الفرق بین الخطابات القانونیة والشخصیة
التحقیق فی المقـام أن یقال : إنّه قد وقع الخلط بین الخطابات الکلّیة المتوجّهة إلی عامّة المکلّفین والخطاب الشخصی إلی آحادهم ؛ فإنّ الخطاب الشخصی إلی خصوص العاجز وغیر المتمکّن عادة أو عقلاً ممّا لا یصحّ ، کما أوضحناه ، ولکن الخطاب الکلّی إلی المکلّفین المختلفین حسب الحالات والعوارض ممّا لا استهجان فیه .
وبالجملة : استهجان الخطاب الخاصّ غیر استهجان الخطاب الکلّی ؛ فإنّ ملاک الاستهجان فی الأوّل ما إذا کان المخاطب غیر متمکّن ، والثانی فیما إذا کان العموم أو الغالب الذی یکون غیره کالمعدوم غیر متمکّن عادة ، أو مصروفة عنه دواعیهم .
والحاصل : أنّ التکالیف الشرعیة لیست إلاّ کالقوانین العرفیة المجعولة لحفظ الاجتماع وتنظیم الاُمور ، فکما أنّه لیس فیها خطابات ودعایات ، بل هو بما هو خطاب واحد متعلّق بعنوان عامّ حجّة علی عامّة المکلّفین ، فکذلک ما نجده فی الشرع من الخطابات المتعلّقة بالمؤمنین أو الناس . فلیس هنا إلاّ خطاب واحد قانونی یعمّ الجمیع .
وإن شئت قلت : إنّ ما هو الموضوع فی دائرة التشریع هو عنوان المؤمنین أو الناس ، فلو قال : «یا أیّها الناس اجتنبوا عن الخمر» أو «یجب علیکم الفعل
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 228
الکذائی» فلیس الموضوع إلاّ الناس ؛ أعمّ من العاجز والقادر ، والجاهل والعالم .
ولأجل ذلک یکون الحکم فعلیاً فی حقّ الجمیع ، غیر أنّ العجز والجهل عذر عقلی عن تنجّز التکلیف . والملاک لصحّة هذا الخطاب وعدم استهجانه هو صلوحه لبعث عدد معتدّ به من المکلّفین .
فالاستهجان بالنسبة إلی الخطاب العامّ إنّما یلزم لو علم المتکلّم بعدم تأثیر ذلک الخطاب العامّ فی کلّ المکلّفین ، وأمّا مع احتمال التأثیر فی عدد معتدّ به غیر مضبوط تحت عنوان خاصّ فلا محیص عن الخطاب العمومی ولا استهجان فیه أصلاً ، کما أنّ الأمر کذلک فی القوانین العرفیة العامّة .
وبما ذکرنا یظهر الکلام فی الخارج عن محلّ الابتلاء .
والقول بأنّ خطاب العاجز والجاهل وغیر المبتلی بمورد التکلیف قبیح أو غیر ممکن صحیح لو کان الخطاب شخصیاً ، وأمّا إذا کان بصورة التقنین فیکفی فی خطاب الجمیع کون عدد معتدّ به من المکلّفین واجداً لما ذکرنا من الشرائط . وأمّا الفاقد لها فهو معذور عقلاً مع فعلیة التکلیف ، کالعجز والجهل .
وبالجملة : لیس هنا إلاّ إرادة واحدة تشریعیة متعلّقة بخطاب واحد ، ولیس الموضوع إلاّ أحد العناوین العامّة ، من دون أن یقیّد بقید أصلاً . والخطاب بما هو خطاب وحدانی متعلّق لعنوان عامّ حجّة علی الجمیع ، والملاک فی صحّة الخطاب ما عرفت .
والحکم فعلی مطلقاً ، من دون أن یصیر الحکم فعلیاً تارة وإنشائیاً اُخری ، أو مریداً فی حالة وغیر مرید فی حالة اُخری . وما أوضحناه هو حال القوانین الدارجة فی العالَم . والإسلام لم یتّخذ مسلکاً غیرها ولم یطرق باباً سوی ما طرقه العقلاء من الناس ، وسیوافیک مفاسد الخطاب الشخصی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 229
لا یقال : ما معنی الحکم المشترک فیه الناس ؟ وما معنی کون کلّ واحد منّا مکلّفاً بإقامة الصلاة وإیتاء الزکاة ؟ وظاهر هذا تعدّد الخطاب وکثرة التکلیف ، فلا یعقل کثرة التکالیف مع وحدة الخطاب .
