المقصد السابع فی الاُصول العملیة

مقتضی الأصل العقلی فی صور الملاقاة

مقتضی الأصل العقلی فی صور الملاقاة

‏ ‏

البحث الثالث :‏ قد اختار سیّدنا الاُستاذ فی الدورة السابقة البراءة فی هذه‏‎ ‎‏الصور مطلقاً‏‎[1]‎‏ ، ولکنّه عدل فی هذه الدورة إلی تفصیل یوافق مختار المحقّق‏‎ ‎‏الخراسانی  ‏‏رحمه الله‏‎[2]‎‏ .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 256
‏وإلیک بیان ما اختاره فی الدورة السابقة علی نحو الإجمال :‏

‏إنّ العلم الإجمالی بنجاسة بعض الأطراف منجّز لها ، فإذا علم بالملاقاة أو‏‎ ‎‏بکون نجاسة الملاقی علی فرض کونه نجساً من الملاقی ـ بالفتح ـ فهذا العلم الثانی‏‎ ‎‏لایؤثّر شیئاً ؛ لأنّ العلم بنجاسة بعض الأطراف متقدّم رتبةً علی العلم بنجاسة‏‎ ‎‏الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف ؛ سواء کان بحسب الزمان مقارناً له أو متقدّماً علیه أو‏‎ ‎‏متأخّراً عنه .‏

وبالجملة :‏ إنّ العلم الأوّل المتعلّق بنجاسة أحد الطرفین منجّز فی الرتبة‏‎ ‎‏السابقة علی تأثیر العلم الإجمالی الثانی ، ومعه لا ینجّز العلم الثانی ؛ لعدم إمکان‏‎ ‎‏تنجیز المنجّز ؛ للزوم تحصیل الحاصل .‏

‏فإذا علم بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف ، ثمّ علم نجاسة الملاقی‏‎ ‎‏ـ بالفتح ـ أو الطرف وأنّ نجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ علی فرضها تکون من الملاقی‏‎ ‎‏فالعلم الثانی مع کونه متأخّراً زماناً ینجّز أطرافه فی الرتبة السابقة ؛ لأنّ معلومه‏‎ ‎‏یکون متقدّماً علی المعلوم الأوّل .‏

‏والمناط فی التنجیز هو تقدّم المعلوم زماناً أو رتبةً لا العلم ، کما لو علمنا‏‎ ‎‏بوقوع قطرة من الدم فی إحدی الأوانی الثلاثة ، ثمّ علمنا بوقوع قطرة منه قبله فی‏‎ ‎‏إحدی الإنائین منها فحینئذٍ یکون العلم الأوّل بلا أثر ، ولا یجب الاجتناب عن‏‎ ‎‏الطرف المختصّ به ؛ لأنّ العلم الثانی یؤثّر فی تنجیز معلومه فی الزمان السابق علی‏‎ ‎‏العلم الأوّل .‏

والحاصل :‏ بعد تقدّم تنجّز الملاقی ـ بالفتح ـ علی الملاقی بالرتبة یکون‏‎ ‎‏العلم المتعلّق بالملاقی ـ بالکسر ـ والطرف فی جمیع الصور بلا أثر ، ولا معنی‏‎ ‎‏للتنجیز فوق التنجیز ، فیکون الملاقی بحکم الشبهة البدویة .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 257
‏هذا ملخّص ما أوضحه فی الدورة السابقة ، وقد لخّصناه بحذف ما تکرّر بیانه‏‎ ‎‏فی الأبحاث المتقدّمة . ویظهر ضعفه فی طیّ المباحث الآتیة .‏

والتحقیق : هو ما اختاره المحقّق الخراسانی من التفصیل ؛‏ فإنّه أوجب‏‎ ‎‏تارة : الاجتناب عن الطرف والملاقی ـ بالفتح ـ دون الملاقی ، واُخری : عن الطرف‏‎ ‎‏والملاقی والملاقی جمیعاً ، وثالثة : عن الطرف والملاقی ـ بالکسر ـ دون الملاقی ،‏‎ ‎‏بالفتح‏‎[3]‎‏ . فنقول توضیحاً وتحقیقاً لما أفاده ‏‏قدس سره‏‏ :‏

