المقصد السابع فی الاُصول العملیة

فی جریان الأصل الشرعی

فی جریان الأصل الشرعی

‏ ‏

‏وفی جریان أصالة الإباحة عند دوران الأمر بین المحذورین کلام :‏

فقد أفاد بعض أعاظم العصر فی عدم جریانها وجوهاً :

‏الأوّل :‏‏ عدم شمول دلیلها للمقام ؛ فإنّه یختصّ بما إذا کان طرف الحرمة الحلّ‏‎ ‎‏أو الإباحة لا الوجوب ، کدوران الأمر بین المحذورین ، کما هو ظاهر قوله ‏‏علیه السلام‏‏ :‏‎ ‎«کلّ شیء فیه حلال وحرام فهو لک حلال»‎[1]‎‏ .‏

الثانی :‏ ما مرّ من أنّ دلیل أصالة الحلّ یختصّ بالشبهات الموضوعیة ولا یعمّ‏‎ ‎‏الشبهات الحکمیة .‏

الثالث :‏ أنّ جعل الإباحة الظاهریة لا یمکن مع العلم بجنس الإلزام ؛ فإنّ‏‎ ‎‏أصالة الإباحة بمدلولها المطابقی تنافی المعلوم بالإجمال ؛ لأنّ مفادها الرخصة فی‏‎ ‎‏الفعل والترک ، وذلک یناقض العلم بالإلزام ؛ وإن لم یکن لهذا العلم أثر عملی إلاّ أنّ‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 165
‏العلم بثبوت الإلزام لا یجتمع مع جعل الإباحة ـ ولو ظاهراً ـ فإنّ الحکم الظاهری‏‎ ‎‏إنّما هو فی مورد الجهل بالحکم الواقعی .‏

أضف إلی ذلک :‏ أنّه فرق بین أصالة الإباحة والبراءة والاستصحاب ؛ لأنّ‏‎ ‎‏جریان أصالة الإباحة فی کلّ واحد من الفعل والترک یغنی عن الجریان فی الآخر ؛‏‎ ‎‏لأنّ معنی إباحة الفعل هو الرخصة فی الفعل والترک ؛ ولذلک یناقض مفادها بمدلوله‏‎ ‎‏المطابقی لجنس الإلزام ، دون الاستصحاب والبراءة ؛ فإنّ جریانهما فی واحد من‏‎ ‎‏الطرفین لا یغنی عن الآخر ؛ لأنّ استصحاب عدم الوجوب غیر استصحاب عدم‏‎ ‎‏الحرمة وکذلک البراءة‏‎[2]‎‏ ، انتهی کلامه .‏

وفی کلامه مواقع للنظر :

‏منها :‏‏ أنّ ما ذکره أخیراً منافٍ لما أفاده أوّلاً ؛ من اختصاص دلیل أصالة‏‎ ‎‏الإباحة بما إذا کان طرف الحرمة الحلّیة لا الوجوب ؛ لأنّ جعل الرخصة فی الفعل‏‎ ‎‏والترک إنّما یکون فیما إذا کانت الشبهة فی الوجوب والحرمة جمیعاً ، وأمّا مع‏‎ ‎‏مفروضیة عدم الوجوب وکون الشکّ فی الحرمة والحلّیة لا معنی لجعل الرخصة فی‏‎ ‎‏الترک ، فإنّ جعل الرخصة الظاهریة تکون لغواً ؛ للعلم بالرخصة الواقعیة .‏

‏فمفاد دلیله الأوّل : أنّ طرف الحرمة لابدّ أن یکون الحلّیة لا الوجوب ، ولازم‏‎ ‎‏دلیله الثالث من جعل الرخصة فی الفعل والترک : أنّ طرف الشبهة یکون الوجوب‏‎ ‎‏أیضاً ، وهما متنافیان .‏

