المقصد السابع فی الاُصول العملیة

المطلب الثانی فیما إذا کان الأقلّ والأکثر من قبیل المطلق والمشروط

المطلب الثانی فیما إذا کان الأقلّ والأکثر من قبیل المطلق والمشروط

‏ ‏

‏تفصیل القول فی جریان البراءة فی الجزء المشکوک یغنینا عن إفاضة القول‏‎ ‎‏فی الشرط المشکوک ؛ فإنّ المناط فی الجزء والشرط واحد ، غیر أنّا أفردنا البحث‏‎ ‎‏عنه ؛ تبعاً للأصحاب :‏

فنقول :‏ إنّ منشأ انتزاع الشرطیة : تارة یکون أمراً مبایناً للمشروط فی‏‎ ‎‏الوجود کالطهارة فی الصلاة ، واُخری یکون أمراً متّحداً معه کالإیمان فی الرقبة .‏

‏أمّا الکلام فی الأوّل : فواضح جدّاً ؛ لأنّ داعویة الأمر إلی ذات الصلاة معلوم ؛‏‎ ‎‏سواء تعلّق الأمر بها بلا اشتراط شیء أو مع اشتراطه ، والتقیید والاشتراط ، أو القید‏‎ ‎‏والشرط مشکوک فیه ، فیجری أدلّة البراءة ؛ عقلیة کان أو شرعیة .‏

‏وأمّا الثانی ـ أعنی إذا کان منشأ الانتزاع متّحداً معه کالإیمان فی الرقبة ـ‏‎ ‎‏فتجری البراءة فیه أیضاً .‏

‏وتوضیحه : أنّ متعلّق البعث والزجر إنّما هو الماهیات والعناوین دون‏‎ ‎‏المصادیق الخارجیة ، وقد أقمنا برهانه فیما سبق‏‎[1]‎‏ . وعلیه فالمدار فی دوران الأمر‏‎ ‎‏بین الأقلّ والأکثر إنّما هو ملاحظة لسان الدلیل الدالّ علی الحکم حسب الدلالة‏‎ ‎‏اللفظیة العرفیة ، لا المصادیق الخارجیة .‏

‏فلو دار متعلّق الأمر بین کونه مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة فهو من موارد‏‎ ‎‏البراءة العقلیة والشرعیة ؛ لانحلال العلم فیه ، ودورانه بین الأقلّ والأکثر ؛ لأنّ مطلق‏‎ ‎‏الرقبة وإن کان غیر موجود فی الخارج والموجود منه : إمّا الرقبة الکافرة أو‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 321
‏المؤمنة ، وهما متباینان ، إلاّ أنّ المیزان فی کون الشیء من قبیل المتباینین أو الأقلّ‏‎ ‎‏والأکثر لیس المصادیق الخارجیة ؛ لأنّ مجری البراءة هو متعلّقات الأحکام ، وهو‏‎ ‎‏العناوین المأخوذة فی لسان الدلیل ، لا المصادیق الخارجیة .‏

فحینئذٍ نقول :‏ إنّ البعث إلی طبیعة الرقبة معلوم ، وتعلّقه إلی المؤمنة مشکوک‏‎ ‎‏فیه ، فتجری البراءة علی البراهین والمقدّمات السابقة .‏

‏وعدم تحقّق الطبیعی فی الخارج إلاّ فی ضمن الفردین ـ الرقبة المؤمنة‏‎ ‎‏والرقبة الکافرة ـ لایوجب کون المقام من قبیل المتباینین ؛ فإنّ المیزان هو ما تعلّق‏‎ ‎‏البعث به ، ومن المعلوم أنّ البعث إلی الطبیعة غیر البعث إلی الطبیعة المقیّدة ، والنسبة‏‎ ‎‏بین المتعلّقین هو القلّة والکثرة ؛ وإن کان المصادیق علی غیر هذا النحو باعتبار‏‎ ‎‏العوارض .‏

‏وممّا ذکرنا یعلم حال المرکّبات التحلیلیة ؛ سواء کانت بسائط خارجیة‏‎ ‎‏کالبیاض والسواد المنحلّین إلی اللون المفرّق لنور البصر أو قابضه ، أو کالإنسان‏‎ ‎‏المنحلّ عقلاً إلی الحیوان والناطق ؛ فإنّ الجنس والفصل وإن لم یکونا من الأجزاء‏‎ ‎‏الخارجیة للمحدود ؛ لأنّهما من أجزاء الحدّ ، وإن کان مأخذهما المادّة والصورة‏‎ ‎‏بوجه یعرفه أهله . وقریب منهما بعض الأصناف والأشخاص المنحلّین فی العقل إلی‏‎ ‎‏الماهیة والعوارض المصنّفة ، وإلی الماهیة والعوارض المشخّصة .‏

‏فإذا دار أمر صبغ ثوب المولی بمطلق اللون ، أو بلون قابض لنور البصر فما‏‎ ‎‏قام علیه الحجّة یؤخذ به ، ویترک المشکوک فیه ؛ اعتماداً علی البراءة .‏

