المقصد السابع فی الاُصول العملیة

بیان اُمور لجریان البراءة العقلیة

بیان اُمور لجریان البراءة العقلیة

‏ ‏

الأوّل :‏ أنّ وزان المرکّبات الاعتباریة فی عالم الاعتبار من بعض الجهات‏‎ ‎‏وزان المرکّبات الحقیقیة فی الخارج ؛ فإنّ المرکّب الحقیقی إنّما یحصل بعد کسر‏‎ ‎‏سورة الأجزاء بواسطة التفاعل الواقع بینها ، فتخرج الأجزاء من الاستقلال لأجل‏‎ ‎‏الفعل والانفعال والکسر والانکسار ، وتتّخذ الأجزاء لنفسها صورة مستقلّة ؛ هی‏‎ ‎‏صورة المرکّب ، فلها وجود ووحدة غیر ما للأجزاء .‏

‏وأمّا المرکّب الصناعی کالبیت والمسجد ، أو الاعتباری کالقوم والفوج‏‎ ‎‏والأعمال العبادیة کلّها ، فإنّ کلّ جزء منها وإن کان باقیاً علی فعلیته بحسب‏‎ ‎‏التکوین ، ولا یکسر عن سورة الأجزاء فی الخارج شیء ، إلاّ أنّها فی عالم الاعتبار‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 291
‏لمّا کان شیئاً واحداً ووجوداً فارداً تکسر سورة الأجزاء وتخرج الأجزاء عن‏‎ ‎‏الاستقلال فی عالم الاعتبار ، وتفنی فی الصورة الحاصلة للمرکّب فی عالم‏‎ ‎‏الاعتبار .‏

‏فما لم یحصل للمرکّب الصناعی أو الاعتباری وحدة اعتباریة کصورتها‏‎ ‎‏الاعتباریة لم یکن له وجود فی ذلک اللحاظ ؛ فإنّ ما لا وحدة له لا وجود له تکویناً‏‎ ‎‏واعتباراً ، وإنّما تحصل الوحدة بذهاب فعلیة الأجزاء وحصول صورة اُخری مجملة‏‎ ‎‏غیر صورة الأجزاء المنفصلات .‏

‏والحاصل : أنّ النفس بعد ما شاهدت أنّ الغرض قائم بالهیئة الاعتباریة من‏‎ ‎‏الفوج ، وبالصورة المجتمعة من الأذکار والأفعال ینتزع عندئذٍ وحدة اعتباریة ،‏‎ ‎‏وصورة مثلها تبلع فعلیة الأجزاء وأحکامها فی عالم الاعتبار . والفرق بین الأجزاء‏‎ ‎‏والصورة المرکّبة هو الفرق بین الإجمال والتفصیل .‏

‏فتلخّص : أنّ المرکّبات الاعتباریة والصناعیة وإن کانت تفارق الحقیقیة ، إلاّ‏‎ ‎‏أنّها من جهة اشتمالها علی الصورة الصناعیة أو الاعتباریة أشبه شیء بالحقیقیة من‏‎ ‎‏المرکّبات ، والتفصیل فی محلّه .‏

الثانی :‏ أنّ صورة المرکّب الاعتباری إنّما ینتهی إلیها الآمر بعد تصوّر الأجزاء‏‎ ‎‏والشرائط علی سبیل الاستقلال ، فینتزع منها بعد تصوّرها صورة وحدانیة ، ویأمربها‏‎ ‎‏علی عکس الإتیان بها فی الخارج .‏

‏توضیحه : أنّ المولی الواقف علی أغراضه وآماله یجد من نفسه تحریکاً إلی‏‎ ‎‏محصّلاتها ، فلو کان محصّل غرضه أمراً بسیطاً یوجّه أمره إلیه ، وأمّا إذا کان مرکّباً‏‎ ‎‏فهو یتصوّر أجزائها وشرائطها ومعدّاتها وموانعها ، ویرتّبها حسب ما یقتضی‏‎ ‎‏المصلحة والملاک النفس الأمریین ، ثمّ یلاحظها علی نعت الوحدة ؛ بحیث تفنی فیها‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 292
‏الکثرات ، ثمّ یجعلها موضوعاً للحکم ومتعلّقاً للبعث والإرادة ، فینتهی الآمر من‏‎ ‎‏الکثرة إلی الوحدة غالباً .‏