‏وإن شئت قلت : لو کانت الإباحة بالمعنی الذی ذکره ثابتاً ـ أعنی جعل‏‎ ‎‏الترخیص فی جانب الفعل والترک معاً ؛ بحیث یکون متعلّق الترخیص المجعول هو‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 166
‏کلّ من الفعل والترک ـ لانحصر مجراها بصورة دوران الأمر بین المحذورین ؛ إذ لو‏‎ ‎‏دار الأمر بین الحلّ والحرمة یکون جعل الترخیص بالنسبة إلی الفعل والترک أمراً‏‎ ‎‏لغواً ؛ لأنّه قاطع بالترخیص فی جانب الترک ؛ لدوران أمره بین الحلّ والحرمة ؛‏‎ ‎‏بحیث یکون جواز الترک مقطوعاً به .‏

‏وکذا لو دار الأمر بین الحلّ والوجوب ؛ فإنّ جعل الترخیص فی الجانبین أمر‏‎ ‎‏لغو ؛ لأنّه قاطع بالترخیص فی جانب الفعل .‏

‏وبالجملة : لا یصلح لأصالة الإباحة حینئذٍ مورد ؛ سوی دوران الأمر بین‏‎ ‎‏المحذورین .‏

ومنها :‏ أنّ ما ذکره من أنّ مفاد دلیل الحلّ والإباحة منافٍ بمدلوله المطابقی‏‎ ‎‏مع العلم بالإلزام غیر تامّ ؛ لأنّه مبنی علی ورود أصالة الإباحة بالمعنی الذی أفاد ؛‏‎ ‎‏حتّی یکون لازمه طرح الإلزام الموجود فی البین . ولکن الموجود فی لسان الأدلّة‏‎ ‎‏هو أصالة الحلّ المستفاد من قوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«کلّ شیء مطلق حتّی یرد فیه نهی»‎[3]‎‏ ،‏‎ ‎‏فالحلّیة ـ حینئذٍ ـ إنّما هو فی مقابل الحرمة ، لا الحرمة والوجوب .‏

‏وعلیه : فالحکم بالحلّیة لازمه رفع الحرمة التی هو أحد الطرفین ، لا رفع‏‎ ‎‏الإلزام الموجود فی البین . فما هو مرتفع لم یعلم وجداناً ، وما هو معلوم لا ینافیه‏‎ ‎‏الحلّیة .‏

والحاصل :‏ أنّ دلیل الحلّ لا یکون مفاده الرخصة فی الفعل والترک ؛ ضرورة‏‎ ‎‏أنّ الحلّیة إنّما هی فی مقابل الحرمة لا الوجوب . فدلیل أصالة الإباحة یختصّ‏‎ ‎‏بالشبهات التحریمیة .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 167
‏ولیس فـی الأدلّـة ما یظهر منـه الرخصـة فی الفعل والترک إلاّ قولـه : ‏«کلّ‎ ‎شـیء مطلـق حتّی یـرد فیه نهی أو أمـر»‏ ، علی روایـة الشیخ علی ما حکـی‏‎[4]‎‏ ،‏‎ ‎‏مـع إشکال فیه .‏

ومنها :‏ أنّ مناقضة الترخیص الظاهری مع إلزام الواقعی لیس إلاّ کمناقضة‏‎ ‎‏الأحکام الواقعیة والظاهریة ، والجمع بینهما هو الجمع بینهما .‏

فإن قلت :‏ إنّ جعل الرخصة إنّما هی مع الجهل بالإلزام ، ومع العلم به یکون‏‎ ‎‏غایتها حاصلة .‏

قلت :‏ لعلّ هذا مراده ‏‏قدس سره‏‏ من عدم انحفاظ رتبة أصالة الإباحة ـ وإن خلط‏‎ ‎‏الفاضل المقرّر ‏‏رحمه الله‏‏ ـ إلاّ أنّ الشأن فی کون أصالة الإباحة کما ذکره ؛ فإنّه لا دلیل‏‎ ‎‏علیها بهذا المعنی .‏

أضف إلی ذلک :‏ أنّ ما أفاده من اختصاص دلیل الحلّ بالشبهات الموضوعیة‏‎ ‎‏لا یخلو عن نظر ، وقد قدّمنا ما هو الحقّ عندنا‏‎[5]‎‏ ، بل من المحتمل أن یکون مفاده‏‎ ‎‏متّحداً مع البراءة الشرعیة المستفادة من حدیث الرفع وغیره ، فتأمّل .‏

