المقصد السابع فی الاُصول العملیة

الفرق بین الخطابات القانونیة والشخصیة

الفرق بین الخطابات القانونیة والشخصیة

‏ ‏

‏التحقیق فی المقـام أن یقال : إنّه قد وقع الخلط بین الخطابات الکلّیة‏‎ ‎‏المتوجّهة إلی عامّة المکلّفین والخطاب الشخصی إلی آحادهم ؛ فإنّ الخطاب‏‎ ‎‏الشخصی إلی خصوص العاجز وغیر المتمکّن عادة أو عقلاً ممّا لا یصحّ ، کما‏‎ ‎‏أوضحناه ، ولکن الخطاب الکلّی إلی المکلّفین المختلفین حسب الحالات‏‎ ‎‏والعوارض ممّا لا استهجان فیه .‏

وبالجملة :‏ استهجان الخطاب الخاصّ غیر استهجان الخطاب الکلّی ؛ فإنّ‏‎ ‎‏ملاک الاستهجان فی الأوّل ما إذا کان المخاطب غیر متمکّن ، والثانی فیما إذا کان‏‎ ‎‏العموم أو الغالب الذی یکون غیره کالمعدوم غیر متمکّن عادة ، أو مصروفة عنه‏‎ ‎‏دواعیهم .‏

والحاصل :‏ أنّ التکالیف الشرعیة لیست إلاّ کالقوانین العرفیة المجعولة لحفظ‏‎ ‎‏الاجتماع وتنظیم الاُمور ، فکما أنّه لیس فیها خطابات ودعایات ، بل هو بما هو‏‎ ‎‏خطاب واحد متعلّق بعنوان عامّ حجّة علی عامّة المکلّفین ، فکذلک ما نجده فی‏‎ ‎‏الشرع من الخطابات المتعلّقة بالمؤمنین أو الناس . فلیس هنا إلاّ خطاب واحد‏‎ ‎‏قانونی یعمّ الجمیع .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ ما هو الموضوع فی دائرة التشریع هو عنوان المؤمنین أو‏‎ ‎‏الناس ، فلو قال : «یا أیّها الناس اجتنبوا عن الخمر» أو «یجب علیکم الفعل‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 228
‏الکذائی» فلیس الموضوع إلاّ الناس ؛ أعمّ من العاجز والقادر ، والجاهل والعالم .‏

‏ولأجل ذلک یکون الحکم فعلیاً فی حقّ الجمیع ، غیر أنّ العجز والجهل عذر‏‎ ‎‏عقلی عن تنجّز التکلیف . والملاک لصحّة هذا الخطاب وعدم استهجانه هو صلوحه‏‎ ‎‏لبعث عدد معتدّ به من المکلّفین .‏

‏فالاستهجان بالنسبة إلی الخطاب العامّ إنّما یلزم لو علم المتکلّم بعدم تأثیر‏‎ ‎‏ذلک الخطاب العامّ فی کلّ المکلّفین ، وأمّا مع احتمال التأثیر فی عدد معتدّ به غیر‏‎ ‎‏مضبوط تحت عنوان خاصّ فلا محیص عن الخطاب العمومی ولا استهجان فیه‏‎ ‎‏أصلاً ، کما أنّ الأمر کذلک فی القوانین العرفیة العامّة .‏

‏وبما ذکرنا یظهر الکلام فی الخارج عن محلّ الابتلاء .‏

‏والقول بأنّ خطاب العاجز والجاهل وغیر المبتلی بمورد التکلیف قبیح أو‏‎ ‎‏غیر ممکن صحیح لو کان الخطاب شخصیاً ، وأمّا إذا کان بصورة التقنین فیکفی فی‏‎ ‎‏خطاب الجمیع کون عدد معتدّ به من المکلّفین واجداً لما ذکرنا من الشرائط . وأمّا‏‎ ‎‏الفاقد لها فهو معذور عقلاً مع فعلیة التکلیف ، کالعجز والجهل .‏

