المقصد السابع فی الاُصول العملیة

التحقیق فی الجواب وذکر أجوبة القوم

التحقیق فی الجواب وذکر أجوبة القوم

‏ ‏

قلت :‏ وقد أجاب القوم عن الإشکال بوجوه لا بأس بالإشارة إلیها ، مع بیان‏‎ ‎‏ما هو المختار من الجواب عندنا ، فنقول :‏

الأوّل :‏ ما ذکره سیدنا الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ سابقاً : وهو مبنی علی مسلک‏‎ ‎‏القوم من أنّ النسیان مانع عن فعلیة التکلیف بالجزء المنسی‏‎[1]‎‏ ، والمختار عندنا‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 346
‏غیره ؛ وأنّه کالعجز والجهل مانع عن التنجیز لا عن الفعلیة‏‎[2]‎‏ إنّ جریان البراءة‏‎ ‎‏لایتوقّف علی اختصاص الناسی والساهی بالخطاب ، بل یکفی فی ذلک الخطابات‏‎ ‎‏العامّة القانونیة من قوله تعالی : ‏‏«‏أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَیْلِ‏»‏‎[3]‎‏ ‏‎ ‎‏والخطابات الواردة علی العناوین العامّة ؛ من قوله تعالی : «یا أ یّها الذین آمنوا» ، أو‏‎ ‎‏«یا أ یّها الناس افعلوا کذا وکذا» .‏

‏ضرورة أنّ الغرض من الخطاب هو بعث المکلّف نحو العمل ، وهذه‏‎ ‎‏الخطابات کافیة فی البعث نحو العمل ، غیر أنّ العالم والعامد یبعث منه إلی المرکّب‏‎ ‎‏التامّ ، والساهی والغافل عن الجزء إلی المرکّب الناقص ؛ لأنّ المفروض هو سقوط‏‎ ‎‏التکلیف بالجزء عن الناسی ، وأنّه فرق بینه وبین غیره فی تعلّق التکلیف ، فیکون‏‎ ‎‏اختصاصه بالخطاب مع حصول الغرض بتلک الخطابات لغواً .‏

وإذا فرض‏ أنّ الصلاة التامّة ذات مصلحة فی حقّ الذاکر ، والصلاة الناقصة‏‎ ‎‏ذات مصلحة وذات ملاک بالنسبة إلی غیره ، والمفروض ـ کما عرفت ـ وجود‏‎ ‎‏خطاب واحد باعث لهما نحو المطلوب القائم به الملاک ، یکون المقام ـ حینئذٍ ـ من‏‎ ‎‏صغریات الأقلّ والأکثر إذا أتی الناسی بالمرکّب ثمّ تنبّه ؛ لأنّ الناسی بعد ما أتی‏‎ ‎‏بالمرکّب الناقص ووقف علی الجزء المنسی یشکّ فی أنّ الجزء المنسی هل کان له‏‎ ‎‏اقتضاء بالنسبة إلیه فی حال النسیان حتّی یحتاج إلی الإعادة أو لا اقتضاء له ؛‏‎ ‎‏فتجری فی حقّه البراءة ، بعین ما قدّمناه فی الأقلّ والأکثر‏‎[4]‎‏ ، من غیر فرق بین‏‎ ‎‏النسیان المستوعب وغیره ؛ لأنّ الأمر الداعی إلی المرکّب داعٍ بعین تلک الدعوة إلی‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 347
‏الأجزاء ، والمفروض أنّ الأجزاء التی کان الأمر بالمرکّب داعیاً إلیها قد أتی بها‏‎ ‎‏الناسی ، وبعد الإتیان بها یشکّ فی أنّ الأمر هل له دعوة اُخری إلی إتیانها ثانیاً حتّی‏‎ ‎‏یکون داعیاً إلی إتیان الجزء المنسی أیضاً أولا ؟ ومع الشکّ فالأصل البراءة‏‎[5]‎‏ .‏

‏هذا ما أفاده ـ دام ظلّه ـ فی الدورة السابقة ، وقد أوضحه ـ دام ظلّه ـ فی‏‎ ‎‏الدورة اللاحقة بما هذا مثاله :‏

‏إنّ من الممکن أن یکون الغرض المطلوب فی حقّ الذاکر قائماً بالصلاة‏‎ ‎‏التامّة ، وفی حقّ الناسی بالناقصة منها ، وهذا أمر ممکن لیس بمستحیل ثبوتاً . ولک‏‎ ‎‏أن تقول : إنّ الصلاة التامّة فی حقّ الذاکر ما یأتی به من الأجزاء ، کما أنّ الصلاة‏‎ ‎‏التامّة للناسی هی الأجزاء ما عدا المنسی . فکلّ منهما صلاة تامّة فی حالتین .‏