أمّا الصورة الاُولی :‏ فهی ما إذا کان العلم بالملاقاة متأخّراً عن العلم بنجاسة‏‎ ‎‏أحد الأطراف ، وعلّله هو ‏‏قدس سره‏‏ بأنّه إذا اجتنب عن الملاقی ـ بالفتح ـ والطرف فقد‏‎ ‎‏اجتنب عن النجس فی البین ، ولو لم یجتنب عمّا یلاقیه ؛ فإنّه علی تقدیر نجاسته‏‎ ‎‏فرد آخر من النجس قد شکّ فی وجوده‏‎[4]‎‏ .‏

وتوضیحه ‏ـ وإن کان فیما مرّ کفایة بالنسبة إلی هذه الصورة ـ أن یقال : إنّ‏‎ ‎‏الکشف والتنجیز من الاُمور التی لا یقبل التعدّد والاثنینیة ، فلا یعقل أن ینکشف‏‎ ‎‏الشیء الواحد لدی العالم مرّتین ما لم ینفصل بینهما ذهول أو نسیان .‏

‏ومثله التنجیز ؛ فإنّ معناه تمامیة الحجّة وانقطاع العذر علی العبد ، وهو لا‏‎ ‎‏یقبل التکرّر ، فإذا تمّ الحجّة بالنسبة إلی الطرف فی العلم المتقدّم أو حصل‏‎ ‎‏الانکشاف فلا معنی لأن یتمّ الحجّة بالنسبة إلیه أیضاً فی العلم الثانی الذی تعلّق‏‎ ‎‏بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف ، کما لا معنی لتعدّد الانکشاف .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ من شرائط تنجیز العلم الإجمالی کونه متعلّقاً بالتکلیف‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 258
‏الفعلی فی أیّ طرف اتّفق ، وموجباً للإلزام علی أیّ تقدیر ، وهو مفقود فی المقام ؛‏‎ ‎‏فإنّ القول بأنّه یجب الاجتناب إمّا عن الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف قول صوری ؛‏‎ ‎‏فإنّ الطرف یجب الاجتناب عنه علی أیّ تقدیر ؛ للعلم السابق ؛ سواء وجب‏‎ ‎‏الاجتناب عن الملاقی ـ بالکسر ـ أو لا .‏

‏ولأجل ذلک : لو تعلّق العلم الإجمالی باُمور قد سبق التکلیف إلی بعضها‏‎ ‎‏معیّناً لم یحدث شیئاً ولم یوجب تنجّزاً ؛ لأنّه تعلّق بأمر وجب الاجتناب عنه سابقاً‏‎ ‎‏بلا تردید ، والباقی مشکوک من رأس .‏

والحاصل :‏ أنّا إذا سلّمنا أنّ هاهنا علماً ثانیاً دائراً بین الطرف والملاقی ، لکنّه‏‎ ‎‏تعلّق بمعلوم مردّد بین ما هو محکوم بالاجتناب قبل حدوث هذا العلم وما لیس‏‎ ‎‏کذلک ، ومعه کیف یحدث العلم الثانی تنجیزاً علی کلّ تقدیر ، أو کشفاً علی کلّ‏‎ ‎‏تقدیر ؟ مع أنّ الطرف کان منجّزاً ومنکشفاً من قبلُ ببرکة العلم الأوّل ، والمنجّز لا‏‎ ‎‏یتنجّز ، والمنکشف لا ینکشف .‏

‏هذا ، وحکم هذه الصورة واضحة جدّاً قد اتّفقت کلمتنا فیها فی کلتا‏‎ ‎‏الدورتین ، وإنّما البحث فی غیرها .‏

وأمّا الصورة الثانیة‏ ـ أعنی ما یجب فیه الاجتناب عن الجمیع ـ فهی فیما‏‎ ‎‏إذا حصل العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ والطرف بعد العلم بالملاقاة ، مع‏‎ ‎‏کون الجمیع مورداً للابتلاء .‏

‏فإنّ السرّ فی وجوب الاجتناب عن الجمیع : أنّ العلم بالملاقاة وإن کان‏‎ ‎‏متقدّمـاً إلاّ أنّه لا یحـدث تکلیفاً ؛ فإنّ الملاقاة الخارجی لیس موضـوعاً للحکم ما‏‎ ‎‏لم یعلم نجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ وما هو الموجب للتکلیف إنّما هو العلم بنجاسـة‏‎ ‎‏الملاقی أو الطرف ، وهـو قـد تعلّق بالجمیع فی عرض واحـد ؛ لأنّ العلم بالملاقاة‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 259
‏المتقدّم قد جعل الملاقی والملاقی عدلاً واحداً .‏

