المقصد السابع فی الاُصول العملیة

التمسّک بالاستصحاب لإثبات وجوب باقی الأجزاء

التمسّک بالاستصحاب لإثبات وجوب باقی الأجزاء

‏ ‏

‏ویقرّر الاستصحاب بوجوه :‏

الأوّل :‏ استصحاب وجوبـه علی نحو القسم الثالث من استصحاب الکلّی‏‎[1]‎‏ ؛‏‎ ‎‏بأن یقال : إنّ الأجزاء الفاقدة لبعض القیود کانت واجبة بالوجوب الغیری حال‏‎ ‎‏وجوب الکلّ ، وقد علمنا بارتفاعه ، إلاّ أنّا نشکّ فی حدوث الوجوب النفسی للباقی‏‎ ‎‏مقارناً لزوال الوجوب الغیری ، فیستصحب الجامع بین الوجوبین ؛ بأنّه کان متیقّناً‏‎ ‎‏وشکّ فی بقائه .‏

‏وإن شئت فبدّل الوجوب الغیری بالضمنی ؛ بأن یقال : إنّ الباقی من المرکّب‏‎ ‎‏کان واجباً بالوجوب الضمنی حال وجوب الکلّ ، وقد وقفنا علی ارتفاعهما قطعاً‏‎ ‎‏لکن نشکّ فی حدوث الوجوب النفسی للباقی مقارناً لزوال وجوبه الضمنی ،‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 398
‏فالجامع بینهما متیقّن ، فیستصحب حتّی یثبت خلافه .‏

وفیه :‏ أنّه یشترط فی جریانه أن یکون المستصحب حکماً شرعیاً أو‏‎ ‎‏موضوعاً ذا أثر شرعی ، والجامع بین الوجوبین لیس موضوعاً لحکم شرعی کما‏‎ ‎‏هو واضح ، ولا هو حکم شرعی مجعول ؛ لأنّ المجعول إنّما هو کلّ واحد من‏‎ ‎‏الوجوبین ؛ أی ما هو فرد للوجوب بالحمل الشائع .‏

‏وأمّا الجامع بینهما فهو أمر انتزاعی غیر مجعول أصلاً ؛ فلو حکم الشارع‏‎ ‎‏بوجوب الصلاة ووجوب الصوم فالجامع بینهما غیر مجعول ، وما هو المجعول إنّما‏‎ ‎‏هو مصداق الجامع الذی یعبّر عنه بالفرد ، وما هو الحکم إنّما هو مصداق الجامع‏‎ ‎‏لا نفسه .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ الجامـع بنعت الکثرة حکم شرعی وبنعت الوحـدة‏‎ ‎‏لم یکن حکماً ولا مجعولاً ، فلا یجری فیه الاستصحاب . علی أنّک قد عرفت : أنّ‏‎ ‎‏اتّصاف الأجزاء بالوجوب الغیری ممّا لا معنی له‏‎[2]‎‏ ، وأمّا اتّصافها بالنفسی‏‎ ‎‏فسیوافیک ضعفه .‏

الثانی‏ من وجوه تقریر الاستصحاب هو استصحاب الوجوب النفسی‏‎ ‎‏الشخصی ، بادّعاء أنّ تعذّر بعض الأجزاء ممّا یتسامح فیه عرفاً ، ولایصیر القضیة‏‎ ‎‏المتیقّنة غیر القضیـة المشکوک فیها ، وهـذا مثل ما إذا وجب إکـرام زیـد ، ثمّ قطع‏‎ ‎‏بعض أعضائه ، فشککنا فی بقاء وجوبـه ؛ فلا شکّ أنّ عـدم الإکرام یعـدّ نقضاً‏‎ ‎‏عند العرف لما علم سابقاً‏‎[3]‎‏ .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 399
وفیه :‏ أنّ قیاس العناوین الکلّیة بالجزئیات الخارجیة قیاس مع الفارق ؛ لأنّ‏‎ ‎‏العنوان الکلّی إذا اُضیف إلیه جزء أو قید یعدّ مغایراً للکلّی الفاقد لهما ؛ فالإنسان‏‎ ‎‏العالم مباین لمطلق الإنسان ، والصلاة مع السورة غیر الصلاة بدونها ، والماء المتغیّر‏‎ ‎‏غیر الماء الذی لیس متغیّراً .‏

‏وأمّا الاُمور الخارجیة فتلک الزیادة والنقیصة لاتصیر مبدءً لحصول التباین‏‎ ‎‏بین الفاقد والواجد .‏

