فی جریان الأصل الشرعی
وفی جریان أصالة الإباحة عند دوران الأمر بین المحذورین کلام :
فقد أفاد بعض أعاظم العصر فی عدم جریانها وجوهاً :
الأوّل : عدم شمول دلیلها للمقام ؛ فإنّه یختصّ بما إذا کان طرف الحرمة الحلّ أو الإباحة لا الوجوب ، کدوران الأمر بین المحذورین ، کما هو ظاهر قوله علیه السلام : «کلّ شیء فیه حلال وحرام فهو لک حلال» .
الثانی : ما مرّ من أنّ دلیل أصالة الحلّ یختصّ بالشبهات الموضوعیة ولا یعمّ الشبهات الحکمیة .
الثالث : أنّ جعل الإباحة الظاهریة لا یمکن مع العلم بجنس الإلزام ؛ فإنّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقی تنافی المعلوم بالإجمال ؛ لأنّ مفادها الرخصة فی الفعل والترک ، وذلک یناقض العلم بالإلزام ؛ وإن لم یکن لهذا العلم أثر عملی إلاّ أنّ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 165
العلم بثبوت الإلزام لا یجتمع مع جعل الإباحة ـ ولو ظاهراً ـ فإنّ الحکم الظاهری إنّما هو فی مورد الجهل بالحکم الواقعی .
أضف إلی ذلک : أنّه فرق بین أصالة الإباحة والبراءة والاستصحاب ؛ لأنّ جریان أصالة الإباحة فی کلّ واحد من الفعل والترک یغنی عن الجریان فی الآخر ؛ لأنّ معنی إباحة الفعل هو الرخصة فی الفعل والترک ؛ ولذلک یناقض مفادها بمدلوله المطابقی لجنس الإلزام ، دون الاستصحاب والبراءة ؛ فإنّ جریانهما فی واحد من الطرفین لا یغنی عن الآخر ؛ لأنّ استصحاب عدم الوجوب غیر استصحاب عدم الحرمة وکذلک البراءة ، انتهی کلامه .
وفی کلامه مواقع للنظر :
منها : أنّ ما ذکره أخیراً منافٍ لما أفاده أوّلاً ؛ من اختصاص دلیل أصالة الإباحة بما إذا کان طرف الحرمة الحلّیة لا الوجوب ؛ لأنّ جعل الرخصة فی الفعل والترک إنّما یکون فیما إذا کانت الشبهة فی الوجوب والحرمة جمیعاً ، وأمّا مع مفروضیة عدم الوجوب وکون الشکّ فی الحرمة والحلّیة لا معنی لجعل الرخصة فی الترک ، فإنّ جعل الرخصة الظاهریة تکون لغواً ؛ للعلم بالرخصة الواقعیة .
فمفاد دلیله الأوّل : أنّ طرف الحرمة لابدّ أن یکون الحلّیة لا الوجوب ، ولازم دلیله الثالث من جعل الرخصة فی الفعل والترک : أنّ طرف الشبهة یکون الوجوب أیضاً ، وهما متنافیان .
وإن شئت قلت : لو کانت الإباحة بالمعنی الذی ذکره ثابتاً ـ أعنی جعل الترخیص فی جانب الفعل والترک معاً ؛ بحیث یکون متعلّق الترخیص المجعول هو
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 166
کلّ من الفعل والترک ـ لانحصر مجراها بصورة دوران الأمر بین المحذورین ؛ إذ لو دار الأمر بین الحلّ والحرمة یکون جعل الترخیص بالنسبة إلی الفعل والترک أمراً لغواً ؛ لأنّه قاطع بالترخیص فی جانب الترک ؛ لدوران أمره بین الحلّ والحرمة ؛ بحیث یکون جواز الترک مقطوعاً به .
وکذا لو دار الأمر بین الحلّ والوجوب ؛ فإنّ جعل الترخیص فی الجانبین أمر لغو ؛ لأنّه قاطع بالترخیص فی جانب الفعل .
وبالجملة : لا یصلح لأصالة الإباحة حینئذٍ مورد ؛ سوی دوران الأمر بین المحذورین .
ومنها : أنّ ما ذکره من أنّ مفاد دلیل الحلّ والإباحة منافٍ بمدلوله المطابقی مع العلم بالإلزام غیر تامّ ؛ لأنّه مبنی علی ورود أصالة الإباحة بالمعنی الذی أفاد ؛ حتّی یکون لازمه طرح الإلزام الموجود فی البین . ولکن الموجود فی لسان الأدلّة هو أصالة الحلّ المستفاد من قوله علیه السلام : «کلّ شیء مطلق حتّی یرد فیه نهی» ، فالحلّیة ـ حینئذٍ ـ إنّما هو فی مقابل الحرمة ، لا الحرمة والوجوب .
