الجهة الثانیة : فی وقوع الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی
وتنقیح البحث یتوقّف علی سرد الروایات ، فنقول :
إنّ الروایات الواردة فی المقام علی طائفتین :
الاُولی : ما یظهر منها التعرّض لخصوص أطراف العلم الإجمالی أو الأعمّ منه ومن غیره ، وإلیک بیانه :
1 ـ صحیحة عبدالله بن سنان عن أبی عبدالله علیه السلام ، قال : «کلّ شیء فیه حرام وحلال فهو لک حلال أبداً حتّی تعرف الحرام بعینه ، فتدعه» .
2 ـ ما رواه عبدالله بن سنان عن عبدالله بن سلیمان ، قال : سألت
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 186
أبا جعفر علیه السلام عن الجُبن ، فقال : «لقد سألتنی عن طعام یعجبنی» ، ثمّ أعطی الغلام درهماً ، فقال : «یا غلام ابتع لنا جُبناً» . ثمّ دعی بالغذاء فتغذینا معه ، فأتی بالجبن ، فأکل ، فأکلنا ، فلمّا فرغنا من الغذاء قلت : ما تقول فی الجبن ؟
قال : «أولم ترنی آکله ؟» .
قلت : بلی ولکنّی اُحبّ أن أسمعه منک .
فقال : «ساُخبرک عن الجُبن وغیره : کلّ ما کان فیه حلال وحرام فهو لک حلال حتّی تعرف الحرام بعینه ، فتدعه» .
والکبری الواقعة فیه قریب ممّا وقع فی الصحیحة السابقة .
3 ـ روایة معاویة بن عمّار عن رجل من أصحابنا قال : کنت عند أبی جعفر علیه السلام فسأله رجل عن الجبن .
فقال أبو جعفر علیه السلام : «إنّه لطعام یعجبنی ، وساُخبرک عن الجبن وغیره : کلّ شیء فیه الحلال والحرام فهو لک حلال حتّی تعرف الحرام بعینه» .
ثمّ إنّ الشیخ الأعظم نقل هذه الروایة بزیادة «منه» فلم نجد له إلی الآن مدرکاً .
ویحتمل اتّحاد الثانیة والثالثة من الروایتین ؛ لقرب ألفاظهما وعدم اختلافهما إلاّ فی تنکیر الحلال والحرام وتعریفهما ، ویحتمل اتّحاد الاُولی مع الثانیة أیضاً ؛ لکون الراوی فی الثانیة إنّما هو عبدالله بن سنان عن عبدالله بن سلیمان ، فمن
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 187
الممکن : أنّه نقله تارة مع الواسطة واُخری مع حذفها ، ولیس ببعید مع ملاحظة الروایات ، إلاّ أنّا نتکلّم فیها علی کلّ تقدیر .
فنقول : إنّ فی تلک الروایات احتمالات :
الأوّل : اختصاصها بالشبهة البدویة بأن یقال : إنّ کلّ طبیعة فیه الحرام والحلال وینقسم إلیهما تقسیماً فعلیاً ، واشتبه فرد منها من أنّه من أیّ القسمین فهو لک حلال .
ولکنّک خبیر : بأنّه أردأ الاحتمالات ؛ لأنّ التعبیر عن الشبهة البدویة بهذه العبارة بعید غایته . مع إمکان أن یقول «کلّ ما شککت فهو لک حلال» أو «الناس فی سعة ما لا یعلمون» .
الثانی : اختصاصها بالعلم الإجمالی فقط ؛ فإنّ الظاهر أنّ قوله : «کلّ شیء فیه حلال وحرام فهو لک حلال» أنّ ما فیه الحلال والحرام حلال بحسب الشبهة الموضوعیة ، کما هو مورد الثانیة والثالثة ، ولا یبعد أن یکون مورد الصحیحة هو الموضوعیة أیضاً ، فیصدق قوله فیه الحلال والحرام علی المال المختلط .
