الوجه الثالث : ما أفاده بعض محشّی «الفرائد» ، وأوضحه عدّة من المشایخ ؛ منهم شیخنا العلاّمة وبعض أعاظم العصر ـ قدّس الله أرواحهم ـ وملخّصه : أنّ نسبة أدلّة الاُصول إلی کلّ واحد من الأطراف وإن کانت علی حدّ سواء ، لکن لا یقتضی ذلک سقوطها عن جمیع الأطراف .
توضیحه : أنّ الأدلّة المرخّصة کما یکون لها عموم أفرادی بالنسبة إلی کلّ مشتبه ، کذلک یکون لهما إطلاق أحوالی بالنسبة إلی حالات المشتبه . فکلّ مشتبه مأذون فیه ـ أتی المکلّف بالآخر أو ترکه ـ وإنّما یقع التزاحم بین إطلاقهما لا أصلهما ؛ فإنّ الترخیص فی کلّ واحد منهما فی حال ترک الآخر ممّا لا مانع منه .
فالمخالفة العملیة إنّما نشأت من إطلاق الحجّیة ، فلابدّ من رفع الید عن إطلاقهما لا أصلهما ، فتصیر النتیجة الإذن فی کلّ واحد مشروطاً بترک الآخر ، وهذا مساوق للترخیص التخییری ، وهذا نظیر باب التزاحم وحجّیة الأمارات علی السببیة .
وفیه : ما قد عرفت أنّ ما یصحّ الاعتماد به من الأدلّة إنّما هو صحیحة عبدالله بن سنان ، وأمّا الباقی فقد عرفت فیه الضعف فی السند أو فی الدلالة .
وأمّا الصحیحة : فقد تقدّم أنّ الموضوع فیها غیر الموضوع فی قوله علیه السلام : «کلّ شیء حلال حتّی تعلم أنّه حرام بعینه» ؛ فإنّ الموضوع فی الثانی إنّما هو کلّ فردٍ فردٍ أو کلّ جزءٍ جزءٍ ، فیقال فی الحرام المختلط بالحلال بحلّیة کلّ جزء ، فلو
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 208
صحّ ما ذکر من التقریب لصحّ تقییده بما ذکر من ترک الآخر ، وأمّا الصحیحة فما هو الموضوع لیس إلاّ کون الشیء فیه الحلال والحرام بالفعل ، وهو لیس إلاّ مجموع المختلط ، والضمیر فی قوله «منه» راجع إلی الشیء المقیّد بأنّ فیه الحلال والحرام .
وبالجملة : فالموضوع فی غیر الصحیحـة هـو کلّ جزء جزء مستقلاًّ ، وأمّـا فیها فلیس کـلّ جـزء محکوماً بالحلّیـة بالاستقلال ، بل الموضوع هـو نفس المجموع بما هو هو .
فلو صحّ الإطلاق فیها فلابدّ أن یکون مصبّه ما هو الموضوع ؛ بأن یقال : إنّ هذا المختلط محکوم بالحلّیة ؛ سواء کان المختلط الآخر محکوماً بها أو لا ، فلو قیّد بحکم العقل یصیر نتیجة التقیید هو حلّیة هذا المختلط عند ترک المختلط الآخر ، وهو خلاف المطلوب .
ولا یصحّ أن یقال : إنّ هذا الجزء محکوم بالحلّیة ؛ سواء کان الجزء الآخر محکوماً أو لا ؛ حتّی یصیر نتیجة التقیید بحکم العقل ما ادّعی من جواز ارتکاب هذا الجزء عند ترک الآخر ؛ لأنّ الجزء لیس محکوماً بحکم حتّی یقع مصبّ الإطلاق والتقیید .
