التمسّک بالاستصحاب لإثبات وجوب باقی الأجزاء
ویقرّر الاستصحاب بوجوه :
الأوّل : استصحاب وجوبـه علی نحو القسم الثالث من استصحاب الکلّی ؛ بأن یقال : إنّ الأجزاء الفاقدة لبعض القیود کانت واجبة بالوجوب الغیری حال وجوب الکلّ ، وقد علمنا بارتفاعه ، إلاّ أنّا نشکّ فی حدوث الوجوب النفسی للباقی مقارناً لزوال الوجوب الغیری ، فیستصحب الجامع بین الوجوبین ؛ بأنّه کان متیقّناً وشکّ فی بقائه .
وإن شئت فبدّل الوجوب الغیری بالضمنی ؛ بأن یقال : إنّ الباقی من المرکّب کان واجباً بالوجوب الضمنی حال وجوب الکلّ ، وقد وقفنا علی ارتفاعهما قطعاً لکن نشکّ فی حدوث الوجوب النفسی للباقی مقارناً لزوال وجوبه الضمنی ،
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 398
فالجامع بینهما متیقّن ، فیستصحب حتّی یثبت خلافه .
وفیه : أنّه یشترط فی جریانه أن یکون المستصحب حکماً شرعیاً أو موضوعاً ذا أثر شرعی ، والجامع بین الوجوبین لیس موضوعاً لحکم شرعی کما هو واضح ، ولا هو حکم شرعی مجعول ؛ لأنّ المجعول إنّما هو کلّ واحد من الوجوبین ؛ أی ما هو فرد للوجوب بالحمل الشائع .
وأمّا الجامع بینهما فهو أمر انتزاعی غیر مجعول أصلاً ؛ فلو حکم الشارع بوجوب الصلاة ووجوب الصوم فالجامع بینهما غیر مجعول ، وما هو المجعول إنّما هو مصداق الجامع الذی یعبّر عنه بالفرد ، وما هو الحکم إنّما هو مصداق الجامع لا نفسه .
وإن شئت قلت : إنّ الجامـع بنعت الکثرة حکم شرعی وبنعت الوحـدة لم یکن حکماً ولا مجعولاً ، فلا یجری فیه الاستصحاب . علی أنّک قد عرفت : أنّ اتّصاف الأجزاء بالوجوب الغیری ممّا لا معنی له ، وأمّا اتّصافها بالنفسی فسیوافیک ضعفه .
الثانی من وجوه تقریر الاستصحاب هو استصحاب الوجوب النفسی الشخصی ، بادّعاء أنّ تعذّر بعض الأجزاء ممّا یتسامح فیه عرفاً ، ولایصیر القضیة المتیقّنة غیر القضیـة المشکوک فیها ، وهـذا مثل ما إذا وجب إکـرام زیـد ، ثمّ قطع بعض أعضائه ، فشککنا فی بقاء وجوبـه ؛ فلا شکّ أنّ عـدم الإکرام یعـدّ نقضاً عند العرف لما علم سابقاً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 399
وفیه : أنّ قیاس العناوین الکلّیة بالجزئیات الخارجیة قیاس مع الفارق ؛ لأنّ العنوان الکلّی إذا اُضیف إلیه جزء أو قید یعدّ مغایراً للکلّی الفاقد لهما ؛ فالإنسان العالم مباین لمطلق الإنسان ، والصلاة مع السورة غیر الصلاة بدونها ، والماء المتغیّر غیر الماء الذی لیس متغیّراً .
وأمّا الاُمور الخارجیة فتلک الزیادة والنقیصة لاتصیر مبدءً لحصول التباین بین الفاقد والواجد .
والسرّ فی ذلک : أنّ ملاک البقاء فی الموجودات الخارجیة هو بقاء الشخصیة والهذیة ، وهو حاصل لدی العرف بزیادة وصف أو ارتفاعه ، فإذا تغیّر الکرّ ثمّ ذهب تغیّره بنفسه فلا شکّ فی صحّة استصحاب نجاسته ؛ لأنّ الموضوع إنّما هو الماء ، وهو باقٍ .
وإن شئت قلت : القضیة المتیقّنة هی نجاسة ذلک الماء ، وهی عین القضیة المشکوک فیها ؛ لبقاء الهوهویة عرفاً ، وهذا بخلاف العناوین الکلّیة غیر المتحقّقة فی الخارج ؛ فإنّ ضمّ جزء أوقید به موجب لتبدّل الموضوع إلی موضوع آخر .
أضف إلی ذلک : أنّ ما یقال من أنّ تغیّر بعض الحالات لایضرّ بالاستصحاب إنّما هو فی الحالات التی علم دخالتها فی الحکم فی الجملة ، ولم یعلم کونها دخیلاً فیه حدوثاً وبقاءً ، أو حدوثاً فقط ، وإن شئت قلت : لم یعلم کونها دخیلاً علی نحو الواسطة فی العروض حتّی لایجری الاستصحاب ، أو واسطة فی الثبوت حتّی یجری ؛ فلو کان حال القید المرتفع ممّا ذکرنا فلا إشکال فی أنّه یستصحب .
وأمّا إذا علم کونه دخیلاً فی الحکم علی نحو القطع والبتّ ، إلاّ أنّه تعذّر الإتیان به فلا شکّ أنّه لایجری الاستصحاب ؛ لأنّ المفروض دخالته فی الحکم الشخصی ، ومع انتفاء جزء من أجزاء المرکّب ینتفی الحکم المتعلّق به بالضرورة ،
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 400
فلا معنی للتعبیر عنه بالشکّ فی بقاء شخص الحکم ؛ لأنّ المتیقّن مرفوع ، وغیره مشکوک الحدوث .