وبالجملة :‏ لیس هنا إلاّ إرادة واحدة تشریعیة متعلّقة بخطاب واحد ، ولیس‏‎ ‎‏الموضوع إلاّ أحد العناوین العامّة ، من دون أن یقیّد بقید أصلاً . والخطاب بما هو‏‎ ‎‏خطاب وحدانی متعلّق لعنوان عامّ حجّة علی الجمیع ، والملاک فی صحّة الخطاب‏‎ ‎‏ما عرفت .‏

‏والحکم فعلی مطلقاً ، من دون أن یصیر الحکم فعلیاً تارة وإنشائیاً اُخری ، أو‏‎ ‎‏مریداً فی حالة وغیر مرید فی حالة اُخری . وما أوضحناه هو حال القوانین الدارجة‏‎ ‎‏فی العالَم . والإسلام لم یتّخذ مسلکاً غیرها ولم یطرق باباً سوی ما طرقه العقلاء من‏‎ ‎‏الناس ، وسیوافیک مفاسد الخطاب الشخصی .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 229
‏لا یقال : ما معنی الحکم المشترک فیه الناس ؟ وما معنی کون کلّ واحد منّا‏‎ ‎‏مکلّفاً بإقامة الصلاة وإیتاء الزکاة ؟ وظاهر هذا تعدّد الخطاب وکثرة التکلیف ، فلا‏‎ ‎‏یعقل کثرة التکالیف مع وحدة الخطاب .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ الخطابات الشرعیة منحلّة بعدد نفوس المکلّفین ، ولا‏‎ ‎‏یکاد یخفی : أنّ الخطاب المنحلّ المتوجّه إلی غیر المتمکّن أو غیر المبتلی‏‎ ‎‏مستهجن .‏

‏لأنّا نقول : إن اُرید من الانحلال کون کلّ خطاب خطابات بعدد المکلّفین ؛‏‎ ‎‏حتّی یکون کلّ مکلّف مخصوصاً بخطاب خاصّ به وتکلیف مستقلّ متوجّه إلیه فهو‏‎ ‎‏ضروری البطلان ؛ فإنّ قوله تعالی : ‏‏«‏یا أَیُّها الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ‏»‏‎[1]‎‏ خطاب‏‎ ‎‏واحد لعموم المؤمنین ، فالخطاب واحد والمخاطب کثیر . کما أنّ الإخبار بأنّ «کلّ‏‎ ‎‏نار حارّة» إخبار واحد والمخبر عنه کثیر . فلو قال أحد : «کلّ نار بارد» فلم یکذب‏‎ ‎‏إلاّ کذباً واحداً ، لا أکاذیب متعدّدة حسب أفراد النار .‏

‏فلو قال : ‏‏«‏وَلا تَقْرَبُوا الزِّنیٰ‏»‏‎[2]‎‏ فهو خطاب واحد متوجّه إلی کلّ مکلّف ،‏‎ ‎‏ویکون الزنا تمام الموضوع للحرمة ، والمکلّف تمام الموضوع لتوجّه الخطاب إلیه .‏‎ ‎‏وهذا الخطاب الوحدانی یکون حجّة علی کلّ مکلّف ، من غیر إنشاء تکالیف‏‎ ‎‏مستقلّة أو توجّه خطابات عدیدة .‏

‏لست أقول : إنّ المنشأ تکلیف واحد لمجموع المکلّفین ؛ فإنّه ضروری‏‎ ‎‏الفساد ، بل أقول : إنّ الخطاب واحد والإنشاء واحد ، والمنشأ هو حرمة الزنا علی‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 230
‏کلّ مکلّف ، من غیر توجّه خطاب خاصّ أو تکلیف مستقلّ إلی کلّ واحد ، ولا‏‎ ‎‏استهجان فی هذا الخطاب العمومی إذا کان المکلّف فی بعض الأحوال أو بالنسبة‏‎ ‎‏إلی بعضٍ الأمکنة غیر متمکّن عقلاً أو عادة ، فالخمر حرام علی کلّ أحد ؛ تمکّن من‏‎ ‎‏شربها أو لا .‏

