المقصد السابع فی الاُصول العملیة

الأمر الثانی فی شرطیة الابتلاء لتنجیز العلم الإجمالی

الأمر الثانی فی شرطیة الابتلاء لتنجیز العلم الإجمالی

‏ ‏

‏قد استقرّ آراء جلّ المتأخّرین من أهل التحقیق علی عدم لزوم الاجتناب عن‏‎ ‎‏الأطراف إذا خرج بعضها عن محلّ الابتلاء فی الجملة .‏

وتوضیحه :‏ أنّ الأمر والنهی لداعی البعث والزجر ، ولأجل ذلک یتوقّف صحّة‏‎ ‎‏البعث والزجر علی تحقّق اُمور :‏

الأوّل :‏ کون المکلّف قادراً علی الامتثال ؛ فإنّ خطاب غیر القادر أمر قبیح ،‏‎ ‎‏بل لا ینقدح الإرادة الجدّیة فی لوح النفس ، وهو من الوضوح بمکان .‏

الثانی :‏ أن یکون مورد التکلیف مورد الابتلاء نوعاً ؛ بحیث لا یعدّ من‏‎ ‎‏المحالات النوعیة حتّی لا یکون البعث إلیه والزجر عنه لغواً ، کجعل الحرمة للخمر‏‎ ‎‏الموجود فی إحدی الکرات السماویة التی کان یعدّ من المحالات العادیة ابتلاء‏‎ ‎‏المکلّف بها .‏

والحاصل :‏ أنّ التکالیف إنّما تتوجّه إلی المکلّفین لأجل إیجاد الداعی إلی‏‎ ‎‏الفعل أو الترک ، فما لا یمکن عادة ترکه لا مجال لتعلّق التکلیف به . فالنهی المطلق‏‎ ‎‏عن شرب الخمر الموجود فی أقاصی بلاد المغرب أو ترک وطی جاریة سلطان‏‎ ‎‏الصین یکون مستهجناً ، فإذا کان هذا حال خطاب التفصیلی فالحال فی الإجمالی‏‎ ‎‏منه واضح جدّاً .‏

الثالث :‏ أن لا یکون الدواعی مصروفة عنه نوعاً ، کالنهی عن عضّ رأس‏‎ ‎‏الشجرة ، کما مثّل بهما سیّد المحقّقین ، السیّد محمّد الفشارکی ، علی ما حکاه عنه‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 225
‏شیخنا العلاّمة ـ أعلی الله مقامه ـ فإنّک لا تجد أحداً أحسّ أمراً وعرف یمینه عن‏‎ ‎‏یساره یفعل هذا حسب العادة النوعیة .‏

‏ولا یبعد شمول عنوان المبحث لهذا الشرط أیضاً ؛ فإنّ مرادهم من الخروج‏‎ ‎‏عن محلّ الابتلاء بمورد التکلیف أعمّ ممّا یکون غیر مقدور عادة أو یرغب عنه‏‎ ‎‏الناس ، ویکون الدواعی مصروفة عنها . والمیزان فی کلّ الموارد هو استهجان‏‎ ‎‏الخطاب عند العقلاء .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ الغرض من الأمر والنهی لیس إلاّ حصول ما اشتمل علی‏‎ ‎‏المصلحة أو عدم حصول ما اشتمل علی المفسدة ، ومع عدم التمکّن العادی علی‏‎ ‎‏الترک أو الفعل أو صرف الدواعی عن الارتکاب لا تکاد تفوت المصلحة أو تحصل‏‎ ‎‏المفسدة ، فلا موجب للتکلیف ، بل لا یصحّ ؛ لاستهجانه .‏

وأمّا ما أفاده بعض أعاظم العصر ‏قدس سره‏‏ من التفصیل بین عدم القدرة العادیة وعدم‏‎ ‎‏الإرادة عادة ، بتقریب : أنّ القدرة من شرائط حسن الخطاب ، ولابدّ من أخذها قیداً‏‎ ‎‏فی التکلیف ، وأمّا إرادة الفعل فلیس لها دخل فی حسن الخطاب ، ولا یعقل أخذها‏‎ ‎‏قیداً فیه وجوداً وعدماً ؛ لأنّه من الانقسامات اللاحقة للتکلیف‏‎[1]‎‏ .‏

