المقصد السابع فی الاُصول العملیة

فی جریان الأصل العقلی

فی جریان الأصل العقلی

‏ ‏

‏أمّا التخییر العقلی : فلا شکّ أنّ العقل یحکم بالتخییر ؛ لأنّه بعدما أدرک أنّ‏‎ ‎‏العلم الإجمالی غیر مـؤثّر فی المقام ، وأنّ الموافقـة القطعیـة غیر ممکنـة حتّی‏‎ ‎‏یحکم بالاحتیاط ، کما أنّ المخالفة القطعیة غیر ممکنة حتّی یمنع عنها العلم‏‎ ‎‏الإجمالی ، وأدرک أیضاً عدم مرجّح لواحد منهما حتّی یحکم بالأخذ به ، بل یری‏‎ ‎‏الأخذ بأحدهما معیّناً ترجیحاً بلا مرجّح ، وعندئذٍ یحکم بلا تأمّل علی التخییر ،‏‎ ‎‏وأنّ زمام الواقعة فی الارتکاب وعدمه بید المکلّف ، ولیس حکمه بالتخییر سوی‏‎ ‎‏إدراکه هذه المعانی ، لا أنّه شیء آخر حتّی یستبعد وجوده . هذا حکم العقل‏‎ ‎‏فی المقام .‏

‏وإن شئت قلت : إذا کان طرفا الفعل والترک مساویاً فی نظر العقل یحکم‏‎ ‎‏بالتخییر بقبح الترجیح بلا مرجّح ، فلا یبقی متردّداً .‏

وبالجملة‏ : إدراک قبح الترجیح بلا مرجّح ملازم لإدراک التخییر ، وهذا هو‏‎ ‎‏حکمه بالتخییر . ومجرّد عدم خلوّ الإنسان من إحدی النقیضین لا یوجب عدم‏‎ ‎‏حکم العقل بعدم التعیین الذی هو إدراک التخییر .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 162
ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر‏ منع جریان الأصل العقلی ؛ قائلاً بأنّه إنّما یجری‏‎ ‎‏فیما إذا کان فی طرفی التخییر ملاک یلزم استیفاؤه ، ولم یتمکّن المکلّف من الجمع‏‎ ‎‏بین الطرفین . فالتخییر العقلی فیه إنّما هو من التخییر التکوینی ؛ حیث إنّ الشخص‏‎ ‎‏لا یخلو بحسب الخلقة من الأکوان الأربعة ، لا التخییر الناشئ عن الملاک ، فأصالة‏‎ ‎‏التخییر عند الدوران بین المحذورین ساقطة .‏

‏وأمّا البراءة العقلیة فغیر جاریة ؛ لعدم الموضوع لها ؛ فإنّ مدرکها قبح العقاب‏‎ ‎‏بلا بیان ، وفی دوران الأمر بین المحذورین یقطع بعدم العقاب ؛ لأنّ وجود العلم‏‎ ‎‏الإجمالی کعدمه لا یقتضی التنجیز والتأثیر . فالقطع بالمؤمّن حاصل بنفسه ، بلا‏‎ ‎‏حاجة إلی حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان‏‎[1]‎‏ ، انتهی .‏

وفیه ما لا یخفی ، أمّا أوّلاً :‏ فلأنّه ما من واقعة من الوقائع إلاّ وللعقل فیه حکم‏‎ ‎‏وإدراک إذا أحاط المورد بعامّة خصوصیاته ، وکان المورد قابلاً لحکم العقل . ففی‏‎ ‎‏هذا الموضع إمّا أن یری لأحد الطرفین ترجیحاً أو لا ، فعلی الأوّل یحکم بتعیّن‏‎ ‎‏الأخذ به ، وعلی الثانی یحکم بالتساوی والتخییر ، کما تقدّم آنفاً .‏

‏أضف إلی ذلک : أنّ کون الإنسان غیر خالٍ عن الأکوان الأربعة أجنبی‏‎ ‎‏عن المقام .‏