‏وأمّا المأمور الآتی به خارجاً فهو ینتهی من الوحدة إلی الکثرة غالباً ؛ فإنّ‏‎ ‎‏الإنسان إذا أراد إتیان المرکّب فی الخارج وتعلّقت إرادته بإیجاده یتصوّره بنعت‏‎ ‎‏الوحدة أوّلاً ، ویجد فی نفسه شوقاً إلیه ، ولمّا رأی أنّه لا یحصل فی الخارج إلاّ‏‎ ‎‏بإتیان أجزائها وشرائطها حسب ما قرّره المولی تجد فی نفسه إرادات تبعیة متعلّقة‏‎ ‎‏بها ، فالمأمور ینتهی من الوحدة إلی الکثرة .‏

الثالث :‏ أنّ وحدة الأمر تابع لوحدة المتعلّق لاغیر ؛ لأنّ وحدة الإرادة تابع‏‎ ‎‏لوحدة المراد ؛ فإنّ تشخّصها بتشخّصه . فلا یعقل تعلّق إرادة واحدة بالاثنین بنعت‏‎ ‎‏الاثنینیة والکثرة ، فما لم یتّخذ المتعلّق لنفسها وحدة لایقع فی اُفق الإرادة الواحدة .‏‎ ‎‏والبعث الناشئ منها حکمه حکمها . فما لم یلحظ فی المبعوث إلیه وحدة اعتباریة‏‎ ‎‏فانیة فیه الکثرات لایتعلّق به البعث الوحدانی ، وإلاّ یلزم أن یکون الواحد کثیراً أو‏‎ ‎‏الکثیر واحداً .‏

‏والحاصل : أنّ الأجزاء والشرائط فی الاعتباریة من المرکّبات بما أنّها باقیة‏‎ ‎‏علی کثراتها وفعلیاتها حسب التکوین فلا یتعلّق بها الإرادة التکوینیة الوحدانیة مع‏‎ ‎‏بقاء المتعلّق علی نعت الکثرة . فلابدّ من سبک تلک الکثرات المنفصلات فی قالب‏‎ ‎‏الوحدة حتّی یقع الکلّ تحت عنوان واحد جامع لشتات المرکّب ومتفرّقاتها ، ویصحّ‏‎ ‎‏معه تعلّق الإرادة الواحدة ، ویتبعه تعلّق البعث الواحد .‏

‏وبذلک یظهر ضعف ما عن بعض محقّقی العصر من أنّ وحدة المتعلّق من‏‎ ‎‏وحدة الأمر‏‎[1]‎‏ ، فلاحظ .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 293
الرابع :‏ أنّ الصور فی المرکّبات الاعتباریة لیست أمراً مغایراً للأجزاء‏‎ ‎‏بالأسر ، بل هی عینها حقیقة ؛ إذ لیس المراد من الصورة إلاّ الأجزاء فی لحاظ‏‎ ‎‏الوحدة ، کما أنّ الأجزاء عبارة عن الاُمور المختلفة فی لحاظ الکثرة . وهذا‏‎ ‎‏لایوجب أن یکون هنا صورة وأجزاء متغایرة ، ویکون أحدهما محصِّلاً والآخر‏‎ ‎‏محصَّلاً .‏

‏وإن شئت فلاحظ العشرة ؛ فإنّها عبارة عن هذا الواحد وذاک الواحد وذلک ،‏‎ ‎‏ولیست أمراً مغایراً لتلک الوحدات ، بل هی عبارة عن هذه الکثرات فی لحاظ‏‎ ‎‏الوحدة ، والعنوان یحکی عن وحدة جمعیة بین الوحدات .‏

‏فلو لاحظت کلّ واحد من الوحدات فقد لاحظت ذات العشرة ، کما أنّک إذا‏‎ ‎‏لاحظت العنوان فقد لاحظت کلّ واحد من الوحدات بلحاظ واحد .‏

‏والفرق بینهما إنّما هو بالإجمال والتفصیل والوحدة والکثرة ، فالعنوان مجمل‏‎ ‎‏هذه الکثرات ومعصورها ، کما أنّ الأجزاء مفصّل ذلک العنوان ؛ ضرورة أنّ ضمّ‏‎ ‎‏موجود إلی موجود آخر حتّی ینتهی إلی ما شاء لا یحصل منه موجود آخر متغایر‏‎ ‎‏مع الأجزاء المنضمّات .‏

