تفصیل المحقّق النائینی بین الاُصول التنزیلیة وغیرها
ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر رحمه الله فصّل فی دوران الأمر بین المحذورین بین أصالة الإباحة وبین الاُصول التنزیلیة وغیرها ، وجعل محذور کلّ واحد منها أمراً غیر الآخر .
وقد نقلنا شطراً منه فی دوران الأمر بین المحذورین ، وذکرنا هناک بعض المناقشات فی کلامه ، ومع ذلک فلا بأس بنقل شطر آخر من کلامه ، حسب ما یرتبط بالمقام :
فأفاد قدس سره : أمّا غیر أصالـة الإباحـة فی هـذا المورد ـ مـورد الـدوران ـ أو مطلق الاُصول فی غیر هذا المورد : فالوجه فی عدم جریانها لیس هـو عـدم انحفاظ الرتبـة وانتفاء موضـوع الحکم الظاهـری ، بل أمـر آخـر یختلف فیه الاُصول التنزیلیة مع غیرها :
أمّا غیرها : فالوجه هو لزوم المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم فی البین .
وأمّا التنزیلیة : فالسرّ فیها هو قصور المجعول فیها عن شموله لأطراف العلم
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 196
الإجمالی ؛ لأنّ المجعول فیها هو الأخذ بأحد طرفی الشکّ علی أنّه هو الواقع ، وهذا المعنی من الحکم الظاهری لا یمکن جعله بالنسبة إلی جمیع الأفراد ؛ للعلم بانتقاض الحالة السابقة فی بعض الأطراف .
فالإحراز التعبّدی لا یجتمع مع الإحراز الوجدانی بالخلاف ، ولا یمکن الحکم ببقاء الطهارة الواقعیة فی کلّ من الإنائین مع العلم بنجاسة أحدهما ، انتهی .
وأنت إذا أحطت خبراً بما ذکرناه : تقف علی ضعف ما أفاده حول الاُصول غیر التنزیلیة ؛ من استلزامه المخالفة القطعیة للتکلیف ؛ لما عرفت من أنّ محلّ البحث هو العلم بالحجّة ، لا العلم بالتکلیف القطعی .
وأمّا ما جعله وجهاً للمنع فی الاُصول التنزیلیة فیرد علیه :
أمّا أوّلاً : فلمنع کون الاستصحاب من الاُصول التنزیلیة ؛ وذلک لأنّ المجعول فی الاُصول التنزیلیة ـ علی ما اعترف به ـ إنّما هو البناء العملی والأخذ بأحد طرفی الشکّ علی أنّه هو الواقع ، وإلقاء الطرف الآخر وجعل الشکّ کالعدم فی عالم التشریع ، کقاعدة التجاوز ؛ حیث إنّ مفاد أخبارها «أنّ الشکّ لیس بشیء» و «إنّما الشکّ إذا کان فی شیء لم یجزه» وفی روایة «بلی ، قد رکعت» .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 197
فأمثال هذه التعابیر یستفاد منها کون القاعدة من الاُصول المحرزة التنزیلیة ، بخلاف أخبار الاستصحاب ؛ فإنّ الظاهر منها لحاظ الشکّ واعتباره ، کما تنادی به التعابیر التی فیها ، کقوله : «لأنّک کنت علی یقین من طهارتک فشککت ، ولیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشکّ أبداً» ؛ ضرورة أنّ الظاهر منه : أنّ الشکّ ملحوظ فیه لکنّه لیس له معه نقض الیقین به ، ولابدّ عند الشکّ ترتیب آثار الیقین الطریقی ، ومعه لا یکون من الاُصول المحرزة .
وأمّا ثانیاً : فلمنع عدم جریانه لو فرض کونه أصلاً محرزاً ، کما سیأتی بیانه .
ثمّ إنّ هنا وجهاً لکون الاستصحاب أصلاً محرزاً ذکرناه فی الدورة السابقة ، ومحصّله : أنّ الکبری المجعولة فیه تدلّ علی حرمة نقض الیقین ـ أی السابق ـ بالشکّ عملاً ، ووجوب ترتیب آثار الیقین الطریقی فی ظرف الشکّ ، ولمّا کان الیقین الطریقی کاشفاً عن الواقع کان العامل بیقینه یعمل به علی أنّه هو الواقع ؛ لکونه منکشفاً لدیه .
