المقصد السابع فی الاُصول العملیة

فی أنّ ملاقی النجس بعنوانه من النجس

فی أنّ ملاقی النجس بعنوانه من النجس

‏ ‏

الأوّل :‏ بعدما علم من ضرورة الفقه وجوب الاجتناب عن ملاقی النجس‏‎ ‎‏القطعی وقع البحث فی کیفیة جعل هذا الوجوب :‏

فمن قائل‏ ـ وهو ابن زهرة‏‎[1]‎‏ ومن تبعه‏‎[2]‎‏ ـ بأنّ وجوب الاجتناب عن ملاقی‏‎ ‎‏النجس من شؤون وجوب الاجتناب عن نفس النجس ، ولیس وجوب الاجتناب‏‎ ‎‏عن الملاقی لأجل تعبّد آخر وراء التعبّد بوجوب الاجتناب عن النجس ، ویکون‏‎ ‎‏المرتکب للملاقی معاقباً علی ارتکاب النجس لا علی ارتکاب ملاقیه ؛ لعدم الحکم‏‎ ‎‏للملاقی مستقلاًّ .‏

‏وبالجملة : لیس هنا إلاّ وجوب اجتناب واحد ؛ وهو وجوب الاجتناب عن‏‎ ‎‏النجس . ولا یتحقّق ذلک إلاّ بالاجتناب عنه وعن حواشیه وملاقیاته .‏

ومن قائل‏ ـ وهو المشهور المنصور ـ بأنّ الملاقی یختصّ بجعل مستقلّ فی‏‎ ‎‏عرض وجوب الاجتناب عن النجس ، وهذا الوجوب مجعول علی عنوان ملاقی‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 253
‏النجس ـ من دون أن یکون وجوبه عین وجوبه ومن شؤونه ـ فالاجتناب عن‏‎ ‎‏الملاقی امتثال مستقلّ ، کما أنّ الاجتناب عن النجس امتثال آخر . وقس علیه‏‎ ‎‏العقاب والعصیان .‏

استدلّ ابن زهرة‏ بقوله تعالی : ‏‏«‏وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏»‏‎[3]‎‏ ، ولا یخفی عدم دلالته ؛‏‎ ‎‏إذ هو یدلّ علی وجوب الاجتناب عن الرجز ، ولا یدلّ علی وجوب الاجتناب عن‏‎ ‎‏ملاقی الرجز ؛ فإنّ الرجز عبارة عن نفس النجس ، علی ما علیه جملة من‏‎ ‎‏المفسّرین ، ولا یدلّ علی حکم ملاقیه .‏

وربّما یستدلّ‎[4]‎‏ بما رواه عمرو بن شمر عن جابرالجعفی عن أبی جعفر ‏‏علیه السلام‏‎ ‎‏أنّه أتاه رجل ، فقال له : وقعت فأرة فی خابیة فیها سمن أو زیت ، فما تری فی‏‎ ‎‏أکله ؟ فقال أبو جعفر ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«لا تأکله»‏ .‏

‏فقال الرجل : الفأرة أهون علیّ من أن أترک طعامی من أجلها .‏

‏فقال له أبو جعفر ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«إنّک لم تستخفّ بالفأرة ، وإنّما استخففت بدینک ؛‎ ‎إنّ الله حرّم المیتة من کلّ شیء»‎[5]‎‏ .‏

وجه دلالته :‏ أنّه جعل عدم الاجتناب من الطعام الذی وقعت فیه الفأرة‏‎ ‎‏استخفافاً للدین ، وبیّنه بأنّ الله حرّم المیتة من کلّ شیء ، ولولا کون الاجتناب من‏‎ ‎‏الملاقی ـ بالکسر ـ من شؤون الاجتناب من الملاقی لم یکن عدم الاجتناب من‏‎ ‎‏الطعام استخفافاً بتحریم المیتة .‏