‏فإذا تعلّق العلم بنجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف ففی الحقیقة تعلّق ببرکة‏‎ ‎‏العلم بالملاقاة من قبل بنجاستهما أو الطرف ، وسیأتی الکلام عن قریب فی حال‏‎ ‎‏التقدّم الرتبی ، فانتظر‏‎[5]‎‏ .‏

‏وإلی ذلک یشیر ‏‏قدس سره‏‏ بأنّه یتنجّز التکلیف بالاجتناب عن النجس فی البین ،‏‎ ‎‏وهو الواحد أو الاثنین‏‎[6]‎‏ .‏

وأمّا الصورة الثالثة‏ ؛ أعنی ما یجب فیه الاجتناب عن الطرف والملاقی‏‎ ‎‏ـ بالکسر ـ دون الملاقی فقد ذکر ‏‏رحمه الله‏‏ لها موردین :‏

الأوّل :‏ ما إذا تأخّر العلم بنجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف عن العلم‏‎ ‎‏بالملاقاة ، وعن العلم بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف ، کما إذا علم أوّلاً‏‎ ‎‏بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف ، من دون التفات إلی سبب نجاسة الملاقی ،‏‎ ‎‏ثمّ حدث العلم بالملاقاة ، وحدث العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ أو‏‎ ‎‏الطرف ، والعلم بأنّه لیس لنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ علی تقدیر أن یکون هو‏‎ ‎‏النجس الذی تعلّق العلم به أوّلاً سبب إلاّ جهة ملاقاته ؛ لأنّ المفروض أنّه لیس إلاّ‏‎ ‎‏نجاسة واحدة فی البین .‏

والسرّ فی ذلک :‏ هو ما مرّ من أنّ شرط تنجیز العلم الإجمالی أن یکون متعلّقاً‏‎ ‎‏بالتکلیف الفعلی علی أیّ تقدیر ، منجّزاً کذلک ، وقد عرفت أنّه لو سبق التکلیف إلی‏‎ ‎‏بعض الأطراف قبل تعلّق العلم الثانی لما یؤثّر المتأخّر أصلاً ؛ لتردّد متعلّقه بین ما‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 260
‏کان واجب الاجتناب لولا هذا العلم ، وما لیس کذلک ، فینحلّ العلم الثانی إلی قطعی‏‎ ‎‏الاجتناب ومحتمله .‏

‏ولا یصحّ أن یقال : إنّ هذا واجب أو ذاک ، بل أحدهما واجب الاجتناب قطعاً‏‎ ‎‏ـ وهو الذی سبق إلیه التکلیف ـ والآخر مشکوک الوجوب .‏

‏وقس علیه المقام ؛ فإنّ العلم الأوّل قد نجّز حکم کلّ واحد من الملاقی‏‎ ‎‏ـ بالکسر ـ والطرف ، والعلم الثانی قد تعلّق بنجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ والطرف ،‏‎ ‎‏والمفروض أنّ الطرف کان فی ظرف حدوث العلم الأوّل واجب الاجتناب ، وقد تمّ‏‎ ‎‏حجّة المولی فیه إلی العبد ، ومعه لا یحدث العلم الثانی تکلیفاً علی أیّ تقدیر .‏

وبالجملة :‏ لیس البحث فی الملاقی ـ بالکسر ـ حتّی یقال : إنّ العدل فی العلم‏‎ ‎‏الثانی هو الملاقی ـ بالفتح ـ بل البحث فی الطرف الذی هو عدل فی کلا العلمین ،‏‎ ‎‏وقد ثبت تنجیزه قبل حدوث العلم الثانی ، فلا معنی للتنجیز بعده ، فینحلّ علم الثانی‏‎ ‎‏إلی قطعی الاجتناب وهو الطرف ومشکوکه وهو الملاقی ، بالفتح .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ شرطیة منجّزیـة العلم الإجمالی هـو أن یکون کاشفاً‏‎ ‎‏فعلیاً ومنجّزاً فعلیاً علی جمیع التقادیر ، ومع العلم الأوّل بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ‏‎ ‎‏أو الطرف یکون العلم کاشفاً فعلیاً عن التکلیف بینهما ومنجّزاً فعلیاً علی جمیع‏‎ ‎‏التقادیر .‏