وثانیاً :‏ أنّ تخصیص أصالة التخییر بالمتزاحمین اللذین یشتمل کلّ واحد‏‎ ‎‏علی ملاک لا وجه له ؛ فإنّ العقل یدرک التخییر ویحکم به فی أطراف العلم الإجمالی‏‎ ‎‏عند الاضطرار لترک واحد منهما أو فعله ، مع أنّ الملاک قائم لواحد منهما فقط .‏

‏ولو نوقش فیه أقول : لو وصل الضالّ إلی طریقین یعلم أنّ أحدهما طریق‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 163
‏البلد ، ولا یکون ترجیح بینهما یدرک العقل التخییر ویحکم به ، مـن غیر أن یکون‏‎ ‎‏فی کلیهما ملاک .‏

وأمّا ما أفاده فی جریان البراءة العقلیة :‏ من أنّ کون العلم الإجمالی کعدمه‏‎ ‎‏غیر مفید ؛ فإنّ المؤمّن مطلقاً إنّما هو قاعدة قبح العقاب بلا بیان ، لا کون العلم‏‎ ‎‏الإجمالی کعدمه ؛ إذ لولا هذه القاعدة وأنّه یقبح للحکیم العقاب بلا بیان لَما نری‏‎ ‎‏مانعاً للمولی أن یعاقب عبیده علی تکالیفه الواقعیة ؛ وجوباً کان أو حراماً .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ مـورد القاعـدة فـی المقام إنّمـا هـو نـوع التکلیف ؛‏‎ ‎‏لأنّـه غیـر معلوم . وأمّـا الجنس المـردّد بین النوعین فهو وإن کان معلوماً‏‎ ‎‏ولا یجـری فیـه أصالـة البراءة ولکـن لا یجـوز العقاب علیه ؛ لعدم قـدرة المکلّف‏‎ ‎‏علـی الموافقـة القطعیة .‏

فاتّضح :‏ أنّ المؤمّن عن العقاب بالنسبة إلی النوع إنّما هو القاعدة ، والمؤمّن‏‎ ‎‏عن العقاب علی عدم تحصیل الموافقة القطعیة إنّما هو العجز وعدم قدرة المکلّف .‏

وأمّا ما أفاده بعض محقّقی العصر ‏قدس سره‏‏ فی وجه عدم جریان الاُصول عقلیة‏‎ ‎‏وشرعیة ؛ مـن أنّ الترخیص الظاهـری بمناط عـدم البیان إنّما هـو فی ظرف‏‎ ‎‏سقوط العلم الإجمالی عن التأثیر ، والمسقط له ـ حیثما کان ـ هـو حکم العقل‏‎ ‎‏بمناط الاضطرار ، فلا یبقی مجال لجریان البراءة العقلیة والشرعیة ؛ نظـراً إلی‏‎ ‎‏حصول الترخیص حینئذٍ فی الرتبة السابقة عن جریانها بحکم العقل بالتخییر بین‏‎ ‎‏الفعل والترک‏‎[2]‎‏ .‏

فغیر تامّ ؛‏ لأنّ حکم العقل بالتخییر بعد إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بیان فی‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 164
‏طرفی الفعل والترک ، وإلاّ فلو احتمل عدم قبحه بالنسبة إلی خصوص أحد الطرفین‏‎ ‎‏لم یحکم بالتخییر قطعاً .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ مجری الاضطرار غیر مجری القاعدة ؛ فإنّ ما هـو‏‎ ‎‏المضطرّ إلیه هـو أحدهما ، وأمّا خصوص الفعل أو الترک فلیس مورداً للاضطرار .‏‎ ‎‏فلو فرض کـون الفعل واجباً ، ومع ذلک فقد ترکـه المکلّف فلیس عـدم العقاب‏‎ ‎‏لأجـل الاضطرار إلیه ؛ لکون الفعل مقدوراً بلا إشکال ، بل لقبح العقاب بلا بیان ،‏‎ ‎‏ومثله الترک حرفاً بحرف .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 165

  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 444 ـ 445 و 448 .
  • )) نهایة الأفکار 3 : 293 .