فالعالم بوجوب صلاة الجمعة یأتی بها فی زمن الیقین بما أنّه الواقع ، فإذا قیل له : «لا تنقض الیقین بالشکّ عملاً» یکون معناه : «عامِل معاملة الیقین ورتّب آثاره فی ظرف الشکّ» ، ومعنی ترتیب آثاره أن یأتی بالمشکوک فیه فی زمان الشکّ مبنیاً علی أنّه هو الواقع .
وإن شئت قلت : إنّ هـذا الأصل إنّما اعتبر لأجـل التحفّظ علی الواقـع فـی ظـرف الشکّ .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 198
وفیه : أنّ المتیقّن إنّما یعمل علی طبق یقینه من غیر توجّه علی أنّه هو الواقع توجّهاً اسمیاً ، ویأتی بالواقع بالحمل الشائع ، بلا توجّه بأنّه معنون بهذا العنوان .
نعم ، لو سئل عنه : بماذا تفعل ؟ وأنّ ما تعمل هل هو الواقع أو لا ؟ لأجاب بأنّه الواقع ؛ متبدّلاً توجّهه الحرفی إلی الاسمی . وعلیه فمعنی : «لا تنقض الیقین بالشکّ عملاً» هو ترتیب آثار القطع الطریقی ؛ أی الترتیب آثار المتیقّن لا ترتیب آثاره علی أنّه الواقع .
وأمّا حدیث جعل الاستصحاب لأجل التحفّظ علی الواقع : فإن کان المراد منه أنّ جعله بلحاظ حفظ الواقع ، کالاحتیاط فی الشبهات البدویة فهو صحیح ، لکن لا یوجب ذلک أن یکون التعبّد بالمتیقّن علی أنّه الواقع کالاحتیاط ؛ فإنّه أیضاً بلحاظ الواقع لا علی أنّ المشتبه هو الواقع .
وإن کان المراد منه هو التعبّد علی أنّه الواقع فهو ممّا لا شاهد له فی الأدلّة ؛ لأنّ المراد من حرمة النقض بالشکّ إمّا إطالة عمر الیقین علی وجه ضعیف ، أو حرمة النقض عملاً ؛ أی ترتیب آثار الیقین أو المتیقّن علی المختار . وأمّا کونه بصدد بیان وجوب البناء علی أنّه الواقع فلا .
ثمّ لو سلّم کونـه أصلاً محـرزاً فما جعله مانعاً مـن جـریان الاستصحاب فی الأطراف ـ مـن أنّ معنی الاستصحاب هـو الأخـذ بأحـد طرفی الشکّ ، وهـو لا یجتمع مع العلم بانتقاض الحالـة السابقـة فی بعضها ـ لیس بصحیح ؛ لأنّ الجمع بین الحکم الظاهـری والواقـع قـد فرغنا عنه ، کما فرغ هـو قدس سره . فهـذا
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 199
الإشکال لیس شیئاً غیر الإشکال المتوهّم فیه .
فعلیه : فلو علمنا بوقوع نجاسة فی واحد من الإنائین فالتعبّد بکون کلّ واحـد طاهراً واقعاً لا ینافی العلم الإجمالی بکون واحد منهما نجساً یقیناً ؛ لأنّ المنافاة إن رجع إلی جهة الاعتقاد وأنّ الاعتقادین لا یجتمعان ففیه : أنّ الحدیث فی باب الاستصحاب حدیث تعبّد لا اعتقاد واقعی ، وهو یجتمع مع العلم بالخلاف إجمالاً إذا کان للتعبّد فی المقام أثر عملی ، لو سلم عن بقیة الإشکالات ؛ من کونه ترخیصاً فی المعصیة أو موجباً للمخالفة القطعیة ؛ فإنّ المانع عنده قدس سره هو قصور المجعول لا ما ذکر .
وإن رجع إلی أنّ هذا التعبّد لا یصدر من الحکیم مع العلم الوجدانی ففیه : أنّ الممتنع هو التعبّد بشیء فی عرض التعبّد علی خلافه ، وأمّا التعبّد فی ظرف الشکّ علی خلاف العلم الإجمالی الوجدانی فلا .