‏فإذا حصل العلم بأنّ نجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ علی فرض کونه نجساً فمن‏‎ ‎‏جانب الملاقی یحدث علم إجمالی ، لکنّه لا یمکن أن یتّصف بالکاشفیة الفعلیة ، ولا‏‎ ‎‏بالمنجّزیة الفعلیة علی جمیع التقادیر ؛ فإنّه علی تقدیر کون النجس هو الطرف‏‎ ‎‏یکون فعلیاً بالعلم الأوّل ومنجّزاً فعلیاً به ، ولا یعقل تعلّق کشف فوق الکشف ، ولا‏‎ ‎‏تنجیز فوق التنجیز .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 261
فإن قلت :‏ العلم الثانی یوجب بطلان العلم الأوّل وفساد زعم التنجیز ؛ لأنّ‏‎ ‎‏التنجیز فرع مطابقة العلم لنفس الأمر ، وقد کشف خلافه ؛ لأنّه بعد حصول الثانی‏‎ ‎‏من العلمین الکاشف عن أنّ النجس إمّا هو الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف نستکشف‏‎ ‎‏بطلان الأوّل ، الذی تعلّق بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف ، وعلمنا أنّ الذی‏‎ ‎‏یلیق أن یقع عدلاً للطرف إنّما هو الملاقی ـ بالفتح ـ لا الملاقی .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ الاجتناب عن الملاقی ـ بالکسر ـ فرع ثبوت وجوب‏‎ ‎‏الاجتناب عن الملاقی ـ بالفتح ـ والسرّ فی ذلک : أنّ ما یجب الاجتناب عنه هو‏‎ ‎‏ملاقی النجس القطعی ، فیجب الاجتناب عنه ؛ وإن صار الملاقی غیر واجب‏‎ ‎‏الاجتناب ؛ لأجل الاضطرار إلیه ، أو لخروجه عن محلّ الابتلاء ، أو لغیر ذلک .‏

‏وأمّا المقام فلیس ملاقیاً للنجس ، بل ملاقٍ لشیء لم یحرز نجاسته ، ولم‏‎ ‎‏یثبت وجوب الاجتناب عنه عند حصول العلم الأوّل ، کما هو المفروض .‏

وبالجملة :‏ بعدما حدث العلم الثانی کشفنا عن أنّ العلم الأوّل الذی تعلّق‏‎ ‎‏بوجوب الاجتناب عن الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف کان وهناً محضاً ، ولم یکن‏‎ ‎‏ملاک وجوب الاجتناب موجوداً فیه .‏

‏فیبطل ما یقال : إنّ الطرف کان واجب الاجتناب من أوّل الأمر ، ولم یحدث‏‎ ‎‏العلم الثانی تکلیفاً آخر بالنسبة إلیه ، ویصیر الملاقی ـ بالفتح ـ مشکوکاً بدویاً .‏

قلت :‏ إنّ العلم الثانی لم یکشف إلاّ عن سبب الاجتناب عن الملاقی‏‎ ‎‏ـ بالکسر ـ لا عن بطلان العلم الأوّل . والشاهد علیه : أنّـه بعد حصول العلم الثانی‏‎ ‎‏أنّ لنا أن نقول : الطرف واجب الاجتناب أو الملاقی ـ بالکسر ـ لکونـه ملاقیاً‏‎ ‎‏للنجس واقعاً .‏

‏غایة الأمر : کان وجوب الاجتناب عن الملاقی ـ بالکسر ـ مجهولاً سببه ،‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 262
‏وکان المکلّف معتقداً أنّ علّة نجاسته علی فرضها هو وقوع النجس فیه بلا واسطة ،‏‎ ‎‏ثمّ بان بأنّ سببها هو الملاقاة لما هو نجس علی فرض نجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ‏‎ ‎‏وهذا مثل ما إذا وقفنا علی وجوب أحد الشیئین ، ثمّ وقفنا علی ضعف الطریق مع‏‎ ‎‏العثور علی طریق صحیح . فالتغایر فی السبب لا یوجب التغایر فی المسبّب .‏