وفیه‏ ـ مع ضعف سند الروایة ، واحتمال تفسّخ المیتة فی السمن ؛ بحیث‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 254
‏حصل الامتزاج والاختلاط ، وصارا بحکم واحد فی الاستعمال والاجتناب ـ أنّ‏‎ ‎‏الاستدلال مبنی علی أنّ قوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«إنّ الله حرّم المیتة من کلّ شیء»‏ مسوق لبیان‏‎ ‎‏نجاسة الملاقی للفأرة ، وهو خلاف الظاهر . بل سیق لبیان ردّ قول السائل : «إنّ‏‎ ‎‏الفأرة أهون علیّ من أن أترک طعامی من أجلها» بأنّ ذلک استخفاف لحکم الله ‏‎ ‎‏تعالی ؛ لتعلّق حکمه علی کلّ میتة .‏

ویمکن الاستدلال علی القول المشهور :‏ أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی‏‎ ‎‏مجعول مستقلاًّ بمفهوم قوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«إذا بلغ الماء قدر کرّ لم ینجّسه شیء»‎[6]‎‏ فإنّ‏‎ ‎‏مفهومه أنّ الماء إذا لم یبلغ حدّ الکرّ ینجّسه بعض النجاسات ؛ أی یجعله نجساً‏‎ ‎‏ومصداقاً مستقلاًّ منه . وظاهره : أنّ الأعیان النجسة واسطة لثبوت النجاسة للماء ،‏‎ ‎‏فیصیر الماء لأجل الملاقاة للنجس فرداً من النجس مختصّاً بالجعل .‏

‏ویمکن أن یستدلّ أیضاً بقوله : ‏«الماء کلّه طاهر حتّی تعلم أنّه قذر»‎[7]‎‏ ؛ أی‏‎ ‎‏حتّی تعلم أنّه صار قذراً بواسطة الملاقاة .‏

‏وأعطف علیه ما دلّ من الروایات والفتاوی : أنّ الماء والأرض والشمس‏‎ ‎‏مطهِّرات للأشیاء‏‎[8]‎‏ ؛ فإنّ الظاهر منها أنّ الأشیاء صارت نجسة ، فتطهّر‏‎ ‎‏بالمذکورات . وبالجملة : لا إشکال فی أنّ نجاسة الملاقی من ناحیة نجاسة الأعیان‏‎ ‎‏النجسة التی یلاقیها لأجل السرایة والسببیة ، کما أنّ الظاهر منها کون الملاقی‏‎ ‎‏مختصّاً بجعل آخر ووجوب مستقلّ .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 255
ومن ذلک یعلم :‏ حکم الملاقی لأحد أطراف العلم الإجمالی ؛ فعلی القول‏‎ ‎‏الأوّل یجب الاجتناب ؛ لأجل تحصیل البراءة الیقینیة عن الاشتغال الیقینی ؛ للشکّ‏‎ ‎‏فی حصول الامتثال بالاجتناب عن الأطراف دون الملاقی ؛ لأنّ وجوب الاجتناب‏‎ ‎‏عن الملاقی علی فرض نجاسة الملاقی ـ بالفتح ـ لیس وجوباً وتکلیفاً مستقلّاً ، بل‏‎ ‎‏وجب الاجتناب عنه بنفس الوجوب المتعلّق بالملاقی ـ بالفتح ـ فیجب الاجتناب‏‎ ‎‏عن الکلّ ؛ تحصیلاً للبراءة .‏

‏وعلی القول المختار : فالحکم هو البراءة ، لکن علی تفصیل سیوافیک بیانه .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 256

  • )) غنیة النزوع 1 : 46 .
  • )) منتهی المطلب 1 : 178 ، اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25: 239 ـ 240.
  • )) المدّثر (74) : 5 .
  • )) اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25 : 240 ـ 241 .
  • )) تهذیب الأحکام 1 : 420 / 1327 ، وسائل الشیعة 1 : 206 ، کتاب الطهارة ، أبواب الماء المضاف ، الباب 5 ، الحدیث 2 .
  • )) راجع وسائل الشیعة 1 : 158 ، کتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 9 ، الحدیث 1 و 2 و 5 و 6 .
  • )) راجع وسائل الشیعة 1 : 134 ، کتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 1 ، الحدیث 5 .
  • )) راجع الطهارة ، الإمام الخمینی قدس سره 4 : 343 و 381 .