ولو صحّ جریان الصحیحة فی الإنائین المشتبهین فالمحکوم بالحلّیة إنّما هو الکلّ ، لا کلّ واحد منهما حتّی یؤخذ بإطلاقه الأحوالی ویقیّد بمقدار ما دلّ علیه حکم العقل . مضافاً إلی أنّ فی إطلاق الأدلّة بنحو ما ذکر کلاماً وإشکالاً .
ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر قد أجاب عنه بکلام طویل ، ونحن نذکر خلاصة مرماه ، فنقول : قال قدس سره : إنّ الموارد التی نقول فیها بالتخییر مع عدم قیام دلیل علیه بالخصوص لا تخلو عن أحد أمرین : إمّا لاقتضاء الدلیل الدالّ علی الحکم التخییرَ فی العمل ، وإمّا اقتضاء المنکشف والمدلول ذلک ؛ وإن کان الدلیل یقتضی التعیینیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 209
فمن الأوّل : ما إذا ورد عامّ کقوله : «أکرم العلماء» وعلم بخروج زید وعمرو عن العامّ ، وشکّ فی أنّ خروجهما هل هو علی وجه الإطلاق ، أو أنّ خروج کلّ واحد مشروط بحال إکرام الآخر ؛ بحیث یلزم من خروج أحدهما دخول الآخر ، فیدور الأمر بین کون المخصّص أفرادیاً وأحوالیاً ، أو أحوالیاً فقط ، فلابدّ من القول بالتخییر .
وإنّما نشأ ذلک من اجتماع دلیل العامّ وإجمال المخصّص ووجوب الاقتصار علی القدر المتیقّن فی التخصیص ، ولیس التخییر لأجل اقتضاء المجعول ، بل المجعول فی کلّ من العامّ والخاصّ هو الحکم التعیینی ، والتخییر نشأ من ناحیة الدلیل لا المدلول .
ومن الثانی : ما إذا تزاحم الواجبان فی مقام الامتثال ؛ لعدم القدرة علی الجمع بینهما ؛ فإنّ التخییر فی باب التزاحم إنّما هو لأجل أنّ المجعول فی باب التکالیف معنیً یقتضی التخییر ؛ لاعتبار القدرة فی امتثالها ، والمفروض حصول القدرة علی امتثال کلّ من المتزاحمین عند ترک الآخر .
وحیث لا ترجیح فی البین ، وکلّ تکلیف یستدعی نفی الموانع عن متعلّقه وحفظ القدرة علیه فالعقل یستقلّ ـ حینئذٍ ـ بصرف القدرة فی أحدهما تخییراً ؛ إمّا لأجل تقیید التکلیف فی کلّ منهما بحال عدم امتثال الآخر ، وإمّا لأجل سقوط التکلیفین واستکشاف العقل حکماً تخییریاً لوجود الملاک التامّ .
وأمّا الاُصول : فلا شاهد علی التخییر فیها إذا تعارضت ؛ لا من ناحیة الدلیل ؛ فإنّ دلیل اعتبار کلّ أصل إنّما یقتضی جریانه عیناً ـ سواء عارضه أصل آخر أو لا ـ ولا من ناحیة المدلول ؛ فلأنّ المجعول فیها لیس إلاّ الحکم بتطبیق العمل علی مؤدّی الأصل مع انحفاظ رتبة الحکم الظاهری باجتماع القیود الثلاثة ؛ وهی الجهل
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 210
بالواقع وإمکان الحکم علی المؤدّی بأنّه الواقع وعدم لزوم المخالفة العملیة .
وحیث إنّه یلزم من جریان الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی مخالفة عملیة فلا یمکن جعلها جمیعاً ، وکون المجعول أحدها تخییراً وإن کان ممکناً إلاّ أنّه لا دلیل علیه ، انتهی کلامه .