وعلیه : فالحکم بالحلّیة لازمه رفع الحرمة التی هو أحد الطرفین ، لا رفع الإلزام الموجود فی البین . فما هو مرتفع لم یعلم وجداناً ، وما هو معلوم لا ینافیه الحلّیة .
والحاصل : أنّ دلیل الحلّ لا یکون مفاده الرخصة فی الفعل والترک ؛ ضرورة أنّ الحلّیة إنّما هی فی مقابل الحرمة لا الوجوب . فدلیل أصالة الإباحة یختصّ بالشبهات التحریمیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 167
ولیس فـی الأدلّـة ما یظهر منـه الرخصـة فی الفعل والترک إلاّ قولـه : «کلّ شـیء مطلـق حتّی یـرد فیه نهی أو أمـر» ، علی روایـة الشیخ علی ما حکـی ، مـع إشکال فیه .
ومنها : أنّ مناقضة الترخیص الظاهری مع إلزام الواقعی لیس إلاّ کمناقضة الأحکام الواقعیة والظاهریة ، والجمع بینهما هو الجمع بینهما .
فإن قلت : إنّ جعل الرخصة إنّما هی مع الجهل بالإلزام ، ومع العلم به یکون غایتها حاصلة .
قلت : لعلّ هذا مراده قدس سره من عدم انحفاظ رتبة أصالة الإباحة ـ وإن خلط الفاضل المقرّر رحمه الله ـ إلاّ أنّ الشأن فی کون أصالة الإباحة کما ذکره ؛ فإنّه لا دلیل علیها بهذا المعنی .
أضف إلی ذلک : أنّ ما أفاده من اختصاص دلیل الحلّ بالشبهات الموضوعیة لا یخلو عن نظر ، وقد قدّمنا ما هو الحقّ عندنا ، بل من المحتمل أن یکون مفاده متّحداً مع البراءة الشرعیة المستفادة من حدیث الرفع وغیره ، فتأمّل .
فقد منع بعض أعاظم العصر جریان البراءة الشرعیة ؛ مستدلاًّ بأنّ الرفع فرع إمکان الوضع ، وفی مورد دوران الأمر بین المحذورین لا یمکن وضع الوجوب والحرمة کلیهما ؛ لا علی سبیل التعیین ولا علی سبیل التخییر ، ومع عدم إمکان الوضع لا یعقل تعلّق الرفع . فأدلّة البراءة الشرعیة لا تعمّ المقام أیضاً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 168
وفیه : أنّ الممتنع رفعه ووضعه إنّما هو مجموع الحرمة والوجوب ، ولا یکون المجموع من حیث المجموع مفاد دلیل الرفع ، وأمّا رفع کلّ واحد فلا إشکال فیه ؛ فیقال : إنّ الوجوب غیر معلوم ، فیرتفع والحرمة غیر معلومة أیضاً ، فیرتفع .
فالتحقیق : أنّه لا مانع من شمول حدیث الرفع للمقام ؛ لعدم لزوم المخالفة العملیة والالتزامیة منه . والتنافی بین الرفع والإلزام الجامع بین الوجوب والحرمة ممّا لا إشکال فیه ؛ لأنّه لیس بحکم شرعی بل أمر انتزاعی غیر مجعول ، وما هو المجعول نوع التکلیف ، وهو مشکوک فیه .
ومثله فی الضعف : ما أفاده فی منع جریان الاستصحاب من أنّ الاستصحاب من الاُصول التنزیلیة ، وهی لا تجری فی أطراف العلم الإجمالی مطلقاً ؛ فإنّ البناء علی مؤدّی الاستصحابین ینافی الموافقة الالتزامیة ، فإنّ البناء علی عدم الوجوب والحرمة واقعاً لا یجتمع مع التدیّن بأنّ لله فی هذه الواقعة حکماً إلزامیاً .
وفیه : منع کون الاستصحاب من الاُصول التنزیلیة بالمعنی الذی ادّعاه ؛ فإنّ مفاد قوله علیه السلام فی صحیحة زرارة الثالثة : «ولکنّه ینقض الشکّ بالیقین ، ویتمّ علی الیقین فیبنی علیه» لیس إلاّ البناء علی تحقّق الیقین الطریقی وبقاؤه عملاً ، أو تحقّق المتیقّن کذلک ، وأمّا البناء القلبی علی کون الواقع متحقّقاً فلا ، فراجع کبریات الباب ؛ فإنّک لا تجد فیها دلالة علی ما ذکره من البناء القلبی .
وبالجملة : أنّ البناء فی الاستصحاب عملی ، لا قلبی حتّی ینافی الإلزام المعلوم فی البین .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 169