وما ربّما یقال‏ بانحلال العلم الأوّل بالثانی ؛ قائلاً بأنّه أیّ فرق بین المقام وما‏‎ ‎‏إذا علم بوقوع قطرة من الدم فی واحد من الإنائین ، ثمّ علم بعد ذلک بوقوع قطرة‏‎ ‎‏سابقاً : إمّا فی هذا الإناء المعیّن من الإنائین أو فی إناء ثالث ؟ فلا ینبغی التأمّل فی‏‎ ‎‏أنّ الثانی من العلمین یوجب انحلال الأوّل منهما ؛ لسبق معلومه علیه ، وأنّ الأوّل‏‎ ‎‏منهما وإن کان متقدّماً حسب الوجود إلاّ أنّ معلوم الثانی متقدّم .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ العلم الأوّل لم یحدث تکلیفاً بالنسبة إلی الإناء الذی وقع‏‎ ‎‏عدلاً للإناء الثالث فی العلم الثانی ؛ لأنّ العلم الثانی کشف عن کونه واجب‏‎ ‎‏الاجتناب من قبل فی نفس الأمر ؛ وإن کان مجهولاً لنا ، وقد علمت ما هو الشرط‏‎ ‎‏فی تنجیز العلم الإجمالی .‏

ففیه‏ ـ مع أنّه یرجع إلی الإشکال المتقدّم مآلاً ؛ وإن کان یفترق عنه تقریراً‏‎ ‎‏وتمثیلاً ـ أنّ الفرق بین المقامین واضح ؛ لأنّه إذا علم بعد العلم بوقوع قطرة فی‏‎ ‎‏إحدی الإنائین بأنّه وقعت قطرة قبل تلک القطرة المعلومة فی واحد معیّن من‏‎ ‎‏الإنائین أو الثالث یکشف ذلک عن أنّ علمه بالتکلیف علی أیّ تقدیر کان جهلاً‏‎ ‎‏مرکّباً ؛ لأنّ القطرة الثانیة المعلومة أوّلاً إذا کانت واقعة فیما وقعت فیه القطرة قبلاً لم‏‎ ‎‏یحدث تکلیفاً . فالعلم الثانی یکشف عن بطلان العلم الأوّل ، وینحلّ العلم الأوّل .‏

‏وأمّا المقام فلیس کذلک ؛ فإنّ العلم الأوّل باقٍ علی ما هو علیه ، ومانع عن‏‎ ‎‏وقوع کشف وتنجیز بالنسبة إلی الطرف بالعلم الثانی ، فالعلم الأوّل المتعلّق بنجاسة‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 263
‏الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف باقٍ علی حاله ، ولا ینحلّ بحدوث العلم الثانی‏‎ ‎‏المتعلّق بنجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف .‏

‏وما أورده بعض أعاظم العصر ‏‏قدس سره‏‏ ردّاً علی هذا التفصیل ، بما حاصله : أنّ هذا‏‎ ‎‏التفصیل مبنی علی کون حدوث العلم الإجمالی بما أنّه وصف فی النفس تمام‏‎ ‎‏الموضوع لوجوب الاجتناب عن الأطراف ؛ وإن تبدّلت صورته ؛ لأنّه ـ حینئذٍ ـ‏‎ ‎‏یکون المدار علی حال حدوث العلم . ومن المعلوم أنّه قد یکون متعلّق العلم‏‎ ‎‏الإجمالی حال حدوثه هو نجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ أو الطرف ، وقد یکون هو‏‎ ‎‏نجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف ، وقد یکون هو نجاستهما معاً أو الطرف .‏

