المقصد السابع فی الاُصول العملیة

المطلب الثالث فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر فی الأسباب والمحصّلات

المطلب الثالث فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر فی الأسباب والمحصّلات

‏ ‏

‏وهی تنقسم إلی عقلیة وعادیة وشرعیة :‏

‏أمّا الأوّلتین : فمرکز البحث فیهما ما إذا تعلّق الأمر بمفهوم مبیّن ، وکان له‏‎ ‎‏سبب عقلی أو عادی ، ودار أمر السبب بین الأقلّ والأکثر ، کما لو أمر بالقتل وتردّد‏‎ ‎‏سببه بین ضربة وضربتین ، وأمر بتنظیف البیت ودار أمره بین کنسه ورشّه أو کنسه‏‎ ‎‏فقط ، ومثله ما لو شکّ فی اشتراط السبب بکیفیة خاصّة من تقدیم أجزاء علی‏‎ ‎‏اُخری ، هذا هو محطّ البحث . فلا إشکال فی عدم جریان البراءة ؛ لأنّ المأمور به‏‎ ‎‏مبیّن وغیر دائـر بین الأقلّ والأکثر ، وما هو دائر بینهما فهو غیر مأمور به ، والشکّ‏‎ ‎‏بعد فی حصول المأمـور به وسقوطه ، وقـد قامت الحجّة علی الشیء المبیّن ، فلابدّ‏‎ ‎‏مـن العلم بالخـروج عن عهدته .‏

ویظهر من بعض محقّقی العصر :‏ التفصیل بین کون المسبّب ذا مراتب ومن‏‎ ‎‏البسائط التدریجیة فتجری البراءة ، وبین غیره ؛ حیث قال :‏

‏لو کان العنوان البسیط متدرّج الحصول من قِبل علّته ؛ بأن یکون کلّ جزء من‏‎ ‎‏أجزاء علّته مؤثّراً فی تحقّق مرتبة منه ، إلی أن یتمّ المرکّب فیتحقّق تلک المرتبة‏‎ ‎‏الخاصّة التی هی منشأ للآثار ، نظیر مرتبة خاصّة من النور الحاصلة من عدّة شموع .‏‎ ‎‏ومنه باب الطهارة ؛ لقوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«فما جری علیه الماء فقد طهر»‎[1]‎‏ ، وقوله ‏‏علیه السلام‏‏ :‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 325
«وکلّ شیء أمسسته الماء فقد انقیته»‎[2]‎‏ ، فلا قصور عن جریان البراءة عند دوران‏‎ ‎‏الأمر فی المحقّق ـ بالکسر ـ بین الأقلّ والأکثر ؛ فإنّ مرجع الشکّ ـ بعد فرض‏‎ ‎‏تسلیم سعة الأمر البسیط فی ازدیاد أجزاء محقّقه ـ إلی الشکّ فی سعة ذلک الأمر‏‎ ‎‏البسیط وضیقه ، فینتهی الأمر إلی الأقلّ والأکثر فی نفس الأمر البسیط ، فتجری‏‎ ‎‏البراءة ، وهذا بخلاف ما لو کان دفعی الحصول فلا محیص عن الاحتیاط‏‎[3]‎‏ .‏

قلت :‏ ما ذکره غیر صحیح علی فرض ، وخارج عن محطّ البحث علی فرض‏‎ ‎‏آخر ؛ لأنّه لو کان الشکّ فی أنّ الواجب هل هو غَسل جمیع الأجزاء أو یکفی‏‎ ‎‏الغالب ولا یضرّ النادر فللقول بجریان البراءة مجال ، ولکنّه خارج عن البحث ؛ لأنّ‏‎ ‎‏مآل البحث حینئذٍ إلی الأقلّ والأکثر فی نفس المأمور به .‏

‏وأمّا إذا قلنا بأنّ الواجب هو تحصیل الطهور ، ولکن وقع الشکّ فی أنّ السبب‏‎ ‎‏هل هو نفس الغسل أو هو مع اشتراط تقدیم بعض الأجزاء ـ کالرأس علی غیره ـ‏‎ ‎‏فلا محیص عن الاحتیاط ؛ وإن کان المسبّب تدریجی الحصول .‏

‏فلو علمنا باشتراط صلاة الظهر بالطهارة ، وشککنا فی حصوله بالغسلتین‏‎ ‎‏والمسحتین مطلقاً أو مع شرط وکیفیة خاصّة ، ودار الأمر فی المحصّل ـ بالکسر ـ‏‎ ‎‏بین الأقلّ والأکثر فلا إشکال فی عدم جریان البراءة ، من غیر فرق بین کون العنوان‏‎ ‎‏البسیط الذی هو المأمور به ذا مراتب متفاوتة متدرّج الحصول ، أو کونه دفعی‏‎ ‎‏الحصول .‏

‏ولو علمنا بوجوب الطهور ، وشککنا فی أنّ الحقیقة المتدرّجة الوجود هل‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 326
‏یحصل بمطلق الغسل أو بشرط آخر ـ کقصد الوجه مثلاً ـ أو غیره لزم الاحتیاط .‏

وبالجملة :‏ فهذا التفصیل لا طائل تحته .‏

وإلیک تفصیلاً آخر‏ ذکره ذلک المحقّق فی کلامه ؛ وهو التفصیل بین کون العلم‏‎ ‎‏مقتضیاً قابلاً لإجراء الاُصول فی أطراف العلم أو علّة تامّة . فعلی القول بجریان‏‎ ‎‏الاُصول فی أطراف العلم ما لم یمنع عنه مانع فیمکن أن یقال : إنّ الأمر البسیط وإن‏‎ ‎‏کان له وجود واحد إلاّ أنّ له أعداماً علی نحو العموم البدلی بانعدام کلّ واحد من‏‎ ‎‏أجزاء سببه .‏