‏والسرّ فی ذلک : أنّ ملاک البقاء فی الموجودات الخارجیة هو بقاء الشخصیة‏‎ ‎‏والهذیة ، وهو حاصل لدی العرف بزیادة وصف أو ارتفاعه ، فإذا تغیّر الکرّ ثمّ ذهب‏‎ ‎‏تغیّره بنفسه فلا شکّ فی صحّة استصحاب نجاسته ؛ لأنّ الموضوع إنّما هو الماء ،‏‎ ‎‏وهو باقٍ .‏

‏وإن شئت قلت : القضیة المتیقّنة هی نجاسة ذلک الماء ، وهی عین القضیة‏‎ ‎‏المشکوک فیها ؛ لبقاء الهوهویة عرفاً ، وهذا بخلاف العناوین الکلّیة غیر المتحقّقة فی‏‎ ‎‏الخارج ؛ فإنّ ضمّ جزء أوقید به موجب لتبدّل الموضوع إلی موضوع آخر .‏

‏أضف إلی ذلک : أنّ ما یقال من أنّ تغیّر بعض الحالات لایضرّ بالاستصحاب‏‎ ‎‏إنّما هو فی الحالات التی علم دخالتها فی الحکم فی الجملة ، ولم یعلم کونها دخیلاً‏‎ ‎‏فیه حدوثاً وبقاءً ، أو حدوثاً فقط ، وإن شئت قلت : لم یعلم کونها دخیلاً علی نحو‏‎ ‎‏الواسطة فی العروض حتّی لایجری الاستصحاب ، أو واسطة فی الثبوت حتّی‏‎ ‎‏یجری ؛ فلو کان حال القید المرتفع ممّا ذکرنا فلا إشکال فی أنّه یستصحب .‏

‏وأمّا إذا علم کونه دخیلاً فی الحکم علی نحو القطع والبتّ ، إلاّ أنّه تعذّر‏‎ ‎‏الإتیان به فلا شکّ أنّه لایجری الاستصحاب ؛ لأنّ المفروض دخالته فی الحکم‏‎ ‎‏الشخصی ، ومع انتفاء جزء من أجزاء المرکّب ینتفی الحکم المتعلّق به بالضرورة ،‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 400
‏فلا معنی للتعبیر عنه بالشکّ فی بقاء شخص الحکم ؛ لأنّ المتیقّن مرفوع ، وغیره‏‎ ‎‏مشکوک الحدوث .‏

‏فإن قلت : ما الفرق بین تعذّر بعض الأجزاء وما إذا نقص مقدار من الماء‏‎ ‎‏الکرّ ؛ حیث یجری فی الثانی دون الأوّل ، ویعدّ المنقوص من الحالات فی الثانی‏‎ ‎‏دون الأوّل .‏

‏قلت : فرق واضح بینهما ؛ فإنّ دخالة المقدار المفقود فی الکرّیة مشکوک من‏‎ ‎‏أوّل الأمر ؛ لاحتمال کون الکرّ هو الباقی ، فإذا صدق کون هذا ذاک فلا مانع من‏‎ ‎‏الاستصحاب .‏

‏وأمّا المقام : فقد علمنا ببرکة أدلّة الجزء دخالته فی الحکم الشخصی من أوّل‏‎ ‎‏الأمر ، ومع فقدانه لایمکن القول ببقاء الحکم الشخصی الذی کان قائماً بالموضوع‏‎ ‎‏المرکّب . ومن المعلوم أنّ ارتفاع المرکّب بارتفاع بعض أجزائه أو کلّها ، کما أنّ‏‎ ‎‏ارتفاع حکمه بارتفاع موضوعه .‏

الثالث :‏ استصحاب الوجوب النفسی الشخصی أیضاً ؛ بأن یقال : إنّ الأجزاء‏‎ ‎‏الباقیة غیر المتعذّرة کانت واجبة بالوجوب النفسی ، ونشکّ فی بقائه ؛ لاحتمال‏‎ ‎‏اختصاص جزئیة المتعذّر بحال التمکّن ، فیبقی وجوب الباقی بحاله‏‎[4]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّه لا یعقل قیام الوجوب الواحد الشخصی أو الإرادة الواحدة‏‎ ‎‏الشخصیة بأمرین متغایرین ؛ تارة بالموضوع التامّ واُخری بالمرکّب الناقص .‏

‏والقول بأنّه من قبیل تعدّد المطلوب غیر مفید ؛ فإنّ تعدّد المطلوب یستلزم‏‎ ‎‏تعدّد الطلب والإرادة ، فعلی فرض تعدّد المطلوب هنا طلب مستقلّ وإرادة مستقلّة‏‎ ‎‏متعلّقة بالمطلوب التامّ لمن یقدر علیه ، وطلب مستقلّ وإرادة اُخری متعلّقة‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 401
‏بالمطلوب الناقص لمن لایقدر علی التامّ منه ، ولایعقل بقاء الطلب المتعلّق بالتامّ مع‏‎ ‎‏فقد جزئه ؛ فلا مجال لاستصحاب الحکم الشخصی .‏