‏ولکن الإنصاف : فساد المبنی ؛ لأنّ المدار فی تأثّر العلـم إنّما هو علی‏‎ ‎‏المعلوم والمنکشف لا علی العلم والکاشف ، وفی جمیع الصور المفروضة رتبة‏‎ ‎‏وجوب الاجتنـاب عن الملاقی ـ بالفتح ـ والطرف سابقة علی وجوب الاجتناب‏‎ ‎‏عن الملاقی ـ بالکسر ـ وإن تقدّم زمان العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ‏‎ ‎‏أو الطرف علی العلـم الإجمالی بنجاسـة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف ؛ لأنّ‏‎ ‎‏التکلیف فی الملاقی إنّما جاء من قِبَل التکلیف بالملاقی ، فلا أثر لتقدّم زمان العلم‏‎ ‎‏وتأخّره ، بعد ما کان المعلوم فی أحد العلمین سابقاً رتبة أو زماناً علی المعلوم‏‎ ‎‏بالآخر‏‎[7]‎‏ ، انتهی ما یتعلّق بالمقام ، ویأتی باقی کلامه عند البحث عن المورد الثانی‏‎ ‎‏للصورة الثالثة .‏

ففیه :‏ أنّ التنجّز من آثار العلم المتقدّم وجوداً فی الزمان علی الآخر ، لا من‏‎ ‎‏آثار المتقدّم رتبة ؛ وإن تأخّر زمان وجوده . فالعلم بنجاسة الطرف أو الملاقی‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 264
‏ـ بالفتح ـ وإن کان متقدّماً رتبة ، إلاّ أنّه حادث ومتأخّر وجوداً عن العلم الأوّل ، وما‏‎ ‎‏هو الملاک فی باب الاحتجاج وقطع الأعذار إنّما هو وجود الحجّة علی التکلیف‏‎ ‎‏المتقدّم بوجوده علی الآخر ، والرتب العقلیة لیست مناطاً فی المقام .‏

‏وإن شئت قلت : إنّه لا تأثیر لتقدّم الرتبة عقلاً فی تقدّم التنجیز ، کما اشتهر فی‏‎ ‎‏الألسن ؛ ضرورة أنّ التنجیز إنّما هو أثر العلم فی الوجود الخارجی ، وتقدّم السبب‏‎ ‎‏علی المسبّب لیس تقدّماً خارجیاً ، بل هو معنیً یدرکه العقل وینتزع من نشوء‏‎ ‎‏أحدهما عن الآخر .‏

‏فالعلم الإجمالی المتعلّق بالملاقی ـ بالفتح ـ والطرف وإن کان مقدّماً علی‏‎ ‎‏العلم الإجمالی بالملاقی ـ بالکسر ـ والطرف فی الرتبة العقلیة ، لکنّه لا یوجب‏‎ ‎‏تقدّمه فی التنجیز حتّی یصیر مانعاً من تنجّز المتأخّر رتبة .‏

‏ولأجل ذلک یجب الاجتناب عن الجمیع فیما إذا تعلّق العلم بالأطراف بعد‏‎ ‎‏العلم بالملاقاة وبعد العلم بأنّه لیس للملاقی نجاسة غیر ما اکتسب من الملاقی‏‎ ‎‏ـ بالفتح ـ لکن حصل العلم الإجمالی بنجاسة الطرف والملاقی ـ بالفتح ـ فی زمان‏‎ ‎‏حدوث العلم بنجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ والطرف ؛ فإنّ العلم حینئذٍ یکون منجّزاً‏‎ ‎‏ویجب الاجتناب عن الأطراف عامّة ، نظیر الصورة الثانیة التی تقدّم وجوب‏‎ ‎‏الاجتناب فیها عن الأطراف عامّة .‏

‏وسیوافیک فی بحث السببی والمسبّبی‏‎[8]‎‏ وفی هذا البحث عند بیان الأصل‏‎ ‎‏الشرعی فی الملاقی‏‎[9]‎‏ : أنّ القول بالرتب العقلیة فی الأحکام العرفیة والشرعیة لا‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 265
‏یرجع إلی شیء ؛ وإن جعل الشیخ الأعظم ذلک التقدّم علّة لتقدّم السببی علی‏‎ ‎‏المسبّبی‏‎[10]‎‏ ، وتبعه شیخنا العلاّمة ـ أعلی الله مقامه‏‎[11]‎‏ ـ فانتظر .‏

المورد الثانی للصورة الثالثة ؛‏ أعنی ما یجب فیه الاجتناب عن الملاقی‏‎ ‎‏ـ بالکسر ـ والطرف دون الملاقی : ما إذا علم بالملاقاة ، ثمّ حدث العلم الإجمالی‏‎ ‎‏بنجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ أو الطرف ، ولکن کان الملاقی حال حدوث العلم داخلاً‏‎ ‎‏فی مورد الابتلاء ، والملاقی ـ بالفتح ـ خارجاً عنه ثمّ عاد إلی محلّ الابتلاء .‏