وفیه مواقع للنظر ، نذکر مهمّاتها :
الأوّل : ما أفاده من أنّ التخییر فی الصورة الاُولی من ناحیة الکاشف لا المنکشف ؛ قائلاً بأنّ المجعول فی کلّ من العامّ والخاصّ هو الحکم التعیینی ، لیس فی محلّه ؛ إذ لو کان المجعول فی المخصّص أمراً تعیینیاً لم یبق مجال للشکّ ؛ لأنّ المفروض أنّ زیداً وعمراً قد خرجا عن تحت العامّ بنحو التعیین ، فلا وجه للشکّ .
ولا مناص إلاّ أن یقال : إنّ الباعث للشکّ هو احتمال کون المجعول فی المخصّص أمراً ینطبق علی التخییر ؛ بأن یتردّد المجعول بین خروج کلّ فرد مستقلاًّ أو خروج کلّ واحد مشروطاً بعدم خروج الآخر ـ علی مبناه فی الواجب التخییری ـ وبما أنّ العامّ حجّة فی أفراد العامّ وأحواله فلازم ذلک الاکتفاء بما هو القدر المتیقّن ؛ أعنی خروج کلّ عند عدم خروج الآخر .
والحاصل : أنّ الموجب للتخییر إنّما هو دوران الأمر فی المخصّص بین التعیین والتخییر ـ أی خروج الفردین مطلقاً أو خروج کلّ منهما مشروطاً بدخول الآخر ـ والثانی هو القدر المتیقّن من التصرّف فی العامّ . نعم لو علمنا بخروج زید ، وتردّد بین کونه زید بن عمرو أو زید بن بکر نحکم بالتخییر ، لا من جهة الکاشف ولا المنکشف ، بل من جهة حکم العقل به .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 211
الثانی : أنّ جعل التخییر بین المتزاحمین فی الصورة الثانیة من ناحیة المجعول غیر صحیح ، بل التخییر من ناحیة الکاشف والدلیل ؛ ضرورة أنّ المجعول فی المتزاحمین هو التعیین ؛ لتعلّق الإرادة بکلّ واحد کذلک ، غیر أنّ عجز العبد عن القیام بکلتا الوظیفتین أوجب حکم العقل بالتخییر ؛ لملاحظة أنّ العامّ له إطلاق أحوالی ، وکون المکلّف عاجزاً عن القیام بکلا المتزاحمین یوجب الاقتصار علی القدر المتیقّن فی التصرّف فیه .
فالتخییر نشأ من إطلاق الدلیل ، وعدم الدلیل علی التصرّف فیه ، إلاّ بمقدار یحکم العقل بامتناع العمل بالعامّ ؛ وهو الأخذ بالإطلاق الأحوالی فی کلا الفردین . فلابدّ من التصرّف فیه من تلک الجهة .
وما أفاده : من أنّ الأحکام متقیّدة بالقدرة ، فإن اُرید منه تقییدها بالقدرة شرعاً حتّی یصیر عامّة الواجبات تکلیفاً مشروطاً فهو کما تری ، وإن اُرید أنّ التنجّز إنّما هو فی ظرف القدرة ـ کما أنّ تبعاته من الثواب والعقاب فی هذا الظرف ـ فهو متین ، غیر أنّ ذلک لا یوجب أن یکون المجعول فی رتبة الجعل أمراً تخییریاً ؛ ضرورة أنّ المقنّن لا نظر له إلی مقام الامتثال ، بل هو أمر خارج عن حیطة الشارع المقنّن ، بل هو من الاُمور التی زمامها بید العقل .
ولو فرض ورود خطاب من الشارع فی مقام الامتثال فهو خطاب لا بما هو مشرّع ، بل یتکلّم من جانب العقلاء مع قطع النظر عن کونه مشرّعاً ومقنّناً .
وبالجملة : لا فرق بین الصورة الاُولی والثانیة إلاّ من ناحیة المخصّص ؛ فإنّ المخصّص فی الاُولی دلیل لفظی مجمل دائر بین الأقلّ والأکثر ، وفی الثانیة عقلی یحکم بخروج القدر المتیقّن من العامّ .