فإذا کان عنده خمسون دیناراً ؛ بعضها معلوم الحرمة وبعضها معلوم الحلّیة یقال : إنّه شیء فیه حلال وحرام ، والظاهر من قوله : «فهو لک حلال» ، وأنّ ما فیه الحلال والحرام لک حلال ، فحینئذٍ فالغایة هی العلم التفصیلی . وهذا أقرب الاحتمالات .
الثالث : کونها أعمّ من العلم الإجمالی والشبهة البدویة بأن یقال : إنّ کلّ طبیعة فیه حلال معیّن وحرام معیّن وفرد مشتبه فالمشتبه لک حلال حتّی تعرف الحرام . وإن شئت قلت : إذا علم تفصیلاً حرمة بعض أفراد الطبیعة ، وعلم حلّیة بعض آخر ، وشکّ فی ثالث فیقال : إنّ الماهیة الکذائیة التی فیها حلال وحرام فهی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 188
حلال مع الشبهة حتّی تعرف الحرام ، ولکن إدخال هذا الفرد یحتاج إلی تکلّف خارج عن محور المخاطبة .
وعلی أیّ فرض : فلا محیص فی الاحتمالین الأخیرین إلاّ بجعل الغایة علماً تفصیلیاً ، لا لکون مادّة المعرفة ظاهرة فی مقام التشخیص فی الممیّزات الشخصیة التی لا تنطبق إلاّ علی العلم التفصیلی ، ولا لأنّ قوله : «تعرف» ظاهر فی ذلک ؛ وإن کان کلّ ذلک وجیهاً .
بل لأنّه علی فرض کونه متعرّضاً لخصوص العلم الإجمالی لا معنی لجعل الغایة أعمّ من العلم التفصیلی ، وعلی فرض کونه أعمّ لا معنی لجعل الغایة أعمّ أیضاً ؛ لأنّ لازمه أنّ المشتبه البدوی حلال حتّی یعلم إجمالاً أو تفصیلاً أنّه حرام ، والمعلوم الإجمالی حلال حتّی یعلم تفصیلاً أنّه حرام ، مع أنّه باطل بالضرورة ؛ لأنّ لازم جعل الغایة أعمّ تارة والعلم التفصیلی اُخری هو التناقض أی حلّیة المعلوم بالإجمال وحرمته .
وإن کان المراد أنّ المشتبه البدوی حلال حتّی یعلم إجمالاً وجود الحرام فیه ، فحینئذٍ یرتفع حکمه ، ثمّ یندرج فی صغری المشتبه بالعلم الإجمالی ، فهو حلال إلی أن تعرف الحرام تفصیلاً . فهو وإن کان مفیداً للمقصود لکنّه أشبه شیء بالاُحجیة واللغز .
أضف إلی ذلک : أنّ الظاهر أنّ قوله «بعینه» قید للمعرفة ، وهو یؤیّد کون العرفان لابدّ وأن یکون بالعلم التفصیلی . ویؤیّده أیضاً : الفرق المعروف بین العرفان والعلم ؛ فإنّ الأوّل لا یستعمل إلاّ فی الجزئی المشخّص ، فعلیه فالغایة للصدر
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 189
الشامل للعلم الإجمالی لیس إلاّ العلم تفصیلاً بکون الحرام هذا الشیء المعیّن .
هذا حال الاحتمالات الواردة فی الروایات .
والإنصاف : قوّة الاحتمال الثانی ، کما هو غیر بعید عن روایات الجبن ؛ فإنّ الظاهر : أنّ الاشتباه فی الجبن لأجل جعل المیتة فی بعضها ، کما هو الظاهر فی بعضها مثل ما رواه أبو الجارود قال : سألت أبا جعفر عن الجبن ، فقلت أخبرنی من رأی أنّه یجعل فیه المیتة .