وإن شئت قلت : إنّ کلّ طـرف مـن الأطـراف یکون مشکوکاً فیه ، فیتمّ أرکان الاستصحاب . ومخالفة أحد الأصلین للواقع لا یوجب عدم جریانه لولا المخالفة العملیة ، کاستصحاب طهارة الماء ونجاسة الید إذا غسل بالماء المشکوک الکرّیة ؛ فإنّ للشارع التعبّد بوجود ما لیس بموجـود ، والتعبّد بتفکیک المتلازمین وتلازم المنفکّین .
وبالجملة : لا مانع من اجتماع الإحراز التعبّدی مع الإحراز الوجدانی بالضدّ .
ثمّ إنّه قدس سره لمّا تنبّه علی هذا الإشکال ، وأنّ لازم کلامه ـ عدم جریان الاُصول المحرزة فی أطراف العلم الإجمالی مطلقاً ؛ وإن لم یلزم مخالفة عملیة ـ هو عدم جواز التفکیک بین المتلازمین الشرعیین ، کطهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 200
بمایع مردّد بین البول والماء ؛ لأنّ استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن ینافی العلم الوجدانی بعدم بقاء الواقع فی أحدهما ، ومن المعلوم اتّفاقهم علی الجریان .
أجاب عن الإشکال فی آخر مبحث الاستصحاب ، فقال ما هذا محصّله : إنّه فرق بین کون مفاد الأصلین متّفقین علی مخالفة ما یعلم تفصیلاً ، کاستصحاب نجاسة الإنائین أو طهارتهما مع العلم بانتقاض الحالة السابقة ؛ فإنّ الاستصحابین یتوافقان فی نفی ما یعلم تفصیلاً ، وبین ما لا یلزم من التعبّد بمؤدّی الأصلین العلم التفصیلی بکذب ما یؤدّیان إلیه ، بل یعلم إجمالاً بعدم مطابقة أحد الأصلین للواقع ، من دون أن یتوافقا فی مخالفة المعلوم تفصیلاً .
وما منعنا عن جریانه فی أطراف العلم الإجمالی هو الأوّل دون الثانی ؛ لأنّه لا یمکن التعبّد بالجمع بین الاستصحابین اللذین یتوافقان فی المؤدّی مع مخالفة مؤدّاهما للمعلوم بالإجمال . وأمّا لزوم التفکیک بین المتلازمین الواقعیین فلا مانع منه ؛لأنّ التلازم بحسب الواقع لا یلازم التلازم بحسب الظاهر ، انتهی .
وفیه أوّلاً : أنّ ما ذکـره لیس فارقـاً بین البابین ؛ لأنّ جـریان الأصل فی هـذا الإناء لیس مصادماً للعلم الوجـدانی ، وکـذا جریانـه فی تلک الإنـاء لیس مصادماً له أیضاً .
نعم ، جریانهما فی کلتیهما مخالف للعلم الإجمالی ، فیعلم مخالفة أحدهما للواقع ، کما أنّ استصحاب طهارة البدن من الماء غیر منافٍ للعلم ، واستصحاب الحدث کذلک . لکن جریانهما منافٍ للعلم الإجمالی ، فیعلم بکذب أحدهما ؛ فما هو ملاک الجریان واللا جریان فی البابین واحد .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 201
ومجرّد توافق الاستصحابین لا یوجب الفرق ، مع أنّ توافقهما أیضاً ممنوع ؛ فإنّ مفاد أحدهما نجاسة أحد الإنائین ومفاد الآخر نجاسة الإناء الآخر ، وإنّما توافقهما نوعی . ومورد الموافقة لیس مجری الأصل ، وما هو مجراه ـ وهو النجاسة الشخصیة ـ لا یکون موافق المضمون مع صاحبه ؛ بحیث ینافی العلم التفصیلی .
وثانیاً : أنّ لازم ما جعله مناط الجریان وعدمه هو جریان الأصل فیما لا یکون الأصلان متوافقی المضمون ، کما إذا علم بوجوب صلاة الجمعة وحرمة شرب التتن سابقاً ، وعلم بانتقاض أحدهما . وجریانه فیهما ـ بناءً علی ما ذکره من الملاک ـ لا غبار فیه ؛ إذ لا یلزم منه سوی ما یلزم فی استصحاب الحدث وطهارة البدن إذا توضّأ بمایع مردّد بین الماء والبول ، مع أنّه من البعید أن یلتزم بجریان الأصل فی هذا المثال .
هذا کلّه فی المخالفة القطعیة ، وأظنّ أنّ هذا المقدار کافٍ فی تحقیق الحال .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 202