فی أنّ ملاقی النجس بعنوانه من النجس
الأوّل : بعدما علم من ضرورة الفقه وجوب الاجتناب عن ملاقی النجس القطعی وقع البحث فی کیفیة جعل هذا الوجوب :
فمن قائل ـ وهو ابن زهرة ومن تبعه ـ بأنّ وجوب الاجتناب عن ملاقی النجس من شؤون وجوب الاجتناب عن نفس النجس ، ولیس وجوب الاجتناب عن الملاقی لأجل تعبّد آخر وراء التعبّد بوجوب الاجتناب عن النجس ، ویکون المرتکب للملاقی معاقباً علی ارتکاب النجس لا علی ارتکاب ملاقیه ؛ لعدم الحکم للملاقی مستقلاًّ .
وبالجملة : لیس هنا إلاّ وجوب اجتناب واحد ؛ وهو وجوب الاجتناب عن النجس . ولا یتحقّق ذلک إلاّ بالاجتناب عنه وعن حواشیه وملاقیاته .
ومن قائل ـ وهو المشهور المنصور ـ بأنّ الملاقی یختصّ بجعل مستقلّ فی عرض وجوب الاجتناب عن النجس ، وهذا الوجوب مجعول علی عنوان ملاقی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 253
النجس ـ من دون أن یکون وجوبه عین وجوبه ومن شؤونه ـ فالاجتناب عن الملاقی امتثال مستقلّ ، کما أنّ الاجتناب عن النجس امتثال آخر . وقس علیه العقاب والعصیان .
استدلّ ابن زهرة بقوله تعالی : «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» ، ولا یخفی عدم دلالته ؛ إذ هو یدلّ علی وجوب الاجتناب عن الرجز ، ولا یدلّ علی وجوب الاجتناب عن ملاقی الرجز ؛ فإنّ الرجز عبارة عن نفس النجس ، علی ما علیه جملة من المفسّرین ، ولا یدلّ علی حکم ملاقیه .
وربّما یستدلّ بما رواه عمرو بن شمر عن جابرالجعفی عن أبی جعفر علیه السلام أنّه أتاه رجل ، فقال له : وقعت فأرة فی خابیة فیها سمن أو زیت ، فما تری فی أکله ؟ فقال أبو جعفر علیه السلام : «لا تأکله» .
فقال الرجل : الفأرة أهون علیّ من أن أترک طعامی من أجلها .
فقال له أبو جعفر علیه السلام : «إنّک لم تستخفّ بالفأرة ، وإنّما استخففت بدینک ؛ إنّ الله حرّم المیتة من کلّ شیء» .
وجه دلالته : أنّه جعل عدم الاجتناب من الطعام الذی وقعت فیه الفأرة استخفافاً للدین ، وبیّنه بأنّ الله حرّم المیتة من کلّ شیء ، ولولا کون الاجتناب من الملاقی ـ بالکسر ـ من شؤون الاجتناب من الملاقی لم یکن عدم الاجتناب من الطعام استخفافاً بتحریم المیتة .
وفیه ـ مع ضعف سند الروایة ، واحتمال تفسّخ المیتة فی السمن ؛ بحیث
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 254
حصل الامتزاج والاختلاط ، وصارا بحکم واحد فی الاستعمال والاجتناب ـ أنّ الاستدلال مبنی علی أنّ قوله علیه السلام : «إنّ الله حرّم المیتة من کلّ شیء» مسوق لبیان نجاسة الملاقی للفأرة ، وهو خلاف الظاهر . بل سیق لبیان ردّ قول السائل : «إنّ الفأرة أهون علیّ من أن أترک طعامی من أجلها» بأنّ ذلک استخفاف لحکم الله تعالی ؛ لتعلّق حکمه علی کلّ میتة .
ویمکن الاستدلال علی القول المشهور : أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی مجعول مستقلاًّ بمفهوم قوله علیه السلام : «إذا بلغ الماء قدر کرّ لم ینجّسه شیء» فإنّ مفهومه أنّ الماء إذا لم یبلغ حدّ الکرّ ینجّسه بعض النجاسات ؛ أی یجعله نجساً ومصداقاً مستقلاًّ منه . وظاهره : أنّ الأعیان النجسة واسطة لثبوت النجاسة للماء ، فیصیر الماء لأجل الملاقاة للنجس فرداً من النجس مختصّاً بالجعل .
ویمکن أن یستدلّ أیضاً بقوله : «الماء کلّه طاهر حتّی تعلم أنّه قذر» ؛ أی حتّی تعلم أنّه صار قذراً بواسطة الملاقاة .
وأعطف علیه ما دلّ من الروایات والفتاوی : أنّ الماء والأرض والشمس مطهِّرات للأشیاء ؛ فإنّ الظاهر منها أنّ الأشیاء صارت نجسة ، فتطهّر بالمذکورات . وبالجملة : لا إشکال فی أنّ نجاسة الملاقی من ناحیة نجاسة الأعیان النجسة التی یلاقیها لأجل السرایة والسببیة ، کما أنّ الظاهر منها کون الملاقی مختصّاً بجعل آخر ووجوب مستقلّ .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 255
ومن ذلک یعلم : حکم الملاقی لأحد أطراف العلم الإجمالی ؛ فعلی القول الأوّل یجب الاجتناب ؛ لأجل تحصیل البراءة الیقینیة عن الاشتغال الیقینی ؛ للشکّ فی حصول الامتثال بالاجتناب عن الأطراف دون الملاقی ؛ لأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی علی فرض نجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ لیس وجوباً وتکلیفاً مستقلّاً ، بل وجب الاجتناب عنه بنفس الوجوب المتعلّق بالملاقی ـ بالفتح ـ فیجب الاجتناب عن الکلّ ؛ تحصیلاً للبراءة .
وعلی القول المختار : فالحکم هو البراءة ، لکن علی تفصیل سیوافیک بیانه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 256