وإن شئت قلت : إنّ الخطابات الشرعیة منحلّة بعدد نفوس المکلّفین ، ولا یکاد یخفی : أنّ الخطاب المنحلّ المتوجّه إلی غیر المتمکّن أو غیر المبتلی مستهجن .
لأنّا نقول : إن اُرید من الانحلال کون کلّ خطاب خطابات بعدد المکلّفین ؛ حتّی یکون کلّ مکلّف مخصوصاً بخطاب خاصّ به وتکلیف مستقلّ متوجّه إلیه فهو ضروری البطلان ؛ فإنّ قوله تعالی : «یا أَیُّها الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» خطاب واحد لعموم المؤمنین ، فالخطاب واحد والمخاطب کثیر . کما أنّ الإخبار بأنّ «کلّ نار حارّة» إخبار واحد والمخبر عنه کثیر . فلو قال أحد : «کلّ نار بارد» فلم یکذب إلاّ کذباً واحداً ، لا أکاذیب متعدّدة حسب أفراد النار .
فلو قال : «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنیٰ» فهو خطاب واحد متوجّه إلی کلّ مکلّف ، ویکون الزنا تمام الموضوع للحرمة ، والمکلّف تمام الموضوع لتوجّه الخطاب إلیه . وهذا الخطاب الوحدانی یکون حجّة علی کلّ مکلّف ، من غیر إنشاء تکالیف مستقلّة أو توجّه خطابات عدیدة .
لست أقول : إنّ المنشأ تکلیف واحد لمجموع المکلّفین ؛ فإنّه ضروری الفساد ، بل أقول : إنّ الخطاب واحد والإنشاء واحد ، والمنشأ هو حرمة الزنا علی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 230
کلّ مکلّف ، من غیر توجّه خطاب خاصّ أو تکلیف مستقلّ إلی کلّ واحد ، ولا استهجان فی هذا الخطاب العمومی إذا کان المکلّف فی بعض الأحوال أو بالنسبة إلی بعضٍ الأمکنة غیر متمکّن عقلاً أو عادة ، فالخمر حرام علی کلّ أحد ؛ تمکّن من شربها أو لا .
ولیس جعل الحرمة لغیر المتمکّن بالخصوص حتّی یقال : إنّه یستهجن الخطاب ، فلیس للمولی إلاّ خطاب واحد لعنوان واحد ؛ وهو حجّة علی الناس کلّهم . ولا إشکال فی عدم استهجان الخطاب العمومی ، فکما لا إشکال فی أنّ التکالیف الشرعیة لیست مقیّدة بالقدرة والعلم ـ کما سیوافیک بیانه ـ فکذلک غیر مقیّدة بالدخول فی محلّ الابتلاء .
ثمّ إنّه یترتّب علی القول بکون الخطابات شخصیة ـ أی منحلّة إلی خطابات یلاحظ فیها عدم الاستهجان ـ مفاسد :
منها : عدم صحّة خطاب العصاة من المسلمین ؛ فإنّ خطاب من لا ینبعث به قبیح أو غیر ممکن ؛ فإنّ الإرادة الجزمیة لا تحصل فی لوح النفس إلاّ بعد حصول مبادئ قبلها ، التی منها احتمال حصول المراد ، والمفروض القطع بعدم حصوله .
ومنها : عدم صحّة تکلیف الکفّار بالاُصول والفروع بالملاک الذی قرّرناه .
ومنها : قبح تکلیف صاحب المروّة بستر العورة ؛ فإنّ الدواعی مصروفة عن کشف العورة ، فلا یصحّ الخطاب ؛ إذ أیّ فرق بین النهی عن شرب الخمر الموجود فی أقاصی الدنیا وبین نهی صاحب المروّة عن کشف سوأته بین ملأ من الناس ؟ !
ونظیره نهی المکلّفین عن شرب البول وأکل القاذورات ممّا یکون الدواعی عن الإتیان بها مصروفة ؛ إذ أیّ فرق بین عدم القدرة العادیة أو العقلیة علی العمل ، وبین کون الدواعی مصروفة عنها ؟ !