فإن قلت : ما الفرق بین تعذّر بعض الأجزاء وما إذا نقص مقدار من الماء الکرّ ؛ حیث یجری فی الثانی دون الأوّل ، ویعدّ المنقوص من الحالات فی الثانی دون الأوّل .
قلت : فرق واضح بینهما ؛ فإنّ دخالة المقدار المفقود فی الکرّیة مشکوک من أوّل الأمر ؛ لاحتمال کون الکرّ هو الباقی ، فإذا صدق کون هذا ذاک فلا مانع من الاستصحاب .
وأمّا المقام : فقد علمنا ببرکة أدلّة الجزء دخالته فی الحکم الشخصی من أوّل الأمر ، ومع فقدانه لایمکن القول ببقاء الحکم الشخصی الذی کان قائماً بالموضوع المرکّب . ومن المعلوم أنّ ارتفاع المرکّب بارتفاع بعض أجزائه أو کلّها ، کما أنّ ارتفاع حکمه بارتفاع موضوعه .
الثالث : استصحاب الوجوب النفسی الشخصی أیضاً ؛ بأن یقال : إنّ الأجزاء الباقیة غیر المتعذّرة کانت واجبة بالوجوب النفسی ، ونشکّ فی بقائه ؛ لاحتمال اختصاص جزئیة المتعذّر بحال التمکّن ، فیبقی وجوب الباقی بحاله .
وفیه : أنّه لا یعقل قیام الوجوب الواحد الشخصی أو الإرادة الواحدة الشخصیة بأمرین متغایرین ؛ تارة بالموضوع التامّ واُخری بالمرکّب الناقص .
والقول بأنّه من قبیل تعدّد المطلوب غیر مفید ؛ فإنّ تعدّد المطلوب یستلزم تعدّد الطلب والإرادة ، فعلی فرض تعدّد المطلوب هنا طلب مستقلّ وإرادة مستقلّة متعلّقة بالمطلوب التامّ لمن یقدر علیه ، وطلب مستقلّ وإرادة اُخری متعلّقة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 401
بالمطلوب الناقص لمن لایقدر علی التامّ منه ، ولایعقل بقاء الطلب المتعلّق بالتامّ مع فقد جزئه ؛ فلا مجال لاستصحاب الحکم الشخصی .
الرابع : استصحاب الحکم الشخصی النفسی أیضاً بأن یقال : إنّ الوجـوب وإن کان أمراً واحداً إلاّ أنّه ینبسط علی الأجزاء حسب کثرتها وتعدّدها ، فالأمر المتعلّق بالأجزاء له نحو انبساط علی الأجزاء ، ولأجل هذا الانبساط یکون کلّ واحد من الأجزاء واجباً بعین الوجوب المتعلّق بالمرکّب . فإذا زال انبساطه عن الجزء المتعذّر یشکّ فی زواله عن الأجزاء الباقیة ؛ فیستصحب بلا مسامحة فی الموضوع ولا فی المستصحب .
قلت : قد عرفت ما هو الحقّ فی المقام عند البحث عن الأقلّ والأکثر ، وقد أوضحنا هناک : أنّ متعلّق الأمر الواحد والإرادة الواحدة لیس إلاّ أمراً وحدانیاً ، وأنّ الأجزاء بنعت الکثرة لایعقل أن تقع مصبّاً للطلب الواحد ، إلاّ أن یصیر الواحد کثیراً أو الکثیر واحداً ، وکلاهما خلف .
بل المتعلّق للبعث الواحد إنّما هی نفس الأجزاء فی لحاظ الوحدة والإجمال ، وفی حالة اضمحلالها وفنائها فی صورتها الوحدانیة . لابمعنی کون الأجزاء من قبیل المحصّلات لما هو متعلّق الأمر ، بل الأجزاء عین المرکّب لکن فی حالة التفصیل ، کما أنّ المرکّب عین الأجزاء لکن فی لباس الوحدة وصورة الإجمال . فتعلّق إرادة أو بعث بالمرکّب لیس من قبیل تعلّق الواحد بالکثیر ، بل من قبیل تعلّق واحد بواحد .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 402
وعلیه : فالقول بانبساط الإرادة أو البعث الوحدانی علی موضوعهما ممّا لا محصّل له ؛ لأنّ المتعلّق ـ بالفتح ـ کالمتعلِّق لیس إلاّ أمراً وحدانیاً ؛ وإن کانت ذات أجزاء عند التحلیل ولحاظه تفصیلاً .
ومعه لایصحّ أن یقال : إنّه قد علم زوال انبساطه عن المتعذّر وشکّ فی زواله عن غیره ؛ إذ کلّ ذلک فرع أن یکون المتعلّق ذات أبعاض وأجزاء عند تعلّق الأمر ، والمفروض أنّ الأمر لایتعلّق بالکثیر بما هو کثیر ، ما لم یتّخذ لنفسه صورة وحدانیة یضمحلّ فیها الکثرات والأبعاض والأجزاء . ومع الاضمحلال لامجال للتفوّه بالانبساط . وبذلک یبطل القول بالعلم بارتفاع الوجوب عن جزء ، والشکّ فی ارتفاعه عن الأجزاء الباقیة .
أضف إلی ذلک : أنّه لو سلّمنا کون الوجوب منبسطاً علی المرکّب ـ انبساط العرض علی موضوعه ـ لکن الوجوب المتعلّق علی الأجزاء تابع لوجوب المرکّب ، والمفروض : أنّ الوجوب المتعلّق به أمر واحد شخصی ینتفی بانتفاء بعض أجزائه ، وبانتفائه ینتفی الوجوب الضمنی التبعی المتعلّق بالأجزاء ، فلا یصیر من قبیل الشکّ فی البقاء ، کما لایخفی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 403