فلا یخلو من إشکال ؛‏ فإنّ التفریق بین عدم القدرة العقلیة أو العادیة ووجود‏‎ ‎‏الداعی الطبیعی إلی العمل أو الانزجار الفطری عنه ، بعدم صحّة الخطاب فی الأوّلین‏‎ ‎‏والصحّة فی الآخرین فی غایة الغرابة ؛ فإنّ خطاب من یرید الفعل طبعاً أو یترک‏‎ ‎‏الشیء مستهجن ؛ لعدم الملاک لإظهار الإرادة ، کخطاب من لا یقدر .‏

‏فکما لا یصحّ النهی عن فعل غیر مقدور عادة کذلک یقبح النهی عن شیء‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 226
‏لا ینقدح فی الأذهان احتمال ارتکابه ، کالنهی عن کشف العورة بین الناس ؛ موجّهاً‏‎ ‎‏ذلک الخطاب إلی صاحب المروّة ، والنهی عن أکل القاذورات .‏

وأمّا ما عن بعض الأعیان المحقّقین ‏قدس سره‏‏ من کفایة الإمکان الذاتی أو الإمکان‏‎ ‎‏الوقوعی فی صحّة الخطاب ، وهذا تمام الملاک لصحّة الخطاب ، وعلیه یصحّ‏‎ ‎‏الخطاب فی موارد الابتلاء وعدمه‏‎[2]‎‏ .‏

ضعیف ؛‏ فإنّ کفایة الإمکان الذاتی فی هذا الباب غریب ؛ فإنّ خطاب من لا‏‎ ‎‏ینبعث عن أمر المولی خطاباً حقیقیاً مستهجن جدّاً ؛ فإنّ الإرادة التشریعیة لا تنقدح‏‎ ‎‏إلاّ بعد حصول مبادئها .‏

‏وقس علیه الخطاب القانونی ؛ فإنّ مقنّن الحکم لو وقف علی أنّ ما یشرّعه لا‏‎ ‎‏یکاد یعمل به أصلاً ولا ینبعث منه أحد ، صار جعله وتقنینه مستهجناً جدّاً ؛ وإن جاز‏‎ ‎‏الإمکان الذاتی أو الوقوعی .‏

وأعجب منه ما نقله ‏قدس سره‏‏ عن بعض أجلّة عصره من أنّ التکلیف لیس زجراً ولا‏‎ ‎‏بعثاً ، بل إلزام من المولی بالنسبة إلی العبد ، فیعمّ عامّة الموارد ـ أی موارد الابتلاء‏‎ ‎‏وعدمه ـ فإنّ ما هو المستهجن إنّما هو البعث أو الزجر المتضمّنین للخطاب دون‏‎ ‎‏الإلزام‏‎[3]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّ غایة ما اُفید أنّه لا یخرج التکلیف عن دائرة الأحکام الوضعیة أو‏‎ ‎‏أشبه شیء به ، ومع ذلک فهی من مقولة الجعل والاعتبار ، لا یصحّ إلاّ إذا کان له أثر‏‎ ‎‏عقلائی ، ومع عدمه ـ کما فی الموارد التی لم یوجد فیها بعض الشروط المتقدّمة ـ‏‎ ‎‏کان الجعل والاعتبار والإلزام لغواً محضاً .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 227
‏مضافاً إلی أنّ الإلزام بالفعل والترک کأنّه عبارة اُخری عن البعث والزجر‏‎ ‎‏المنتزع منهما الوجوب والحرمة . مع أنّ إنکار کون التکالیف عبارة عن البعث‏‎ ‎‏والزجر کأنّه إنکار الضروری .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 228

  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 4 : 53 .
  • )) نهایة الدرایة 4 : 264 .
  • )) نفس المصدر 4 : 265 .