فقال : «أمن أجل مکان واحد یجعل فیه المیتة حرم جمیع ما فی الأرض ؟ ! إذا علمت أنّه میتة فلا تأکله ، وإن لم تعلم فاشتر وبع» .
وما رواه منصور بن حازم عن بکر بن حبیب قال : سُئل أبو عبدالله علیه السلام عن الجبن وأنّه توضع فیه الأنفحة من المیتة .
قال : «لا تصلح» ثمّ أرسل بدرهم ، فقال : «اشتر من رجل مسلم ولا تسأل عن شیء» .
وملخّص الکلام فی هذه الروایات : أنّ اشتراک عبدالله بن سلیمان بین ضعیف وموثّق یسقط الروایة عن الحجّیة .
أضف إلی ذلک : أنّ المراد من الحرام فیها الأنفحة ، کما هو المنصوص فی بعض روایات الباب ، مع أنّ ضرورة فقه الإمامیة قاضیة علی حلّیتها وطهارتها .
وبذلک یظهر الجواب عن روایة ابن عمّار ، مضافاً إلی إرسالها .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 190
فلم یبق فی الباب إلاّ صحیحة عبدالله بن سنان ؛ فبما أنّ ما رواه من الکبری موافقة مع روایة عبدالله بن سلیمان التی رواه نفس عبدالله بن سنان عنه أیضاً فلا بعد لو قلنا باتّحادهما حقیقة ، وأنّ ما استقلّ به عبدالله بن سنان قطعة منها نقلها بحذف خصوصیاتها ، وعلیه فیشترکان فیما ذکرناه من الوهن .
نعم ، یمکن دفع الوهن بأنّ التقیة لیست فی الکبری ، بل فی تطبیقها علی تلک الصغری ، لا بمعنی أنّ حلّیة الأنفحة لأجل التقیة ، بل بمعنی أنّ الکبری لمّا کان أمراً مسلّماً عند الإمام علیه السلام ـ کطهارة الأنفحة وحلّیتها علی خلاف العامّة القائلین بنجاستها ـ فبیّن الإمام علیه السلام الحکم الواقعی فی ظرف خاصّ ـ صورة الشبهة ـ بتطبیق الکبری علی مورد لیس من صغریاته إلزاماً للخصم ، وتقیة منه .
ونجد له فی الفقه أشباهاً ، کما فی صحیحة البزنطی ؛ حیث تمسّک الإمام علیه السلام علی بطلان الحلف علی العتق والطلاق إذا کان مکرهاً بحدیث الرفع ، مع أنّ الحلف علیهما باطل من رأس ؛ سواء کان عن إکراه أو لا ، فتدبّر . ویأتی بعض الکلام حول هذه الروایات عند البحث عن الموافقة القطعیة .
لکنّه أیضاً محلّ إشکال ؛ لاحتمال تمسّکه بالأصل لتسلّمه عندهم لا عنده .
الطائفة الثانیة من الروایات : ما لا اختصاص له بأطراف العلم الإجمالی ، وإلیک بیانها :
1 ـ موثّقة مسعدة بن صدقة ، عن أبی عبدالله علیه السلام قال : سمعته یقول : «کلّ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 191
شیء لک حلال حتّی تعلم أنّـه حـرام بعینه ، فتدعه مـن قبل نفسک ، وذلک مثل الثوب یکون علیک ولعلّه سرقـة ، أو العبد یکون عبدک ولعلّـه حـرّ قـد باع نفسه أو قهـر فبیع أو خـدع فبیع ، أو امـرأة تحتک وهـی اُختک أو رضیعتک . . .» إلـی آخرها .
2 ـ «کلّ شیء مطلق حتّی یرد فیه نهی» .
3 ـ «رفـع عـن اُمّتی تسعـة ، ما لا یعلمون . . . واستکرهـوا علیه . . .» إلی آخره .