وأورد علیه بعض الأعاظم ‏رحمه الله‏‏ : بأنّه لا أثر لخروج الملاقی ـ بالفتح ـ عن‏‎ ‎‏محلّ الابتلاء فی ظرف حدوث العلم ، مع عوده إلی محلّ الابتلاء بعد العلم .‏

‏نعم ، لو فرض أنّ الملاقی ـ بالفتح ـ کان فی ظرف حدوث العلم خارجاً عن‏‎ ‎‏محلّ الابتلاء ، ولم یعد بعد ذلک إلی محلّه ـ ولو بالأصل ـ فالعلم الإجمالی بنجاسته‏‎ ‎‏أو الطرف ممّا لا أثر له ، ویبقی الملاقی ـ بالکسر ـ طرفاً للعلم الإجمالی ، فیجب‏‎ ‎‏الاجتناب عنه وعن الطرف‏‎[12]‎‏ ، انتهی .‏

التحقیق :‏ ما عرفت من عدم الاعتبار بالخروج عن محلّ الابتلاء ؛ لأنّ‏‎ ‎‏الأحکام الشرعیة مجعولة علی الطریق الکلّی الذی عبّرنا عنه بأنّه أحکام قانونیة أو‏‎ ‎‏خطابات قانونیة .‏

ولو سلّم :‏ فهو فیما إذا لم یکن للخارج أثر فعلی داخل فی محلّ الابتلاء ،‏‎ ‎‏وأمّا إذا کان له أثر فعلی فلا نسلّم قبح الخطاب ، ولا قبح الحکم الوضعی ؛ فإنّ جعل‏‎ ‎‏النجاسة علی الحیوان الخارج عن محلّ الابتلاء ببرکة أصالة عدم التذکیة إذا کان‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 266
‏بعض أجزائه داخلاً فی محلّ الابتلاء ممّا لا قبح فیه إذا قلنا بأنّ التذکیة ترد علی‏‎ ‎‏الحیوان فقط ، والأجزاء تصیر ذات تذکیة بواسطة عروضها علی الحیوان .‏

‏ومثله المقام ؛ فإنّ جعل النجاسة للإناء الخارج عن محلّ الابتلاء مع کون‏‎ ‎‏ملاقیه داخـلاً فیه لیس بقبیح ؛ لأنّ أثر نجاسـة الملاقی ـ بالفتح ـ الخـارج عـن‏‎ ‎‏محلّ الابتلاء إنّما هو نجاسة الملاقی ـ بالکسر ـ الـذی داخـل فیه . وعلیه فیجری‏‎ ‎‏أصالة الطهارة فی الملاقی ـ بالفتح ـ بلحاظ أثره الذی داخل فی محلّ الابتلاء ؛ أی‏‎ ‎‏نجاسـة ملاقیه .‏

فظهر :‏ أنّ عود الملاقی ـ بالفتح ـ إلی محلّ الابتلاء وعدم عوده سیّان ، فما‏‎ ‎‏فصّله بعض الأعاظم من تسلیم ما ذکره المحقّق الخراسانی فیما لم یعد الملاقی‏‎ ‎‏ـ بالفتح ـ إلی محلّ الابتلاء دون ما عاد لا یرجع إلی محصّل ؛ لما عرفت من أنّ‏‎ ‎‏خروج الملاقی ـ بالفتح ـ کلا خروجه ؛ لوجود أثره .‏

‏هذا کلّه فی مفاد الأصل العقلی فی المقام .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 267

  • )) راجع أنوار الهدایة 2 : 239 .
  • )) کفایة الاُصول : 411 ـ 412 .
  • )) کفایة الاُصول : 412 .
  • )) نفس المصدر .
  • )) یأتی فی الصفحة 264 ـ 265 .
  • )) کفایة الاُصول : 412 ـ 413 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 4 : 86 .
  • )) الاستصحاب ، الإمام الخمینی قدس سره : 243 ـ 250 .
  • )) یأتی فی الصفحة 268 ـ 269 .
  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25 : 242 .
  • )) درر الفوائد ، المحقّق الحائری : 632 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 4 : 86 و 88 .