‏وعلیه : فبما أنّ الأمر بالشیء مقتضٍ عن النهی عن ضدّه العامّ ـ أعنی ترک‏‎ ‎‏المأمور به وإعدامه بإعدام سببه ـ فحینئذٍ ترک المأمور به عن قِبل ترک الأقلّ ممّا‏‎ ‎‏یعلم تفصیلاً حرمته ، وعلم استحقاق العقوبة علیه .‏

‏وأمّا ترکه الناشئ من ترک المشکوک جزئیته فلم یعلم حرمته ؛ لعدم العلم‏‎ ‎‏بإفضاء ترکه إلی ترکه . هذا ، وقد أجاب عنه بما هو مذکور فی کلامه‏‎[4]‎‏ .‏

أقول : یرد علیه أوّلاً :‏ أنّه لو کان المأمور به بالذات مردّداً بین عنوانین‏‎ ‎‏ـ کالظهر والجمعة ـ فعلی القول باقتضائیة العلم یمکن للشارع أن یکتفی بأحدهما‏‎ ‎‏فی مقام الامتثال .‏

‏وأمّا إذا کان المأمور به معلوم العنوان مبیّن المفهوم ، وقد تعلّق الأمر به ،‏‎ ‎‏وقامت الحجّة علی لزوم إتیانه فالمأمور به معلوم تفصیلاً . ولا یمکن الترخیص فی‏‎ ‎‏العلم التفصیلی ؛ وإن کان محصّله مردّداً بین الأقلّ والأکثر .‏

‏والحاصل : لیس المقام من قبیل العلم الإجمالی فی المأمور به حتّی یأتی فیه‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 327
‏ما ذکر . والعلم الإجمالی فی المحصّل ـ بالکسر ـ عین الشکّ فی البراءة ، لا الشکّ‏‎ ‎‏فی مقدار الاشتغال .‏

وثانیاً :‏ أنّ هنا علماً واحداً تفصیلیاً بحرمة ترک المأمور به المعلوم ، من غیر‏‎ ‎‏تردید ، ومن أیّ طریق حصل ترک المأمور به ؛ أی سواء حصل بترک الأقلّ أو‏‎ ‎‏الأکثر .‏

‏فحینئذٍ : فالقول بأنّ حرمة ترکه من قِبل ترک الأقلّ ، وأمّا من قبل ترک الأکثر‏‎ ‎‏فمشکوک أشبه شیء بالشعر ؛ فإنّ حرمة ترک المأمور به معلوم مطلقاً ؛ من أیّ سبب‏‎ ‎‏حصل ؛ سواء حصل بترک الأقلّ أو الأکثر . ومعه کیف یقال : من أنّ حرمة ترکه من‏‎ ‎‏ناحیة الأکثر مشکوک ؟ فإنّ العلم بحرمة ترکه مطلقاً یوجب سدّ باب جمیع الأعدام‏‎ ‎‏المتیقّنة أو المحتملة .‏

وثالثاً :‏ أنّ هنا حجّة واحدة ؛ وهو الأمر الصادر من المولی القائم علی‏‎ ‎‏وجوب المأمور به ، وأمّا النهی عن ترک المأمور به ـ فعلی فرض صحّة هذا النهی ،‏‎ ‎‏وعدم کونه عبثاً ولغواً ـ فهو حجّة عقلیة ، ینتقل إلیه العقل بعد التفطّن بالملازمة بین‏‎ ‎‏الأمر بالشیء والنهی عن ترکه ، ولکن الحجّة العقلیة تابعة فی السعة والضیق للأمر‏‎ ‎‏المولوی ، ولایمکن أن یکون أوسع منه .‏

‏فلو کان لازم أمر المولی هو سدّ جمیع أبواب الأعدام ـ من قطعیاتها‏‎ ‎‏ومحتملاتها ـ فلا یمکن أن یکون مفاد الحجّة العقلیة مجوّز إعدامه من جانب‏‎ ‎‏واحد ؛ وهو ترک الأکثر .‏

ورابعاً :‏ لو سلّمنا انحلال النهی عن ترک المأمور به إلی نهی مقطوع‏‎ ‎‏ومشکوک ، فلا یوجب ذلک انحلال الدلیل المولوی القائم علی وجوب الأمر المبیّن‏‎ ‎‏إلی ذلک ؛ لأنّ إجراء البراءة فی النواهی المتعدّدة المنحلّة لایوجب جریانها فی الأمر‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 328
‏الواحد المتعلّق بالمفهوم الواحد المبیّن ؛ فإنّ غایة القول بالانحلال لا یزید عن إنکار‏‎ ‎‏اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ترک العامّ ، ومعه لامحیص عن الخروج عن‏‎ ‎‏الاشتغال القطعی .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 329

  • )) الکافی 3 : 43 / 1 ، وسائل الشیعة 2 : 229 ، کتاب الطهارة ، أبواب الجنابة ، الباب 26 ، الحدیث 1 .
  • )) تهذیب الأحکام 1 : 148 / 422 ، وسائل الشیعة 2 : 230 ، کتاب الطهارة ، أبواب الجنابة ، الباب 26 ، الحدیث 5 .
  • )) نهایة الأفکار 3 : 401 ـ 402 .
  • )) نهایة الأفکار 3 : 402 ـ 404 .