التحقیق فی الجواب وذکر أجوبة القوم
قلت : وقد أجاب القوم عن الإشکال بوجوه لا بأس بالإشارة إلیها ، مع بیان ما هو المختار من الجواب عندنا ، فنقول :
الأوّل : ما ذکره سیدنا الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ سابقاً : وهو مبنی علی مسلک القوم من أنّ النسیان مانع عن فعلیة التکلیف بالجزء المنسی ، والمختار عندنا
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 346
غیره ؛ وأنّه کالعجز والجهل مانع عن التنجیز لا عن الفعلیة إنّ جریان البراءة لایتوقّف علی اختصاص الناسی والساهی بالخطاب ، بل یکفی فی ذلک الخطابات العامّة القانونیة من قوله تعالی : «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَیْلِ» والخطابات الواردة علی العناوین العامّة ؛ من قوله تعالی : «یا أ یّها الذین آمنوا» ، أو «یا أ یّها الناس افعلوا کذا وکذا» .
ضرورة أنّ الغرض من الخطاب هو بعث المکلّف نحو العمل ، وهذه الخطابات کافیة فی البعث نحو العمل ، غیر أنّ العالم والعامد یبعث منه إلی المرکّب التامّ ، والساهی والغافل عن الجزء إلی المرکّب الناقص ؛ لأنّ المفروض هو سقوط التکلیف بالجزء عن الناسی ، وأنّه فرق بینه وبین غیره فی تعلّق التکلیف ، فیکون اختصاصه بالخطاب مع حصول الغرض بتلک الخطابات لغواً .
وإذا فرض أنّ الصلاة التامّة ذات مصلحة فی حقّ الذاکر ، والصلاة الناقصة ذات مصلحة وذات ملاک بالنسبة إلی غیره ، والمفروض ـ کما عرفت ـ وجود خطاب واحد باعث لهما نحو المطلوب القائم به الملاک ، یکون المقام ـ حینئذٍ ـ من صغریات الأقلّ والأکثر إذا أتی الناسی بالمرکّب ثمّ تنبّه ؛ لأنّ الناسی بعد ما أتی بالمرکّب الناقص ووقف علی الجزء المنسی یشکّ فی أنّ الجزء المنسی هل کان له اقتضاء بالنسبة إلیه فی حال النسیان حتّی یحتاج إلی الإعادة أو لا اقتضاء له ؛ فتجری فی حقّه البراءة ، بعین ما قدّمناه فی الأقلّ والأکثر ، من غیر فرق بین النسیان المستوعب وغیره ؛ لأنّ الأمر الداعی إلی المرکّب داعٍ بعین تلک الدعوة إلی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 347
الأجزاء ، والمفروض أنّ الأجزاء التی کان الأمر بالمرکّب داعیاً إلیها قد أتی بها الناسی ، وبعد الإتیان بها یشکّ فی أنّ الأمر هل له دعوة اُخری إلی إتیانها ثانیاً حتّی یکون داعیاً إلی إتیان الجزء المنسی أیضاً أولا ؟ ومع الشکّ فالأصل البراءة .
هذا ما أفاده ـ دام ظلّه ـ فی الدورة السابقة ، وقد أوضحه ـ دام ظلّه ـ فی الدورة اللاحقة بما هذا مثاله :
إنّ من الممکن أن یکون الغرض المطلوب فی حقّ الذاکر قائماً بالصلاة التامّة ، وفی حقّ الناسی بالناقصة منها ، وهذا أمر ممکن لیس بمستحیل ثبوتاً . ولک أن تقول : إنّ الصلاة التامّة فی حقّ الذاکر ما یأتی به من الأجزاء ، کما أنّ الصلاة التامّة للناسی هی الأجزاء ما عدا المنسی . فکلّ منهما صلاة تامّة فی حالتین .
ثمّ إنّ الأمر المتعلّق بالمرکّب داعٍ کلّ فریق من العامد والذاکر والساهی والغافل إلی العنوان الذی تعلّق به الأمر ، ومقتضی الإرادة الاستعمالیة کون المأمور به أمراً واحداً فی حقّ الجمیع ، غیر مختلف من حیث الکیفیة والکمّیة .
إلاّ أنّه لمّا کانت الجدّیة علی خلافها ، وکان الناسی فی اُفق الإرادة الجدّیة محکوماً بما عدا المنسی وجب علی المولی توضیح ما هو الواجب فی حقّ الناسی بدلیل عقلی أو نقلی ، وتخصیص جزئیة المنسی بحال الذکر ـ کما هو الحال فی سائر المواضع ، فحینئذٍ ینحصر داعویة الأمر المتعلّق بالمرکّب إلی ما عدا المنسی ، من دون حاجة إلی الأمرین ، مع حصول الغرض بأمر واحد .
وبالجملة : ما ذکرناه أمر ممکن یکفی فی رفع الاستحالة التی ادّعاه الشیخ الأعظم رحمه الله . فعلی هذا فلو فرض أنّ المکلّف الناسی أتی بما عدا المنسی ثمّ تذکّر
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 348
یشکّ بعد ذکره فی داعویة الأمر المتعلّق بالمرکّب إلی الأجزاء التامّة ثانیاً ، والأصل یقتضی البراءة .
