة مع الاعتراف‏‎ ‎‏بظهورها فی الواجبات فلا وجه له .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 409

  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 4 : 255 .
  • )) درر الفوائد ، المحقّق الحائری : 501 .
  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25 : 392 .