مقتضی الأصل عند الشکّ فی الخروج عن محلّ الابتلاء
ثمّ إنّه علی القول بکون الخروج عن محلّ الابتلاء مانعاً عن تأثیر العلم الإجمالی یقع البحث فیما إذا شکّ فی خروجه عن محلّ الابتلاء لا من جهة الاُمور الخارجیة ، بل من جهة إجمال ما هو خارج عن مورد التکلیف الفعلی ، فهل الأصل یقتضی الاحتیاط أو البراءة ؟
واختار الأوّل شیخنا العلاّمة ـ أعلی الله مقامه ـ حیث قال : إنّ البیان المصحّح للعقاب عند العقل ـ وهو العلم بوجود مبغوض المولی بین اُمور ـ حاصل وإن شکّ فی الخطاب الفعلی من جهة الشکّ فی حسن التکلیف وعدمه . وهذا المقدار یکفی حجّة علیه ، نظیر ما إذا شکّ فی قدرته علی إتیان المأمور به وعدمها ، بعد إحراز کون ذلک الفعل موافقاً لغرض المولی ومطلوباً له ذاتاً ، وهل له أن لا یقدم علی الفعل بمجرّد الشکّ فی الخطاب الفعلی الناشئ من الشکّ فی قدرته .
والحاصل : أنّ العقل بعد إحراز المطلوب الواقعی للمولی أو مبغوضه لا یری عذراً للعبد فی ترک الامتثال .
هذا ، وفیه : أنّ التحقیق هو البراءة ؛ لأنّه بعد القول بکون الابتلاء مـن قیود التکلیف یرجـع الشکّ إلی أصل التکلیف ، ومجرّد احتمال کـون المبغوض هـو
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 234
المبتلی به لا یوجب تمامیة الحجّة علی العبد ، بل له الحجّة لاحتمال کـون المبغوض فی الطرف الآخـر .
وأمّا الشکّ فی القدرة فلو قلنا بمقالة القوم فلا مناص عن البراءة ؛ لأنّ القدرة علی مبانی القوم من حدود التکلیف وقیوده ، فالشکّ فیها شکّ فی أصل التکلیف .
نعم ، علی ما قلنا من کون الخطابات القانونیة فعلیة فی حقّ القادر والعاجز ، غیر أنّ العاجز معذور فی ترک امتثاله ، فعند الشکّ فیها لا مناص عن الاحتیاط إلاّ مع إحراز العذر وإقامة الحجّة بعد تمامیة الحجّة من المولی .
فالشکّ فی القدرة مصبّ البراءة علی مبانی القوم ، کالشکّ فی الابتلاء ، لا علی المختار ، فتدبّر .
وأمّا القول باستکشاف الملاک من إطلاق المادّة ففیه : أنّ إحراز الملاک من تبعات تعلّق التکلیف علی مسلک العدلیة ، ومع کون القدرة والابتلاء من قیوده وحدوده لا طریق لاستکشافه إلاّ فی بعض الأحیان المستکشف ذلک من الاُمور الخارجیة ، وهو لا یفید ؛ لکونه أخصّ من المدّعی .
کما أنّ القول بأنّ القدرة العقلیة والعادیة غیر دخیلة فی الملاکات النفس الأمریة ، بل هی من شرائط حسن الخطاب تخرّص علی الغیب ؛ لعدم العلم بالملاکات الواقعیة ، ومن المحتمل دخالة القدرة فیها . ولا یدفع هذا الاحتمال إلاّ بإطلاق الدلیل ، وهو مفقود فرضاً ، إلاّ علی ما اخترناه .
ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر قدس سره استدلّ علی وجوب الاحتیاط تبعاً للشیخ الأعظم قدس سره بإطلاق أدلّة المحرّمات ، وحاصل ما أفاد ما یلی : إنّ القدر المسلّم من
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 235
التقیید هو ما إذا کان الخمر خارجاً عن محلّ الابتلاء ؛ بحیث یلزم استهجان الخطاب فی نظر العرف .
فإذا شکّ فی استهجانه وعدمه ـ للشکّ فی إمکان الابتلاء بموضوعه أو عدمه ـ فالمرجع هو إطلاق الدلیل ؛ لأنّ المخصّص المجمل بین الأقلّ والأکثر مفهوماً لا یمنع عن التمسّک بالعامّ فیما عدا القدر المتیقّن من التخصیص ، وهو الأقلّ ؛ خصوصاً اللبّیات ؛ فإنّه یجوز التمسّک بالعامّ فیها فی الشبهات المصداقیة ؛ فضلاً عن الشبهات المفهومیة .