والحاصل :‏ أنّ البراءة تجری فی الجمیع علی وزان واحد ، من غیر فرق بین‏‎ ‎‏ما له منشأ انتزاع مغایر وما لیس له کذلک ؛ لأنّ الموضوع ینحلّ عند العقل إلی‏‎ ‎‏معلوم ومشکوک فیه .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 322
‏فالصلاة المشروطة بالطهارة عین ذات الصلاة فی الخارج ، کما أنّ الرقبة‏‎ ‎‏المؤمنة عین مطلقها فیه ، والإنسان عین الحیوان وهکذا ، وإنّما الافتراق فی التحلیل‏‎ ‎‏العقلی ، وهو فی الجمیع سواء ، فکما تنحلّ الصلاة المشروطة بالصلاة والاشتراط ،‏‎ ‎‏کذا ینحلّ الإنسان إلی الحیوان والناطق . ففی جریان البراءة وقیام الحجّة علی‏‎ ‎‏المتیقّن دون المشکوک لا فرق فی جمیع الموارد .‏

ثمّ إنّ بعض أهل العصر ‏رحمه الله‏‏ نفی الرجوع إلی البراءة عند التردید بین الجنس‏‎ ‎‏والنوع ؛ قائلاً بأنّهما عند التحلیل العقلی وإن کان یرجع إلی الأقلّ والأکثر إلاّ أنّهما‏‎ ‎‏فی نظر العرف من التردید بین المتباینین .‏

‏فلو دار الأمر بین إطعام الإنسان أو الحیوان فاللازم هو الاحتیاط بإطعام‏‎ ‎‏الإنسان ؛ لأنّ نسبة الرفع إلی کلّ منهما علی حدّ سواء ، فیسقطان بالمعارضة ، فلابدّ‏‎ ‎‏من العلم بالخروج من العهدة ، ولا یحصل إلاّ بإطعام خصوص الإنسان ؛ لأنّه جمع‏‎ ‎‏بین الأمرین ، وإطعامه یستلزم إطعام ذاک‏‎[2]‎‏ ، انتهی .‏

وفیه أوّلاً :‏ أنّ ما ذکره یرجع إلی المناقشة فی المثال ؛ فإنّ الإنسان والحیوان‏‎ ‎‏وإن کانا فی نظر العرف من قبیل المتباینین إلاّ أنّ الحیوان والفرس لیسا کذلک ، فلو‏‎ ‎‏دار الأمر فی الإطعام بینهما فلا مناص عن البراءة ، کما لو دار الأمر بین مطلق اللون‏‎ ‎‏واللون الأبیض ، أو مطلق الرائحة أو رائحة المسک فإنّ الجمیع من قبیل الأقلّ‏‎ ‎‏والأکثر .‏

وثانیاً :‏ لو کان الدوران بین الإنسان والحیوان دوراناً بین المتباینین فطریق‏‎ ‎‏الاحتیاط هو الجمع بینهما فی الإطعام ، لا إطعام خصوص الإنسان .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 323
‏وما ذکره من أنّ إطعامه یستلزم إطعام الحیوان أشبه شیء بالمناقضة فی‏‎ ‎‏المقال ؛ فإنّ مغزی هذا التعلیل إلی أنّهما من الأقلّ والأکثر ، کما لا یخفی .‏

وممّا ذکرنا یظهر :‏ ضعف ما أفاده المحقّق الخراسانی ‏‏رحمه الله‏‏ : من أنّ الصلاة‏‎ ‎‏ـ مثلاً ـ فی ضمن الصلاة المشروطة ، موجودة بعین وجودها ، وفی ضمن صلاة‏‎ ‎‏اُخری فاقدة لشرطها تکون مباینة للمأمور بها‏‎[3]‎‏ .‏

وجه ضعفه :‏ فإنّ فیه خلطاً واضحاً ؛ فإنّ التحقیق : أنّ الکلّی الطبیعی موجود‏‎ ‎‏فی الخارج بنعت الکثرة لا بنعت التباین ؛ فإنّ الطبیعی لمّا لم یکن فی حدّ ذاته‏‎ ‎‏واحداً ولا کثیراً فلا محالة یکون مع الواحد واحداً ومع الکثیر کثیراً .‏

‏فیکون الطبیعی موجوداً مع کلّ فرد بتمام ذاته ، ویکون متکثّراً بتکثّر الأفراد ،‏‎ ‎‏فزید إنسان وعمرو إنسان وبکر إنسان ، لا أنّهم متباینات فی الإنسانیة ، بل‏‎ ‎‏متکثّرات فیها ، وإنّما التباین من لحوق عوارض مصنّفة ومشخّصة ، کما لا یخفی .‏

‏والتباین فی الخصوصیات لایجعل الماهیة المتّحدة مع کلّ فرد وخصوصیة‏‎ ‎‏متباینة مع الاُخری ؛ فإنّ الإنسان بحکم کونه ماهیة بلا شرط شیء غیر مرهون‏‎ ‎‏بالوحدة والکثرة ، وهو مع الکثیر کثیر ؛ فهو بتمام حقیقته متّحد مع کلّ خصوصیة .‏‎ ‎‏فالإنسان متکثّر غیر متباین فی الکثرة . هذا ، ولتوضیحه مقام آخر ، فلیطلب من‏‎ ‎‏أهله ومحلّه .‏

أضف إلی ذلک :‏ أنّ کون الفردین متباینین غیر مفید أصلاً ؛ لأنّ المیزان إنّما‏‎ ‎‏هو ما وقع تحت دائرة الطلب ، وقد عرفت أنّ متعلّقه إنّما هو العناوین والماهیات ،‏‎ ‎‏ومن الواضح أنّ مطلق الصلاة أو الصلاة المشروطة بشیء من الطهارة من قبیل الأقلّ‏‎ ‎‏والأکثر ، فتدبّر .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 324

  • )) راجع الجزء الأوّل : 489 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 4 : 208 .
  • )) کفایة الاُصول : 417 .