الرابع :‏ استصحاب الحکم الشخصی النفسی أیضاً بأن یقال : إنّ الوجـوب‏‎ ‎‏وإن کان أمراً واحداً إلاّ أنّه ینبسط علی الأجزاء حسب کثرتها وتعدّدها ، فالأمر‏‎ ‎‏المتعلّق بالأجزاء له نحو انبساط علی الأجزاء ، ولأجل هذا الانبساط یکون کلّ‏‎ ‎‏واحد من الأجزاء واجباً بعین الوجوب المتعلّق بالمرکّب . فإذا زال انبساطه عن‏‎ ‎‏الجزء المتعذّر یشکّ فی زواله عن الأجزاء الباقیة ؛ فیستصحب بلا مسامحة فی‏‎ ‎‏الموضوع ولا فی المستصحب‏‎[5]‎‏ .‏

قلت :‏ قد عرفت ما هو الحقّ فی المقام عند البحث عن الأقلّ والأکثر ، وقد‏‎ ‎‏أوضحنا هناک‏‎[6]‎‏ : أنّ متعلّق الأمر الواحد والإرادة الواحدة لیس إلاّ أمراً وحدانیاً ،‏‎ ‎‏وأنّ الأجزاء بنعت الکثرة لایعقل أن تقع مصبّاً للطلب الواحد ، إلاّ أن یصیر الواحد‏‎ ‎‏کثیراً أو الکثیر واحداً ، وکلاهما خلف .‏

‏بل المتعلّق للبعث الواحد إنّما هی نفس الأجزاء فی لحاظ الوحدة‏‎ ‎‏والإجمال ، وفی حالة اضمحلالها وفنائها فی صورتها الوحدانیة . لابمعنی کون‏‎ ‎‏الأجزاء من قبیل المحصّلات لما هو متعلّق الأمر ، بل الأجزاء عین المرکّب لکن فی‏‎ ‎‏حالة التفصیل ، کما أنّ المرکّب عین الأجزاء لکن فی لباس الوحدة وصورة‏‎ ‎‏الإجمال . فتعلّق إرادة أو بعث بالمرکّب لیس من قبیل تعلّق الواحد بالکثیر ، بل من‏‎ ‎‏قبیل تعلّق واحد بواحد .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 402
‏وعلیه : فالقول بانبساط الإرادة أو البعث الوحدانی علی موضوعهما ممّا لا‏‎ ‎‏محصّل له ؛ لأنّ المتعلّق ـ بالفتح ـ کالمتعلِّق لیس إلاّ أمراً وحدانیاً ؛ وإن کانت ذات‏‎ ‎‏أجزاء عند التحلیل ولحاظه تفصیلاً .‏

‏ومعه لایصحّ أن یقال : إنّه قد علم زوال انبساطه عن المتعذّر وشکّ فی زواله‏‎ ‎‏عن غیره ؛ إذ کلّ ذلک فرع أن یکون المتعلّق ذات أبعاض وأجزاء عند تعلّق الأمر ،‏‎ ‎‏والمفروض أنّ الأمر لایتعلّق بالکثیر بما هو کثیر ، ما لم یتّخذ لنفسه صورة وحدانیة‏‎ ‎‏یضمحلّ فیها الکثرات والأبعاض والأجزاء . ومع الاضمحلال لامجال للتفوّه‏‎ ‎‏بالانبساط . وبذلک یبطل القول بالعلم بارتفاع الوجوب عن جزء ، والشکّ فی‏‎ ‎‏ارتفاعه عن الأجزاء الباقیة .‏

‏أضف إلی ذلک : أنّه لو سلّمنا کون الوجوب منبسطاً علی المرکّب ـ انبساط‏‎ ‎‏العرض علی موضوعه ـ لکن الوجوب المتعلّق علی الأجزاء تابع لوجوب المرکّب ،‏‎ ‎‏والمفروض : أنّ الوجوب المتعلّق به أمر واحد شخصی ینتفی بانتفاء بعض أجزائه ،‏‎ ‎‏وبانتفائه ینتفی الوجوب الضمنی التبعی المتعلّق بالأجزاء ، فلا یصیر من قبیل الشکّ‏‎ ‎‏فی البقاء ، کما لایخفی .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 403

  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25 : 389 و26 : 279 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 295 .
  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25 : 389 و26 : 280 .
  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 26 : 280 .
  • )) نهایة الدرایة 4 :385 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 293 .