والسرّ فی ذلک : هو أنّ العقل لا یخرج العنوان عن تحت العموم ، بل یخرج ذوات المصادیق الخارجیة ، فالشکّ یکون شکّاً فی التخصیص الزائد ، ولا یکون الشبهة مصداقیة ، کالمخصّصات اللبّیة .
فإن قلت : المخصّصات اللبّیة الحافّة بالکلام ـ کما فیما نحن فیه ـ یسری إجمالها إلی العامّ ، کالمخصّصات اللفظیة المتّصلة المجملة .
قلت ـ مضافاً إلی أنّه یمکن منع کون المخصّص هنا من الضروریات المرتکزة فی الأذهان ـ أنّ هذا مسلّم إذا کان الخارج عنواناً واقعیاً غیر مختلف المراتب ، کالفسق المردّد بین مرتکب الکبیرة أو الأعمّ ، وأمّا إذا کان عنواناً ذا مراتب مختلفة ، وعلم بخروج بعض مراتبه عن العامّ وشکّ فی بعض آخر فلا ؛ لأنّ الشکّ یرجع إلی التخصیص الزائد .
فإن قلت : التمسّک بالإطلاق فرع إمکان الإطلاق الواقعی ، وفیما نحن فیه یکون الشکّ فی صحّة الإطلاق النفس الأمری ؛ لاحتمال استهجان التکلیف .
قلت : هذا ممنوع ؛ لأنّ التمسّک بالإطلاق لو کان فرع الإمکان الواقعی لما جاز التمسّک به مطلقاً ؛ لأنّ کلّیة الموارد یصیر الشکّ فیه من قبیل إمکان
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 236
الإطلاق النفس الأمـری ؛ خصوصاً علی مـذهب العدلیـة مـن تبعیة الأحکام للمصالح والمفاسد .
فإنّ الشکّ یرجع إلی الشکّ فی وجود مصلحة أو مفسدة ، ویمتنع الإطلاق مع عدمهما ، فکما أنّ الإطلاق یکشف عن المصلحة النفس الأمریة فکذلک یکشف عن عدم الاستهجان ، انتهی کلامه .
ولا یخفی : أنّ فی کلامه أنظاراً ، نشیر إلی مهمّاتها :
منها : أنّ المخصّص اللبّی یسری إجماله إلی العامّ مطلقاً ؛ ضروریاً کان أو نظریاً :
أمّا الأوّل : فلأنّه بحکم المتّصل اللفظی یمنع عن انعقاد الظهور إلاّ فی العامّ المقیّد بالعنوان المردّد بین الأقلّ والأکثر ، کالعلماء العدول ، فلا یثبت حجّیته إلاّ فی المتیقّن لا المشکوک .
وأمّا الثانی : فلأنّه بعد الانتقال إلی حکم العقل ـ ولو بعد برهة من الدهر ـ یستکشف عن أنّ ما تخیّله من العموم کان أمراً غیر صحیح ، بل کان الکلام من أوّل الأمر مقیّداً بغیر عنوان المخصّص لوجود حکم العقل فی زمن الصدور ؛ وإن کان المکلّف غیر ملتفت .
فما یظهر من کلامه من حصر سرایة الإجمال بما إذا کان ضروریاً لا نظریاً غیر سدید ؛ فإنّ العقل یکشف عن أنّ الخطاب لم یکن متوجّهاً إلی الخارج عـن محلّ الابتلاء . ففرق بین ورود المخصّص منفصلاً وبین الغفلة عن الواقع وحصول العلم بعد برهة بمحدودیة الخطاب وتقییده من أوّل الأمر .
وإن شئت قلت : إنّ المقام نظیر کشف القرینة اللفظیة الحافّة بالکلام بعد
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 237
حین ، فکما أنّها یسقط العامّ عن الحجّیة فی غیر القدر المتیقّن ، فهکذا المخصّص العقلی . أضف إلی ذلک : أنّ منع کون المخصّص هنا ضروریاً مرتکزاً فی الأذهان قابل للمنع .