‏ولیس جعل الحرمة لغیر المتمکّن بالخصوص حتّی یقال : إنّه یستهجن‏‎ ‎‏الخطاب ، فلیس للمولی إلاّ خطاب واحد لعنوان واحد ؛ وهو حجّة علی الناس‏‎ ‎‏کلّهم . ولا إشکال فی عدم استهجان الخطاب العمومی ، فکما لا إشکال فی أنّ‏‎ ‎‏التکالیف الشرعیة لیست مقیّدة بالقدرة والعلم ـ کما سیوافیک بیانه ـ فکذلک غیر‏‎ ‎‏مقیّدة بالدخول فی محلّ الابتلاء .‏

ثمّ‏ إنّه یترتّب علی القول بکون الخطابات شخصیة ـ أی منحلّة إلی خطابات‏‎ ‎‏یلاحظ فیها عدم الاستهجان ـ مفاسد :‏

منها :‏ عدم صحّة خطاب العصاة من المسلمین ؛ فإنّ خطاب من لا ینبعث به‏‎ ‎‏قبیح أو غیر ممکن ؛ فإنّ الإرادة الجزمیة لا تحصل فی لوح النفس إلاّ بعد حصول‏‎ ‎‏مبادئ قبلها ، التی منها احتمال حصول المراد ، والمفروض القطع بعدم حصوله .‏

ومنها :‏ عدم صحّة تکلیف الکفّار بالاُصول والفروع بالملاک الذی قرّرناه .‏

ومنها :‏ قبح تکلیف صاحب المروّة بستر العورة ؛ فإنّ الدواعی مصروفة عن‏‎ ‎‏کشف العورة ، فلا یصحّ الخطاب ؛ إذ أیّ فرق بین النهی عن شرب الخمر الموجود‏‎ ‎‏فی أقاصی الدنیا وبین نهی صاحب المروّة عن کشف سوأته بین ملأ من الناس ؟ !‏

‏ونظیره نهی المکلّفین عن شرب البول وأکل القاذورات ممّا یکون الدواعی‏‎ ‎‏عن الإتیان بها مصروفة ؛ إذ أیّ فرق بین عدم القدرة العادیة أو العقلیة علی العمل ،‏‎ ‎‏وبین کون الدواعی مصروفة عنها ؟ !‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 231
‏وما أفاده بعض الأعاظم من أنّ التکلیف غیر مقیّد بالإرادة ؛ لأنّ التقیید بها‏‎ ‎‏غیر معقول ، بخلاف القدرة العقلیة والعادیة قد وافاک جوابه‏‎[3]‎‏ ؛ فإنّ التکلیف لأجل‏‎ ‎‏إیجاد الداعی ؛ ولو لأجل الخوف والطمع فی الثواب ، والتارک للشیء بالطبع ـ سواء‏‎ ‎‏نهی المولی عنه أو لم ینهه عنه ـ تارک له مطلقاً ، فالزجر لغو أو غیر ممکن ؛ لعدم‏‎ ‎‏تحقّق ما هو المبادئ للإرادة الجدّیة ، کما أوضحناه .‏

ومنها :‏ یلزم علی کون الخطاب شخصیاً عدم وجوب الاحتیاط عند الشکّ‏‎ ‎‏فی القدرة ؛ لکون الشکّ فی تحقّق ما هو جزء للموضوع ؛ لأنّ خطاب العاجز قبیح ،‏‎ ‎‏والشکّ فی حصول القدرة وعدمها شکّ فی المصداق ، وهو خلاف السیرة الموجودة‏‎ ‎‏بین الفقهاء ؛ من لزوم الاحتیاط عند الشکّ فی القدرة .‏

ومنها :‏ لزوم الالتزام بأنّ الخطابات وأحکام الوضعیة مختصّة بما هو محلّ‏‎ ‎‏الابتلاء ؛ لأنّ جعل الحکم الوضعی إن کان تبعاً للتکلیف فواضح ، ومع عدم التبعیة‏‎ ‎‏والاستقلال بالجعل فالجعل إنّما هو بلحاظ الآثار ؛ ولهذا لا یمکن جعل حکم‏‎ ‎‏وضعی لا یترتّب علیه أثر مطلقاً .‏