فقد منع بعض أعاظم العصر جریان البراءة الشرعیة ؛‏ مستدلاًّ بأنّ الرفع فرع‏‎ ‎‏إمکان الوضع ، وفی مورد دوران الأمر بین المحذورین لا یمکن وضع الوجوب‏‎ ‎‏والحرمة کلیهما ؛ لا علی سبیل التعیین ولا علی سبیل التخییر ، ومع عدم إمکان‏‎ ‎‏الوضع لا یعقل تعلّق الرفع . فأدلّة البراءة الشرعیة لا تعمّ المقام أیضاً‏‎[6]‎‏ .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 168
وفیه :‏ أنّ الممتنع رفعه ووضعه إنّما هو مجموع الحرمة والوجوب ، ولا یکون‏‎ ‎‏المجموع من حیث المجموع مفاد دلیل الرفع ، وأمّا رفع کلّ واحد فلا إشکال فیه ؛‏‎ ‎‏فیقال : إنّ الوجوب غیر معلوم ، فیرتفع والحرمة غیر معلومة أیضاً ، فیرتفع .‏

‏فالتحقیق : أنّه لا مانع من شمول حدیث الرفع للمقام ؛ لعدم لزوم المخالفة‏‎ ‎‏العملیة والالتزامیة منه . والتنافی بین الرفع والإلزام الجامع بین الوجوب والحرمة‏‎ ‎‏ممّا لا إشکال فیه ؛ لأنّه لیس بحکم شرعی بل أمر انتزاعی غیر مجعول ، وما هو‏‎ ‎‏المجعول نوع التکلیف ، وهو مشکوک فیه .‏

ومثله فی الضعف :‏ ما أفاده فی منع جریان الاستصحاب من أنّ الاستصحاب‏‎ ‎‏من الاُصول التنزیلیة ، وهی لا تجری فی أطراف العلم الإجمالی مطلقاً ؛ فإنّ البناء‏‎ ‎‏علی مؤدّی الاستصحابین ینافی الموافقة الالتزامیة ، فإنّ البناء علی عدم الوجوب‏‎ ‎‏والحرمة واقعاً لا یجتمع مع التدیّن بأنّ لله فی هذه الواقعة حکماً إلزامیاً‏‎[7]‎‏ .‏

وفیه :‏ منع کون الاستصحاب من الاُصول التنزیلیة بالمعنی الذی ادّعاه ؛ فإنّ‏‎ ‎‏مفاد قوله ‏‏علیه السلام‏‏ فی صحیحة زرارة الثالثة : ‏«ولکنّه ینقض الشکّ بالیقین ، ویتمّ علی‎ ‎الیقین فیبنی علیه»‎[8]‎‏ لیس إلاّ البناء علی تحقّق الیقین الطریقی وبقاؤه عملاً ، أو‏‎ ‎‏تحقّق المتیقّن کذلک ، وأمّا البناء القلبی علی کون الواقع متحقّقاً فلا ، فراجع کبریات‏‎ ‎‏الباب ؛ فإنّک لا تجد فیها دلالة علی ما ذکره من البناء القلبی .‏

وبالجملة :‏ أنّ البناء فی الاستصحاب عملی ، لا قلبی حتّی ینافی الإلزام‏‎ ‎‏المعلوم فی البین .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 169

  • )) تقدّم فی الصفحة 83 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 445 ـ 446 .
  • )) الفقیه 1 : 208 / 937 ، وسائل الشیعة 27 : 173 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 12 ، الحدیث 67 .
  • )) اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25 : 179 ، الأمالی ، الشیخ الطوسی : 669 / 12 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 66 و 83 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 448 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 449 .
  • )) الکافی 3 : 351 / 3 ، وسائل الشیعة 8 : 216 ، کتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة ، الباب 10 ، الحدیث 3 .