ومنها : أنّ إجمال المخصّص الحافّ بالکلام ـ سواء کانت لفظیاً متّصلاً به أو لبّیاً ـ یسری إلی العامّ ، نعم لو کان لفظیاً منفصلاً فلا یسری ؛ لانعقاد ظهوره فی جمیع الأفراد وحجّیته فی العموم ، إلی أن یقوم دلیل آخر أقوی منه ؛ حتّی یصحّ رفع الید عن الحجّة بالحجّة ، والمفروض عدم قیامها إلاّ فی الأقلّ دون الأکثر . وأمّا الحافّ بالکلام ـ سواء کان لفظیاً أو لبّیاً ـ فیسری إجماله إلیه ؛ لعدم انعقاد ظهور له إلاّ فی المقدار المتقیّد ، والمفروض دوران الأمر فی المخصّص بین الأقلّ والأکثر ، فلا یکون العامّ حجّة إلاّ فی القدر المتیقّن . ولأجل ذلک لا یجوز التمسّک فی الشبهات المصداقیة فی المخصّص اللبّی أیضاً ، بلا فرق بینه والمخصّص اللفظی .
والحاصل : أنّ العامّ المحفوف بالعنوان المجمل المردّد بین الأقلّ والأکثر لیس له ظهور إلاّ فی العامّ المقیّد بالمجمل المردّد بین الأقلّ والأکثر ، فلا یثبت حجّیته إلاّ فی المتیقّن لا المشکوک .
فإن قلت : یمکن أن یکون سرّ عدم سرایته هو أنّ العقل یخرج ذوات المصادیق لا العنوان حتّی یصیر الشبهة مصداقیة ، بل یصیر من قبیل التخصیص الزائد .
قلت : هذا ما أفاده بعض أعاظم العصر قدس سره ، تبعاً لما أفاده الشیخ الأعظم ـ طیّب الله رمسه ـ إلاّ أنّ ذلک ممنوع ؛ فإنّ الأفراد تخرج عن تحت العامّ عند
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 238
العقل بملاک واحد ، وقد یخرج کلّ فرد بملاک یخصّه .
فلو کان من قبیل الثانی کان لما ذکره من التوجیه وجه ، کما هو الحال فی المخصّص اللفظی إذا کان خروج کلّ فرد بعنوان یخصّه ، وأمّا إذا کان من قبیل الأوّل فلا ؛ لأنّ الإخراج کلّه بملاک واحد . فخروج الفرد المشکوک خروجه لا یستلزم تخصیصاً زائداً .
فلو قال المولی : «أکرم جیرانی» ، وحکم العقل بحرمة إکرام أعداء المولی فلا إشکال أنّ المخرج هو العنوان الوحدانی ، والمخصّص واحد لا کثیر ، والشبهة مصداقیة . وخروج الفرد المشکوک لا یستلزم تخصیصاً آخر ؛ فلا یجوز التمسّک فیه بعین ما ذکر فی المخصّص اللفظی المتّصل .
فإن قلت : إنّ ما ذکر إنّما یصحّ لو کانت الجهات تقییدیة ، فیصیر المخرج هو العنوان المقیّد ، وأمّا إذا کانت تعلیلیة فالخارج هی الأفراد لأجل تلک العلّة .
قلت : قد حقّق فی محلّه أنّ الجهات التعلیلیة فی الأحکام العقلیة ترجع إلی الجهات التقییدیة ، فلو قیل : «لا تشرب الخمر ؛ لأنّه مسکر» فالموضوع فی القضیة اللفظیة إنّما هو الخمر لکونها مسکراً ، لکن ما هو المحرّم لبّاً فی إدراک العقل إنّما هو المسکر لا غیر . فظهر : أنّه لا فرق بین المخصّص اللفظی واللبّی .
ومنها : أنّ ما أفاده من الفرق بین المخصّص الذی هو ذا مراتب ـ کالخروج عن محلّ الابتلاء ـ وما لیس کذلک ـ کالفاسق ـ فیجوز التمسّک بالعامّ فی الأوّل فی اللفظی واللبّی معاً ، من غرائب الآراء ؛ إذ أیّ فرق بین الفسق والخروج عن محلّ الابتلاء ؛ حیث جعل الثانی مختلف المراتب دون الأوّل ؟ ! مع أنّ الخروج عن طاعة الله له مراتب مختلفة ؛ فإنّ مرتبة ارتکاب الصغائر غیر مرتبة ارتکاب الکبائر وأضعف منها ، وهو یباین مع ارتکاب الموبقات من الذنوب مرتبة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 239
وعلی ذلک : فربّما یشکّ فی أنّ الخارج عن العامّ هل هو مطلق من خرج عن طاعة الله ، أو الخارج عنه مرتبة خاصّة منه ، کما ربّما یقال : إنّ البلاد مختلفة ، فالواقع فی أقاصی العالم یعدّ خارجاً عن محلّ الابتلاء ، وإنّما الشکّ فی الأواسط والأدانی . ولعلّ کون الفاسق ذا مراتب أولی من کونه ذا مراتب ، کما لا یخفی .