‏فجعل النجاسة للخمر والبول للآثار المترتّبة علیها ، کحرمة الشرب وبطلان‏‎ ‎‏الصلاة مع تلوّث اللباس بها ، ومع الخروج عن محلّ الابتلاء لا یترتّب علیها آثار .‏

‏فلابدّ من الالتزام بأنّ النجاسة والحلّیة وغیرهما من الوضعیات من الاُمور‏‎ ‎‏النسبیة بلحاظ المکلّفین ، فیکون الخمر والبول نجسان بالنسبة إلی من کان مبتلی‏‎ ‎‏بهما ، دون غیرهما ، ولا أظنّ التزامهم بذلک ؛ للزوم الاختلال فی الفقه ، والدلیل‏‎ ‎‏العقلی غیر قابل للتخصیص فیکشف ذلک عن بطلان المبنی .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 232
‏وعلی ما حقّقناه فکلّها مندفعة ؛ فإنّ الخطابات الإلهیة فعلیة فی حقّ الجمیع ؛‏‎ ‎‏کان المکلّف عاجزاً أو جاهلاً ، أو مصروفاً عنه دواعیه أو لم یکن ؛ وإن کان العجز‏‎ ‎‏والجهل عذرین  عقلیین .‏

‏وقس علیه الخروج عن محلّ الابتلاء ، فهو لا یوجب نقصاناً فی التکلیف ،‏‎ ‎‏ولابدّ من الخروج عن عهدته بترک ما یکون فی محلّ الابتلاء .‏

‏وقد عرفت أنّ ما هو الشرط فی صحّة الخطاب القانونی غیر ما هو الشرط‏‎ ‎‏فی صحّة الخطاب الشخصی ، من غیر فرق بین التکلیف المعلوم بالتفصیل أو‏‎ ‎‏بالإجمال . فالتکلیف المعلوم لابدّ من الخروج عن عهدته بالموافقة القطعیة ،‏‎ ‎‏والاجتناب عن المخالفة القطعیة والاحتمالیة .‏

‏ومجرّد کون أحد الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء أو مصروفة عنه‏‎ ‎‏الدواعی لا یوجب نقصاناً فی التکلیف القانونی ؛ وإن کان موجباً له فی الشخصی .‏

‏وأمّا صحیحة علی بن جعفر عن أخیه ‏‏علیه السلام‏‏ : «فیمن رعف فامتخط فصار الدم‏‎ ‎‏قطعاً صغاراً ، فأصاب إناءه . . .»‏‎[4]‎‏ إلی آخره فقد حمله الشیخ الأعظم ‏‏قدس سره‏‏ علی العلم‏‎ ‎‏الإجمالی بإصابة ظَهر الإناء أو باطنه المحتوی للماء . ثمّ علّل عدم وجوب‏‎ ‎‏الاجتناب عن الماء بخروج ظهر الإناء عن محلّ الابتلاء‏‎[5]‎‏ ، وهو بمکان من الغرابة ؛‏‎ ‎‏إذ کیف یکون ظهر الإناء الذی بین یدی المکلّف خارجاً عن ابتلائه .‏

‏وأمّا الحدیث فلابدّ من تأویله وحمله : إمّا علی الأجزاء الصغار التی لا‏‎ ‎‏یدرکه الطرف وإن کانت مرئیة بالنظّارات ، إلاّ أنّ الدم المرئی بها لیست موضوعة‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 233
‏للحکم الشرعی . ولا ینافی هذا الحمل مع العلم بإصابة الإناء ؛ فإنّ العلم بها غیر‏‎ ‎‏إدراک الطرف . وإمّا علی إبداء الشکّ فی أصل الإصابة مطلقاً .‏

‏وعلی أیّ حال : فهی بظاهرها ممّا أعرض عنها الأصحاب .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 234

  • )) المائدة (5) : 1 .
  • )) الإسراء (17) : 32 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 226 ـ 227 .
  • )) الکافی 3 : 74 / 16 ، وسائل الشیعة 1 : 150 ، کتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 8 ، الحدیث 1 .
  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25 : 236 .