هذا کلّه علی مبانی القوم ، وأمّا إذا قلنا بأنّ النسیان والغفلة کالجهل والعجز أعذار عقلیة ، مع بقاء التکلیف علی ما کان علیه ، فمع ترک الجزء نسیاناً یجب الإعادة إذا کان لدلیل الجزء إطلاق ؛ لعدم الإتیان بالمأمور به بجمیع أجزائه ، ومع عدم الإطلاق فالبراءة محکّمة ؛ لرجوع الشکّ إلی الأقلّ والأکثر .
الثانی : الالتزام بعدم الخطاب أصلاً ؛ لا بالتامّ ـ لأنّه غیر قادر بالنسبة إلیه ـ ولا بالناقص المأتی به ـ لأنّه غیر قابل بالخطاب ـ فتوجیه الخطاب إلیه لغو محض .
ثمّ إنّه إذا ارتفع النسیان یشکّ الناسی فی أنّه هل صار مکلّفاً بالإتیان بالمرکّب التامّ أولا ؛ لاحتمال وفاء الناقص بمصلحة التامّ ، ومع الشکّ فالأصل البراءة . وثبوت الاقتضاء بالنسبة إلی الجزء الفائت لا دلیل علیه ، والأصل البراءة عنه ، کما هو الشأن فی الأقلّ والأکثر .
قلت : هذا الوجه وجیه علی مبانی القوم من سقوط الخطاب عن الناسی والغافل ، وأمّا علی المختار فالتکلیف باقٍ ؛ وإن کان الساهی معذوراً ، لکنّه غیر السقوط من رأس . أضف إلی ذلک : ما عرفت من إمکان بعثه إلی الناقص ، کما تقدّم .
الثالث : ما نقله بعض أعاظم العصر رحمه الله عن تقریرات بعض الأجلّة لبحث الشیخ الأعظم من إمکان أخذ الناسی عنواناً للمکلّف ؛ وتکلیفه بما عدا الجزء المنسی . وحاصله : أنّ المانع من ذلک لیس إلاّ توهّم کون الناسی لا یلتفت إلی نسیانه فی ذلک الحال ، فلا یمکنه امتثال الأمر ؛ لأنّه فرع الالتفات إلی ما اُخذ عنواناً
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 349
للمکلّف . ولکنّه مدفوع : بأنّ امتثال الأمر لایتوقّف علی الالتفات إلی ما اُخذ عنواناً له بخصوصه ، بل یمکن الامتثال بالالتفات إلی ما ینطبق علیه ؛ ولو کان من باب الخطأ فی التطبیق ، فیقصد الأمر المتوجّه إلیه بالعنوان الآخر . فالناسی للجزء یقصد الأمر الواقعی له ؛ وإن أخطأ فی تطبیق أمر الذاکر علیه .
وأورد علیه بعد نقله : بأنّه یعتبر فی صحّة البعث والطلب أن یکون قابلاً للانبعاث عنه ؛ بحیث یمکن أن یصیر داعیاً لانقداح الإرادة وحرکة العضلات نحو المأمور به ؛ ولو فی الجملة . وهذا التکلیف الذی یکون دائماً فی الخطأ فی التطبیق لایمکن أن یکون داعیاً أصلاً ، فهو لغو .
ولا یقاس هذا بأمر الأداء والقضاء ؛ لأنّ الخطأ فی التطبیق فیهما قد یتّفق ، بخلاف المقام .
ویرد علی المورد : أنّه بعد تصدیق کون الأمر الواقعی المتعلّق بالناسی بعنوان أنّه ناسٍ محرّکاً واقعاً ، وإنّما وقع الخطأ فی تطبیق عنوان أمر الذاکر علی الناسی لامجال للإشکال ؛ لأنّ المفروض أنّ المحرّک للناسی دائماً إنّما هو الأمر الواقعی المتعلّق به ، لا الأمر المتوجّه إلی الذاکر .
نعم ، یرد علی المجیب : أنّ هذا الأمر غیر محرّک أصلاً ؛ لأنّ البعث فرع الوصول ، وهو بعد لم یصل ، بل المحرّک له هو أمر الذاکر ؛ لتوهّمه أنّه ذاکر .
والشاهد علیه : أنّ الناسی منبعث نحو المأمور به ؛ سواء کان للناسی خطاب یخصّه أو لا .
فدعوی : أنّ الأمر الواقعی المتوجّه إلی الناسی محرّک له واقعاً ـ وإن کان الخطأ فی التطبیق ـ ممنوعة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 350
الرابع : ما ذکره المحقّق الخراسانی ، واختاره بعض أعاظم العصر رحمه الله ، وهو : أنّ المأمور به فی حقّ الذاکر والناسی إنّما هو ما عدا المنسی ، غیر أنّ الذاکر یختصّ بخطاب یخصّه بالجزء المنسی ، والمحذور فی تخصیص الناسی بالخطاب لا الذاکر .
وفیه : أنّه لاداعی للخطابین بعد انبعاث الفریقین من الخطاب الواحد ، علی ما تقدّم توضیحه .
هذه جملة ما قیل من الأجوبة فی رفع الإشکال وتصحیح جریان البراءة فی المقام . فعلی هذه الوجوه : إنّ الأصل العقلی فی الجزء المنسی یقتضی البراءة إذا لم یکن لدلیل الجزء إطلاق .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 351