استفادة الاستحباب الشرعی من أخبار من بلغ
وممّا ذکرنا یظهر : أنّ استفادة الاستحباب الشرعی منها مشکل غایته ؛ للفرق الواضح بین ترتّب الثواب علی عمل له خصوصیة وفیه رجحان ذاتی کما فی المستحبّات ، وبین ترتّب الثواب علی الشیء لأجل إدراک المکلّف ما هو الواقع المجهول کما فی المقام .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 154
کما أنّ جعل الثواب علی المقدّمات العلمیة لأجل إدراک الواقع لا یلازم کونها اُموراً استحبابیة . وکما أنّ جعل الثواب علی المشی فی طریق الوفود إلی الله أو إلی زیارة الإمام الطاهر ، الحسین بن علی علیهماالسلام لأجل الحثّ إلی زیارة بیته أو إمامه لا یلازم کون المشی مستحبّاً نفسیاً . وقس علیه کلّ ما یقع فی ذهنک من أمثال ذلک .
نعم ، یمکن المناقشة فی المثالین بأنّ فی المشی خصوصیة زیادة التخشّع والتواضع لله تعالی ؛ زائدة علی المقدّمیة .
وأظنّک إذا لاحظت روایات الباب من أوّلها إلی آخرها تقف علی أنّ الهدف منها هو التحفّظ علی الواقع بجعل الثواب علی کلّ ما بلغ أو سمع : من دون أن یصیر مستحبّاً نفسیاً إذا لم یکن فی الواقع کذلک حتّی لو قلنا بأنّ مفادها التفضّل علی العامل ؛ لئلاّ یضیّع عمله وتعبّده ، لَما دلّت علی الاستحباب ، کما لایخفی .
وأمّا ما أفاده المحقّق الخراسانی قدس سره : من أنّه لا یبعد دلالة بعض تلک الأخبار علی استحباب ما بلغ علیه الثواب ؛ لظهوره فی أنّ الأجر کان مترتّباً علی نفس العمل الذی بلغ عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه ذو ثواب .
فغیر تامّ ؛ لأنّ ترتّب الثواب علی الشیء : تارة لأجل کونه محبوباً نفسیاً ، واُخری لأجل التحفّظ علی ما هو محبوب واقعاً ، وفی مثله لا یصیر العمل مستحبّاً بذاته ، ولا یسمّی مستحبّاً اصطلاحاً .
ویلیه فی الضعف ـ بل أضعف منه ـ ما أفاده بعض أعاظم العصر رحمه الله ؛ فإنّه بعد ما ذکر الاحتمالات الموجودة فی مفاد الأخبار اختار ثانیها ، فقال : إنّ الجملة الخبریة بمعنی الإنشاء وفی مقام بیان استحباب العمل ، ویمکن أن یکون ذلک علی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 155
أحد وجهین : أحدهما أن تکون القضیة مسوقة لبیان اعتبار قول المبلّغ وحجّیته ؛ سواء کان واجداً لشرائط الحجّیة أو لا ـ کما هو الظاهر ـ فیکون مفاد الأخبار مسألة اُصولیة ؛ هی حجّیة الخبر الضعیف ، ومخصّصة لما دلّ علی اعتبار الوثاقة والعدالة فی الراوی .
إن قلت : إنّ النسبة بینهما عموم من وجه ؛ حیث إنّ ما دلّ علی اعتبار الشرائط یعمّ القائم علی الوجوب والاستحباب ، وأخبار من بلغ تعمّ الواجد للشرائط وغیره وتختصّ بالمستحبّات ، فیقع التعارض بینهما .
قلت ـ مع إمکان أن یقال : إنّ أخبار من بلغ ناظرة إلی إلغاء الشرائط ؛ فتکون حاکمة علی ما دلّ علی اعتبارها ـ إنّ الترجیح لها بعمل المشهور بها ، مع أنّه لو قدّم ما دلّ علی اعتبار الشرائط علیها لم یبق لها مورد ، بخلاف تقدیمها علیها ؛ فإنّ الواجبات والمحرّمات تبقی مشمولة لها .
بل یظهر من الشیخ اختصاص ما دلّ علی اعتبار الشرائط بالواجبات والمحرّمات . ولکن الإنصاف خلافه .
إلی أن قال : ولا یبعد أن یکون هذا أقرب ، کما علیه المشهور ، انتهی کلامه .
وفی کلامه مواقع للنظر :
أمّا أوّلاً : فلأنّ مساق الأخبار ـ کما هو غیر خفی علی من لاحظه ـ لیس إعطاء الحجّیة ؛ فإنّ لسان الحجّیة إنّما هو إلغاء احتمال الخلاف وأنّ المؤدّی هو
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 156
الواقع ، وهو ینافی مع فرض عدم صدور الحدیث ، کما هو صریح قوله علیه السلام : «وإن کان رسول الله لم یقله» .