إلی غیر ذلک من أحادیث البراءة . ومع ذلک کلّه لا یصحّ الاعتماد علیها فی ارتکاب أطراف العلم :
أمّا الموثّقة : فإنّ الظاهر من الصدر وإن کان عمومیته للبدویة والعلم الإجمالی ، ولکن لا مناص من تخصیص الصدر بالعلم التفصیلی ؛ دفعاً للإشکال المتقدّم ـ مضافاً إلی ما عرفت من أنّ العلم بکون هذا أو هذا حراماً لیس من معرفة الحرام بعینه ـ إلاّ أنّ الإشکال فی تطبیق الکبری المذکورة علی ما ذکر فی ذیل الحدیث ؛ فإنّ الحلّ فیها مستند إلی أمارات وقواعد متقدّمة علی أصالة الحلّ ؛
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 192
لأنّ الید فی الثوب أمارة الملکیة ، کما أنّ أصالة الصحّة فی العقد هی المحکّم فی المرأة ، واستصحاب عدم کونها رضیعة عند الشکّ فی کونها رضیعة ، إلی غیر ذلک من القواعد ممّا یوهن انطباق الکبری علی الصغریات المذکورة .
ولأجل ذلک لابدّ من صرفها عن مورد القاعدة ، بأن یقال : إنّها بصدد بیان الحلّ ولو بأمارة شرعیة مع الجهل الوجدانی بالواقع . وکیف کان فالاستناد بها فی المقام مشکل .
وأمّا أحادیث البراءة : فالظاهر عدم شمولها لأطراف العلم ؛ لأنّ المراد من العلم فیها هو الحجّة ـ أعمّ من العقلیة والشرعیة ـ لا العلم الوجدانی ، وقد شاع إطلاق العلم والیقین علی الحجّة فی الأخبار کثیراً ، کما سیوافیک بیانه فی أخبار الاستصحاب .
والمفروض : أنّه قامت الحجّة فی أطراف العلم علی لزوم الاجتناب . علی أنّ المنصرف أو الظاهر من قوله : «ما لا یعلمون» کونه غیر معلوم من رأس ؛ بمعنی المجهول المطلق لا ما علم وشکّ فی انطباق المعلوم علی هذا أو هذا .
أضف إلی ذلک : أنّ هنا إشکالاً آخر یعمّ جمیع الروایات ـ عمومها وخصوصها ـ وهو أنّ الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی الذی ثبت الحکم فیه بالحجّة یعدّ عند ارتکاز العقلاء ترخیصاً فی المعصیة وتفویتاً للغرض .
وهذا الارتکاز وإن کان خلاف الواقع علی ما عرفت من أنّه ترخیص فی مخالفة الأمارة لا ترخیص فی المعصیة ، لکنّه تدقیق عقلی منّا ، والعرف لا یقف علیه بفهمه الساذج .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 193
وهذا الارتکاز یوجب انصراف الأخبار عامّة عن العلم الإجمالی المنجّز ؛ فإنّ ردع هذا الارتکاز یحتاج إلی نصوص وتنبیه حتّی یرتدع عنه .
والمراد منها حینئذٍ : إمّا الشبهات الغیر المحصورة ـ کما هو مورد بعض الروایات المتقدّمة ـ أو غیرها ممّا لا یکون إذناً فی ارتکاب الحرام .
ویؤیّد ذلک : حکم الأعاظم من المتأخّرین بأنّ الترخیص فی أطراف العلم إذن فی ارتکاب المعصیة ؛ فإنّ حکمهم هذا ناشٍ من الارتکاز الصحیح .
وبالجملة : فالعرف لا یرتدع عن فطرته بهذه الروایات حتّی یرد علیه بیان أوضح وأصرح .
أضف إلی ذلک : ما أفاده صاحب «الجواهر» فی باب الرباء من أنّ ظاهر هذه الروایات حلّ الجمیع ، ولکن لم یعمل بها إلاّ نادر من الطائفة . مضافاً إلی أنّ روایات الحلّ مختصّة بالشبهة الموضوعیة والبحث فی الأعمّ منها .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 194