نعم ، لو بنینا علی أنّ التکلیفین یسقطان معاً ، ویستکشف العقل لأجل الملاک
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 212
التامّ حکماً تخییریاً یمکن أن یقال : إنّ التخییر بینهما إنّما یکون لأجل المدلول ، لا الدلیل ـ علی إشکال فیه ـ لکنّه علی خلاف مسلکه .
الثالث : أنّ لنا أن نقول : إنّ التخییر بین الأصلین المتعارضین من مقتضیات الدلیل والکاشف ، ومن مقتضیات المنکشف والمدلول :
أمّا الأوّل : فبأن یقال : إنّ قوله علیه السلام : «کلّ شیء فیه حلال وحرام . . .» إلی آخره یدلّ علی حلّیة کلّ مشتبه ، وله عموم أفرادی وإطلاق أحوالی ، ولکن الإذن فی حلّیة کلّ واحد یوجب الإذن فی المعصیة والترخیص فی مخالفة المولی .
وبما أنّ الموجب لذلک هو إطلاق دلیل الأصلین لا عمومه فیقتصر فی مقام العلاج إلی تقییده ؛ وهو حلّیة ذاک عند عدم حلّیة الآخر ؛ حتّی لا یلزم خروج کلّ فرد علی نحو الإطلاق ، فیکون مرجع الشکّ إلی الجهل بمقدار الخارج . فالعموم حجّة حتّی یجیء الأمر البیّن علی خلافه .
والحاصل : کما أنّ الموجب للتخییر فی الصورة الاُولی هو اجتماع دلیل العامّ وإجمال دلیل الخاصّ بضمیمة وجوب الاقتصار علی القدر المتیقّن فی التخصیص ، کذلک اجتماع دلیل الاُصول مع لزوم التخصیص ـ حذراً من المخالفة العملیة ـ ودورانه بین خروج الفردین مطلقاً وفی جمیع الأحوال أو خروج کلّ منهما فی حال عدم ارتکاب الآخر موجب للتخییر فی المقام .
بل ما نحن فیه أولی منه ؛ لأنّ المخصّص هنا عقلی ، والعقل یحکم بأنّ ما یوجب الامتناع هو إطلاق الدلیل لا عمومه الأفرادی ، فلیس المخصّص ـ حکم العقل ـ مجملاً دائراً بین الأقلّ والأکثر ، کما فی المثال . فیحکم العقل ـ حکماً باتّاً ـ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 213
بأنّ ملاک التصرّف فی أدلّة الحلّیة لیس إلاّ تقیید الإطلاق لا تخصیص الأفراد .
وأمّا الثانی : فلأنّ الحلّیة المستفادة من أدلّة الاُصول مقیّدة بکون المکلّف قادراً حسب التشریع ؛ أی عدم استلزامه المخالفة العملیة والترخیص فی المعصیة . وإن شئت قلت : مقیّدة عقلاً بعدم استلزامها الإذن فی المعصیة القطعیة .
فحینئذٍ : یجری فیه ما ذکره قدس سره طابق النعل بالنعل ؛ من أنّ کلّ واحد من المتعارضین یقتضی صرف قدرة المکلّف فی متعلّقه ونفی الموانع عن وجوده . فلمّا لم یکن للعبد إلاّ صرف قدرته فی واحد منهما فیقع التعارض بینهما .
فحینئذٍ : فإمّا أن نقول بسقوط التکلیفین واستکشاف العقل تکلیفاً تخییریاً ، أو نقول بتقیید إطلاق کلّ منهما بحال امتثال الآخر ، فیکون حال الاُصول المتعارضة حال المتزاحمین حرفاً بحرف .
هذا حال ما أفاده الأعلام ، وقدطوینا الکلام عن بعض الوجوه ؛ روماً للاختصار، وقد عرفت التحقیق فی جریان الاُصول فی أطراف العلم کلاًّ أو بعضاً ، فراجع .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 214