أضف إلی ذلک : أنّ ما ادّعاه من الکبری غیر مسلّم ؛ فإنّ الإجمال یسری إلی العامّ إذا کان المخصّص متّصلاً ـ وإن کان مقولاً بالتشکیک ـ فلو قال المولی : «أکرم العلماء إلاّ الأبیض منهم» وشککنا فی أنّ الخارج هل هو الأبیض الشدید أو الأعمّ منه فلا یجوز التمسّک به فی غیر المتیقّن خروجه ؛ لأنّه من قبیل التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة بالنسبة إلی نفس العامّ لا المخصّص ؛ إذ لیس للکلام إلاّ ظهور واحد ، فمع إجمال القید لا یعقل عدم السرایة .
ومع ذلک کلّه : فعدّ المقام من قبیل الشبهة المفهومیة غیر صحیح ؛ لأنّ معناها أنّ المفهوم مجمل فی دائرة المفهومیة ، فلا یعلم انطباقه علی موضوع حسب الوضع اللغوی أو العرفی کالفاسق ؛ إذ هو مجمل حسب المعنی الموضوع له ، فلا نعلم أنّ معناه هو مرتکب الکبائر أو الأعمّ ، فیکون الشکّ فی انطباق مفهوم الفاسق علی مرتکب الصغیرة .
وأمّا إذا علم : أنّ له مفهوماً معیّناً ذا مراتب ، وشکّ فی أنّ الخارج أیّ مرتبة منه فهو داخل فی إجمال المراد وخارج عن الشبهة المفهومیة ؛ لکون المفهوم مبیّناً .
ثمّ إنّ ما أفاده : من أنّ التمسّک بالإطلاق لو کان مشروطاً بإحراز إمکان الإطلاق النفس الأمری لانسدّ باب التمسّک بها ؛ لاسیّما علی مذهب العدلیة .
ففیه : أنّه فرق واضح بین قضیة استهجان الخطاب وغیره ؛ فإنّ البحث عن تبعیة الأحکام للمصالح والمفاسد بحث عقلی محض ، فقد تضاربت فیه آراء العدلیة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 240
والأشاعرة ، ولیس العلم باشتمال الموضوع علی المفاسد والمصالح من مبادئ الاحتجاج فی محیط العقلاء ، بل الخطاب عند الشکّ فی التقیید والتخصیص تامّ متوجّه إلی المکلّف .
والأصل العقلائی الدائر عندهم یحکم بمطابقة الإرادة الاستعمالیة والجدّیة ، فعند الشکّ فی دخالة قید أو خروج فرد تصیر أصالتی العموم والإطلاق محکّمة ؛ لتمامیة ما هو ملاک الحجاج عندهم . فحدیث المصالح والمفاسد ممّا یغفل عنه العامّة ، وإنّما یبحث عنهما العلماء الباحثون عن دقائق المسائل .
فلو سمع العبد فی محیط العقلاء قول المولی : «أکرم العلماء» یقف علی أنّ تمام الموضوع هو العلماء ، ولو شکّ فی دخول فرد أو دخالة شیء یحکم بالعموم والإطلاق علی عدم دخالة شیء أو عدم خروجه ، من غیر التفات إلی إمکان إطلاق النفس الأمری علی مسلک العدلیة .
وأمّا المقام : فاستهجان الخطاب فی الموارد الخارجة عن محلّ الابتلاء لیس مخفیاً علی أحد ؛ فلو شکّ فی استهجان الخطاب لأجل الشکّ فی کونه مورد الابتلاء أو لا لما صحّ التمسّک بالإطلاق لکشف حاله ؛ إذ التمسّک بالإطلاق فرع إحراز إمکانه بهذا المعنی .
هذا کلّه علی مبانی القوم ، وقد عرفت أنّه لا مناص عن البراءة .
وأمّا علی المختار فلزوم الاحتیاط ممّا لا غبار علیه ، ویعلم وجهه ممّا قدّمناه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 241