الخامس :‏ أنّ دعوة الأمر إلی إیجاد الأجزاء إنّما هو بعین دعوته إلی الطبیعة ؛‏‎ ‎‏لا بدعوة مستقلّة ولا بدعوة ضمنیة ولا بأمر انحلالی ولا بحکم العقل الحاکم بأنّ‏‎ ‎‏إتیان الکلّ لا یحصل إلاّ بإتیان ما یتوقّف علیه من الأجزاء ؛ وذلک لأنّ الطبیعة تنحلّ‏‎ ‎‏إلی الأجزاء ؛ انحلال المجمل إلی مفصّله . والمفروض : أنّها عین الأجزاء فی لحاظ‏‎ ‎‏الوحدة ، لا شیء آخر .‏

‏فالدعوة إلی الطبیعة الاعتباریة عین الدعوة إلی الأجزاء ، والبعث إلی إحضار‏‎ ‎‏عشرة رجال بعث إلی إحضار هذا وذاک حتّی یصدق العنوان .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 294
‏ومع ما ذکرنا لا حاجة إلی التمسّک فی مقام الدعوة إلی حکم العقل ؛ وإن کان‏‎ ‎‏حکمه صحیحاً .‏

‏وأمّا الأمر الضمنی أو الانحلالی فممّا لا طائل تحته .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ الأمر المتعلّق بالمرکّب واحد متعلّق بواحد ، ولیست‏‎ ‎‏الأجزاء متعلّقة للأمر ؛ لعدم شیئیة لها فی لحاظ الآمر عند لحاظ المرکّب ، ولا یری‏‎ ‎‏عند البعث إلیه إلاّ صورة وحدانیة هی صورة المرکّب ؛ فانیاً فیها الأجزاء ، فهی‏‎ ‎‏تکون مغفولاً عنها ، ولا تکون متعلّقة للأمر أصلاً .‏

‏فالآمر لا یری فی تلک اللحاظ إلاّ أمراً واحداً ، ولا یأمر إلاّ بأمر واحد ،‏‎ ‎‏ولکن هذا الأمر الوحدانی یکون داعیاً إلی إتیان الأجزاء بعین دعوته إلی المرکّب ،‏‎ ‎‏وحجّة علیها بعین حجّیته علیه ؛ لکون المرکّب هو الأجزاء فی لحاظ الوحدة‏‎ ‎‏والاضمحلال .‏

‏وما ذکرنا هاهنا وفی المقدّمة الرابعة لاینافی مع ما عرفت تحقیقه ؛ من وجود‏‎ ‎‏ملاک المقدّمیة فی الأجزاء ، وأنّ کلّ جزء مقدّمة ، وهو غیر الکلّ‏‎[2]‎‏ .‏

السادس :‏ أنّ مصبّ الأمر هو العنوان لا ذات الأجزاء المردّدة بین الأقلّ‏‎ ‎‏والأکثر بنعت الکثرة ؛ وإن کان العنوان عینها فی لحاظ الوحدة . ومع ذلک فما هو‏‎ ‎‏متعلّق الأمر إنّما هو العنوان .‏

‏نعم ، التعبیر بأنّ الأمر دائر بین الأقلّ والأکثر یوهم تعلّق الحکم بالأجزاء ،‏‎ ‎‏وأنّ الواجب بذاته مردّد بینهما ، وهـو خلاف المفروض وخلاف التحقیق ، بل‏‎ ‎‏الحکم تعلّق بعنوان غیر مردّد فی نفسه بین القلیل والکثیر ؛ وإن کان ما ینحلّ إلیه‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 295
‏هذا العنوان مردّد بینهما ، وهو لا یوجب تردّد الواجب بالـذات بینهما ، وهـو‏‎ ‎‏لاینافی قولنا : إنّ العنوان عین الأجزاء ؛ لما تقدّم أنّ العینیة مع حفظ عنوانی‏‎ ‎‏الإجمال والتفصیل .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 296

  • )) نهایة الأفکار 3 : 373 و 377 .
  • )) تقدّم فی الجزء الأوّل : 290 ـ 293 .