‏ثمّ إنّ الأمر المتعلّق بالمرکّب داعٍ کلّ فریق من العامد والذاکر والساهی‏‎ ‎‏والغافل إلی العنوان الذی تعلّق به الأمر ، ومقتضی الإرادة الاستعمالیة کون المأمور‏‎ ‎‏به أمراً واحداً فی حقّ الجمیع ، غیر مختلف من حیث الکیفیة والکمّیة .‏

‏إلاّ أنّه لمّا کانت الجدّیة علی خلافها ، وکان الناسی فی اُفق الإرادة الجدّیة‏‎ ‎‏محکوماً بما عدا المنسی وجب علی المولی توضیح ما هو الواجب فی حقّ الناسی‏‎ ‎‏بدلیل عقلی أو نقلی ، وتخصیص جزئیة المنسی بحال الذکر ـ کما هو الحال فی‏‎ ‎‏سائر المواضع ، فحینئذٍ ینحصر داعویة الأمر المتعلّق بالمرکّب إلی ما عدا المنسی ،‏‎ ‎‏من دون حاجة إلی الأمرین ، مع حصول الغرض بأمر واحد .‏

وبالجملة :‏ ما ذکرناه أمر ممکن یکفی فی رفع الاستحالة التی ادّعاه الشیخ‏‎ ‎‏الأعظم ‏‏رحمه الله‏‏ . فعلی هذا فلو فرض أنّ المکلّف الناسی أتی بما عدا المنسی ثمّ تذکّر‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 348
‏یشکّ بعد ذکره فی داعویة الأمر المتعلّق بالمرکّب إلی الأجزاء التامّة ثانیاً ، والأصل‏‎ ‎‏یقتضی البراءة .‏

‏هذا کلّه علی مبانی القوم ، وأمّا إذا قلنا بأنّ النسیان والغفلة کالجهل والعجز‏‎ ‎‏أعذار عقلیة ، مع بقاء التکلیف علی ما کان علیه ، فمع ترک الجزء نسیاناً یجب‏‎ ‎‏الإعادة إذا کان لدلیل الجزء إطلاق ؛ لعدم الإتیان بالمأمور به بجمیع أجزائه ، ومع‏‎ ‎‏عدم الإطلاق فالبراءة محکّمة ؛ لرجوع الشکّ إلی الأقلّ والأکثر .‏

الثانی :‏ الالتزام بعدم الخطاب أصلاً ؛ لا بالتامّ ـ لأنّه غیر قادر بالنسبة إلیه ـ‏‎ ‎‏ولا بالناقص المأتی به ـ لأنّه غیر قابل بالخطاب ـ فتوجیه الخطاب إلیه لغو محض .‏

‏ثمّ إنّه إذا ارتفع النسیان یشکّ الناسی فی أنّه هل صار مکلّفاً بالإتیان‏‎ ‎‏بالمرکّب التامّ أولا ؛ لاحتمال وفاء الناقص بمصلحة التامّ ، ومع الشکّ فالأصل‏‎ ‎‏البراءة . وثبوت الاقتضاء بالنسبة إلی الجزء الفائت لا دلیل علیه ، والأصل البراءة‏‎ ‎‏عنه ، کما هو الشأن فی الأقلّ والأکثر‏‎[6]‎‏ .‏

قلت :‏ هذا الوجه وجیه علی مبانی القوم من سقوط الخطاب عن الناسی‏‎ ‎‏والغافل ، وأمّا علی المختار فالتکلیف باقٍ ؛ وإن کان الساهی معذوراً ، لکنّه غیر‏‎ ‎‏السقوط من رأس . أضف إلی ذلک : ما عرفت من إمکان بعثه إلی الناقص ، کما تقدّم .‏

