فی جریان الأصل العقلی
أمّا التخییر العقلی : فلا شکّ أنّ العقل یحکم بالتخییر ؛ لأنّه بعدما أدرک أنّ العلم الإجمالی غیر مـؤثّر فی المقام ، وأنّ الموافقـة القطعیـة غیر ممکنـة حتّی یحکم بالاحتیاط ، کما أنّ المخالفة القطعیة غیر ممکنة حتّی یمنع عنها العلم الإجمالی ، وأدرک أیضاً عدم مرجّح لواحد منهما حتّی یحکم بالأخذ به ، بل یری الأخذ بأحدهما معیّناً ترجیحاً بلا مرجّح ، وعندئذٍ یحکم بلا تأمّل علی التخییر ، وأنّ زمام الواقعة فی الارتکاب وعدمه بید المکلّف ، ولیس حکمه بالتخییر سوی إدراکه هذه المعانی ، لا أنّه شیء آخر حتّی یستبعد وجوده . هذا حکم العقل فی المقام .
وإن شئت قلت : إذا کان طرفا الفعل والترک مساویاً فی نظر العقل یحکم بالتخییر بقبح الترجیح بلا مرجّح ، فلا یبقی متردّداً .
وبالجملة : إدراک قبح الترجیح بلا مرجّح ملازم لإدراک التخییر ، وهذا هو حکمه بالتخییر . ومجرّد عدم خلوّ الإنسان من إحدی النقیضین لا یوجب عدم حکم العقل بعدم التعیین الذی هو إدراک التخییر .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 162
ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر منع جریان الأصل العقلی ؛ قائلاً بأنّه إنّما یجری فیما إذا کان فی طرفی التخییر ملاک یلزم استیفاؤه ، ولم یتمکّن المکلّف من الجمع بین الطرفین . فالتخییر العقلی فیه إنّما هو من التخییر التکوینی ؛ حیث إنّ الشخص لا یخلو بحسب الخلقة من الأکوان الأربعة ، لا التخییر الناشئ عن الملاک ، فأصالة التخییر عند الدوران بین المحذورین ساقطة .
وأمّا البراءة العقلیة فغیر جاریة ؛ لعدم الموضوع لها ؛ فإنّ مدرکها قبح العقاب بلا بیان ، وفی دوران الأمر بین المحذورین یقطع بعدم العقاب ؛ لأنّ وجود العلم الإجمالی کعدمه لا یقتضی التنجیز والتأثیر . فالقطع بالمؤمّن حاصل بنفسه ، بلا حاجة إلی حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان ، انتهی .
وفیه ما لا یخفی ، أمّا أوّلاً : فلأنّه ما من واقعة من الوقائع إلاّ وللعقل فیه حکم وإدراک إذا أحاط المورد بعامّة خصوصیاته ، وکان المورد قابلاً لحکم العقل . ففی هذا الموضع إمّا أن یری لأحد الطرفین ترجیحاً أو لا ، فعلی الأوّل یحکم بتعیّن الأخذ به ، وعلی الثانی یحکم بالتساوی والتخییر ، کما تقدّم آنفاً .
أضف إلی ذلک : أنّ کون الإنسان غیر خالٍ عن الأکوان الأربعة أجنبی عن المقام .
وثانیاً : أنّ تخصیص أصالة التخییر بالمتزاحمین اللذین یشتمل کلّ واحد علی ملاک لا وجه له ؛ فإنّ العقل یدرک التخییر ویحکم به فی أطراف العلم الإجمالی عند الاضطرار لترک واحد منهما أو فعله ، مع أنّ الملاک قائم لواحد منهما فقط .
ولو نوقش فیه أقول : لو وصل الضالّ إلی طریقین یعلم أنّ أحدهما طریق
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 163
البلد ، ولا یکون ترجیح بینهما یدرک العقل التخییر ویحکم به ، مـن غیر أن یکون فی کلیهما ملاک .
وأمّا ما أفاده فی جریان البراءة العقلیة : من أنّ کون العلم الإجمالی کعدمه غیر مفید ؛ فإنّ المؤمّن مطلقاً إنّما هو قاعدة قبح العقاب بلا بیان ، لا کون العلم الإجمالی کعدمه ؛ إذ لولا هذه القاعدة وأنّه یقبح للحکیم العقاب بلا بیان لَما نری مانعاً للمولی أن یعاقب عبیده علی تکالیفه الواقعیة ؛ وجوباً کان أو حراماً .
وإن شئت قلت : إنّ مـورد القاعـدة فـی المقام إنّمـا هـو نـوع التکلیف ؛ لأنّـه غیـر معلوم . وأمّـا الجنس المـردّد بین النوعین فهو وإن کان معلوماً ولا یجـری فیـه أصالـة البراءة ولکـن لا یجـوز العقاب علیه ؛ لعدم قـدرة المکلّف علـی الموافقـة القطعیة .
فاتّضح : أنّ المؤمّن عن العقاب بالنسبة إلی النوع إنّما هو القاعدة ، والمؤمّن عن العقاب علی عدم تحصیل الموافقة القطعیة إنّما هو العجز وعدم قدرة المکلّف .
وأمّا ما أفاده بعض محقّقی العصر قدس سره فی وجه عدم جریان الاُصول عقلیة وشرعیة ؛ مـن أنّ الترخیص الظاهـری بمناط عـدم البیان إنّما هـو فی ظرف سقوط العلم الإجمالی عن التأثیر ، والمسقط له ـ حیثما کان ـ هـو حکم العقل بمناط الاضطرار ، فلا یبقی مجال لجریان البراءة العقلیة والشرعیة ؛ نظـراً إلی حصول الترخیص حینئذٍ فی الرتبة السابقة عن جریانها بحکم العقل بالتخییر بین الفعل والترک .
فغیر تامّ ؛ لأنّ حکم العقل بالتخییر بعد إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بیان فی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 164
طرفی الفعل والترک ، وإلاّ فلو احتمل عدم قبحه بالنسبة إلی خصوص أحد الطرفین لم یحکم بالتخییر قطعاً .
وإن شئت قلت : إنّ مجری الاضطرار غیر مجری القاعدة ؛ فإنّ ما هـو المضطرّ إلیه هـو أحدهما ، وأمّا خصوص الفعل أو الترک فلیس مورداً للاضطرار . فلو فرض کـون الفعل واجباً ، ومع ذلک فقد ترکـه المکلّف فلیس عـدم العقاب لأجـل الاضطرار إلیه ؛ لکون الفعل مقدوراً بلا إشکال ، بل لقبح العقاب بلا بیان ، ومثله الترک حرفاً بحرف .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 165