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 231
وما أفاده بعض الأعاظم من أنّ التکلیف غیر مقیّد بالإرادة ؛ لأنّ التقیید بها غیر معقول ، بخلاف القدرة العقلیة والعادیة قد وافاک جوابه ؛ فإنّ التکلیف لأجل إیجاد الداعی ؛ ولو لأجل الخوف والطمع فی الثواب ، والتارک للشیء بالطبع ـ سواء نهی المولی عنه أو لم ینهه عنه ـ تارک له مطلقاً ، فالزجر لغو أو غیر ممکن ؛ لعدم تحقّق ما هو المبادئ للإرادة الجدّیة ، کما أوضحناه .
ومنها : یلزم علی کون الخطاب شخصیاً عدم وجوب الاحتیاط عند الشکّ فی القدرة ؛ لکون الشکّ فی تحقّق ما هو جزء للموضوع ؛ لأنّ خطاب العاجز قبیح ، والشکّ فی حصول القدرة وعدمها شکّ فی المصداق ، وهو خلاف السیرة الموجودة بین الفقهاء ؛ من لزوم الاحتیاط عند الشکّ فی القدرة .
ومنها : لزوم الالتزام بأنّ الخطابات وأحکام الوضعیة مختصّة بما هو محلّ الابتلاء ؛ لأنّ جعل الحکم الوضعی إن کان تبعاً للتکلیف فواضح ، ومع عدم التبعیة والاستقلال بالجعل فالجعل إنّما هو بلحاظ الآثار ؛ ولهذا لا یمکن جعل حکم وضعی لا یترتّب علیه أثر مطلقاً .
فجعل النجاسة للخمر والبول للآثار المترتّبة علیها ، کحرمة الشرب وبطلان الصلاة مع تلوّث اللباس بها ، ومع الخروج عن محلّ الابتلاء لا یترتّب علیها آثار .
فلابدّ من الالتزام بأنّ النجاسة والحلّیة وغیرهما من الوضعیات من الاُمور النسبیة بلحاظ المکلّفین ، فیکون الخمر والبول نجسان بالنسبة إلی من کان مبتلی بهما ، دون غیرهما ، ولا أظنّ التزامهم بذلک ؛ للزوم الاختلال فی الفقه ، والدلیل العقلی غیر قابل للتخصیص فیکشف ذلک عن بطلان المبنی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 232
وعلی ما حقّقناه فکلّها مندفعة ؛ فإنّ الخطابات الإلهیة فعلیة فی حقّ الجمیع ؛ کان المکلّف عاجزاً أو جاهلاً ، أو مصروفاً عنه دواعیه أو لم یکن ؛ وإن کان العجز والجهل عذرین عقلیین .
وقس علیه الخروج عن محلّ الابتلاء ، فهو لا یوجب نقصاناً فی التکلیف ، ولابدّ من الخروج عن عهدته بترک ما یکون فی محلّ الابتلاء .
وقد عرفت أنّ ما هو الشرط فی صحّة الخطاب القانونی غیر ما هو الشرط فی صحّة الخطاب الشخصی ، من غیر فرق بین التکلیف المعلوم بالتفصیل أو بالإجمال . فالتکلیف المعلوم لابدّ من الخروج عن عهدته بالموافقة القطعیة ، والاجتناب عن المخالفة القطعیة والاحتمالیة .
ومجرّد کون أحد الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء أو مصروفة عنه الدواعی لا یوجب نقصاناً فی التکلیف القانونی ؛ وإن کان موجباً له فی الشخصی .
وأمّا صحیحة علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام : «فیمن رعف فامتخط فصار الدم قطعاً صغاراً ، فأصاب إناءه . . .» إلی آخره فقد حمله الشیخ الأعظم قدس سره علی العلم الإجمالی بإصابة ظَهر الإناء أو باطنه المحتوی للماء . ثمّ علّل عدم وجوب الاجتناب عن الماء بخروج ظهر الإناء عن محلّ الابتلاء ، وهو بمکان من الغرابة ؛ إذ کیف یکون ظهر الإناء الذی بین یدی المکلّف خارجاً عن ابتلائه .
وأمّا الحدیث فلابدّ من تأویله وحمله : إمّا علی الأجزاء الصغار التی لا یدرکه الطرف وإن کانت مرئیة بالنظّارات ، إلاّ أنّ الدم المرئی بها لیست موضوعة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 233
للحکم الشرعی . ولا ینافی هذا الحمل مع العلم بإصابة الإناء ؛ فإنّ العلم بها غیر إدراک الطرف . وإمّا علی إبداء الشکّ فی أصل الإصابة مطلقاً .
وعلی أیّ حال : فهی بظاهرها ممّا أعرض عنها الأصحاب .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 234