وإن شئت أن تعرف التنافی فعلیک بالجمع بین لسان الأخبار ولسان الحجّیة ؛ فتراه أمراً بارداً غیر متناسب ، فلو قال القائل : «ما أدّی عنّی فعنّی یؤدّی ، وإن لم یکن المؤدّی عنّی ولم یصدر عنّی» کان کلاماً مستهجناً متناقضاً . وهذا شاهد علی عدم کون الحدیث فی هذه المقامات .
وثانیاً : أنّ ما أفاده من أنّ أخبار الباب معارضة أو مخصّصة لما دلّ علی حجّیة قول الثقة فی غیر محلّه جدّاً ؛ لعدم التنافی بینهما حتّی ینجرّ الأمر إلی التعارض أو التخصیص ؛ إذ لا منافاة بین أن یکون خبر الثقة حجّة ومطلق الخبر حجّـة فی المستحبّات . ومـا دلّ علی حجّیة قـول الثقة ـ سوی آیـة النبأ ـ غیر دالّ علی عدم حجّیة قول غیره . وإن شئت فلاحظ آیة النفر والسؤال والأخبار الواردة فی المقام . وما دلّ علی عدم اعتبار خبر الفاسق أو غیر الثقة قابل للمناقشة .
وبالجملة : فالنسبة وإن کانت عموماً وخصوصاً من وجه إلاّ أنّهما متوافقان .
وثالثاً : أنّ ما ادّعی من حکومة أخبار الباب علی غیرها فیه ما لا یخفی ؛
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 157
لفقدان مناط الحکومة . نعم لو صحّ ما أفاد من کون أخبار الباب ناظرة إلی إلغاء الشرائط لکان له وجه صحیح ، ولکنّه بعد غیر تامّ .
وبالجملة : مفاد أخبار المقام حجّیة قول المخبر مطلقاً فی المستحبّات ، ومفاد أدلّة اعتبار قول الثقة حجّیة قول الثقة مطلقاً ، ولیس لإحـدی الطائفتین تعرّض لحال الدلیل الآخر ؛ من تفسیر أو توضیح أو تصرّف فی جهة من جهاتها ممّا به قوام الحکومة .
ورابعاً : أنّ جعـل عمل المشهور مـرجّحاً لتقدیم أخبار الباب علی غیرها غیر تامّ ؛ لأنّ وجه عملهم بها غیر معلوم ؛ إذ من المحتمل أنّهم فهموا منها معنی لا ینافی مع غیرها ـ علی ما فسّرناه ـ أو فهموا أنّ نفس البلوغ ـ من أیّ مخبر ـ موضوع للاستحباب وموجب لحدوث المصلحة فیه ، إلی غیر ذلک من الوجوه التی یجتمع مع غیرها .
وما اشتهر بینهم من التسامح فی أدلّة السنن لا یدلّ علی أنّ مفاد الأخبار عندهم هو إلغاء شرائط الحجّیة فی المستحبّات ؛ فإنّ التسامح کما یمکن أن یکون لأجل إلغائها کذلک یمکن أن یکون لأجل المعنی الذی ذکرناه .
وبالجملة : الترجیح بعملهم فرع انقداح التعارض بینهما عندهم ، وهو غیر معلوم .
وخامساً : أنّ ما أفاد من أنّه لو قدّم ما دلّ علی اعتبار الشرائط لم یبق لتلک الأخبار مورد بخلاف العکس ممنوع صغریً وکبریً :
أمّا الصغری : فلأنّ أخبار الباب لا تختصّ بخبر غیر الثقة ، بل لها إطلاق یعمّ الثقة وغیرها ، فلو خرج مورد التعارض بقی الفرد الآخر تحته ، ولا یلزم أن یکون المورد الباقی مختصّاً بها .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 158
نعم ، لو کان مضمونها إلغاء اعتبار الشرائط أو حجّیة الخبر الضعیف بالخصوص لکان لما ذکره وجه ، وأمّا لو کان مفاده حجّیة قول المخبر فی المستحبّات وکان لها إطلاق یعمّ الثقة وغیرها فلو خرج مورد التعارض عن الإطلاق لکان مفادها حجّیة قول الثقة فی المستحبّات .
وأمّا الکبری : فلأنّ عدم بقاء المورد لیس من المرجّحات بعد فرض التعارض ، کما لا یخفی .
وأمّا ما أورده علی الشیخ الأعظم : فبما أنّه لم یحضرنی رسالة الشیخ ـ وإن أوردها صاحب «الأوثق» بتمامه فی تعلیقته ـ فلأجل ذلک نکتفی بما ذکرنا من الملاحظات .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 159
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 160