الثالث :‏ ما نقله بعض أعاظم العصر ‏‏رحمه الله‏‏ عن تقریرات بعض الأجلّة لبحث‏‎ ‎‏الشیخ الأعظم من إمکان أخذ الناسی عنواناً للمکلّف ؛ وتکلیفه بما عدا الجزء‏‎ ‎‏المنسی . وحاصله : أنّ المانع من ذلک لیس إلاّ توهّم کون الناسی لا یلتفت إلی‏‎ ‎‏نسیانه فی ذلک الحال ، فلا یمکنه امتثال الأمر ؛ لأنّه فرع الالتفات إلی ما اُخذ عنواناً‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 349
‏للمکلّف . ولکنّه مدفوع : بأنّ امتثال الأمر لایتوقّف علی الالتفات إلی ما اُخذ عنواناً‏‎ ‎‏له بخصوصه ، بل یمکن الامتثال بالالتفات إلی ما ینطبق علیه ؛ ولو کان من باب‏‎ ‎‏الخطأ فی التطبیق ، فیقصد الأمر المتوجّه إلیه بالعنوان الآخر . فالناسی للجزء یقصد‏‎ ‎‏الأمر الواقعی له ؛ وإن أخطأ فی تطبیق أمر الذاکر علیه .‏

‏وأورد علیه بعد نقله : بأنّه یعتبر فی صحّة البعث والطلب أن یکون قابلاً‏‎ ‎‏للانبعاث عنه ؛ بحیث یمکن أن یصیر داعیاً لانقداح الإرادة وحرکة العضلات نحو‏‎ ‎‏المأمور به ؛ ولو فی الجملة . وهذا التکلیف الذی یکون دائماً فی الخطأ فی التطبیق‏‎ ‎‏لایمکن أن یکون داعیاً أصلاً ، فهو لغو .‏

‏ولا یقاس هذا بأمر الأداء والقضاء ؛ لأنّ الخطأ فی التطبیق فیهما قد یتّفق ،‏‎ ‎‏بخلاف المقام‏‎[7]‎‏ .‏

ویرد علی المورد :‏ أنّه بعد تصدیق کون الأمر الواقعی المتعلّق بالناسی بعنوان‏‎ ‎‏أنّه ناسٍ محرّکاً واقعاً ، وإنّما وقع الخطأ فی تطبیق عنوان أمر الذاکر علی الناسی‏‎ ‎‏لامجال للإشکال ؛ لأنّ المفروض أنّ المحرّک للناسی دائماً إنّما هو الأمر الواقعی‏‎ ‎‏المتعلّق به ، لا الأمر المتوجّه إلی الذاکر .‏

نعم ، یرد علی المجیب :‏ أنّ هذا الأمر غیر محرّک أصلاً ؛ لأنّ البعث فرع‏‎ ‎‏الوصول ، وهو بعد لم یصل ، بل المحرّک له هو أمر الذاکر ؛ لتوهّمه أنّه ذاکر .‏

‏والشاهد علیه : أنّ الناسی منبعث نحو المأمور به ؛ سواء کان للناسی خطاب‏‎ ‎‏یخصّه أو لا .‏

‏فدعوی : أنّ الأمر الواقعی المتوجّه إلی الناسی محرّک له واقعاً ـ وإن کان‏‎ ‎‏الخطأ فی التطبیق ـ ممنوعة .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 350
الرابع :‏ ما ذکره المحقّق الخراسانی‏‎[8]‎‏ ، واختاره بعض أعاظم العصر ‏‏رحمه الله‏‏ ، وهو :‏‎ ‎‏أنّ المأمور به فی حقّ الذاکر والناسی إنّما هو ما عدا المنسی ، غیر أنّ الذاکر یختصّ‏‎ ‎‏بخطاب یخصّه بالجزء المنسی ، والمحذور فی تخصیص الناسی بالخطاب لا الذاکر‏‎[9]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّه لاداعی للخطابین بعد انبعاث الفریقین من الخطاب الواحد ، علی‏‎ ‎‏ما تقدّم توضیحه‏‎[10]‎‏ .‏

هذه جملة ما قیل‏ من الأجوبة فی رفع الإشکال وتصحیح جریان البراءة فی‏‎ ‎‏المقام . فعلی هذه الوجوه : إنّ الأصل العقلی فی الجزء المنسی یقتضی البراءة إذا لم‏‎ ‎‏یکن لدلیل الجزء إطلاق .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 351

  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25 : 363 ، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 4 : 210 ، نهایة الأفکار 3 : 419 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 228 ـ 231 .
  • )) الإسراء (17) : 78 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 291 ـ 297 .
  • )) أنوار الهدایة 2 : 336 ـ 338 .
  • )) اُنظر درر الفوائد ، المحقّق الحائری : 491 ـ 492 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 4 : 211 ـ 212 .
  • )) کفایة الاُصول : 418 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 4 : 213 ـ 214 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 346 ـ 348 .