المقصد السابع فی الاُصول العملیة

استفادة الاستحباب الشرعی من أخبار من بلغ

استفادة الاستحباب الشرعی من أخبار من بلغ

‏ ‏

‏وممّا ذکرنا یظهر : أنّ استفادة الاستحباب الشرعی منها مشکل غایته ؛ للفرق‏‎ ‎‏الواضح بین ترتّب الثواب علی عمل له خصوصیة وفیه رجحان ذاتی کما فی‏‎ ‎‏المستحبّات ، وبین ترتّب الثواب علی الشیء لأجل إدراک المکلّف ما هو الواقع‏‎ ‎‏المجهول کما فی المقام .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 154
‏کما أنّ جعل الثواب علی المقدّمات العلمیة لأجل إدراک الواقع لا یلازم کونها‏‎ ‎‏اُموراً استحبابیة . وکما أنّ جعل الثواب علی المشی فی طریق الوفود إلی الله أو إلی‏‎ ‎‏زیارة الإمام الطاهر ، الحسین بن علی ‏‏علیهماالسلام‏‏ لأجل الحثّ إلی زیارة بیته أو إمامه لا‏‎ ‎‏یلازم کون المشی مستحبّاً نفسیاً . وقس علیه کلّ ما یقع فی ذهنک من أمثال ذلک .‏

‏نعم ، یمکن المناقشة فی المثالین بأنّ فی المشی خصوصیة زیادة التخشّع‏‎ ‎‏والتواضع لله تعالی ؛ زائدة علی المقدّمیة .‏

‏وأظنّک إذا لاحظت روایات الباب من أوّلها إلی آخرها تقف علی أنّ الهدف‏‎ ‎‏منها هو التحفّظ علی الواقع بجعل الثواب علی کلّ ما بلغ أو سمع : من دون أن یصیر‏‎ ‎‏مستحبّاً نفسیاً إذا لم یکن فی الواقع کذلک حتّی لو قلنا بأنّ مفادها التفضّل علی‏‎ ‎‏العامل ؛ لئلاّ یضیّع عمله وتعبّده ، لَما دلّت علی الاستحباب ، کما لایخفی .‏

وأمّا ما أفاده المحقّق الخراسانی ‏قدس سره‏‏ : من أنّه لا یبعد دلالة بعض تلک الأخبار‏‎ ‎‏علی استحباب ما بلغ علیه الثواب ؛ لظهوره فی أنّ الأجر کان مترتّباً علی نفس‏‎ ‎‏العمل الذی بلغ عن النبی ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ أنّه ذو ثواب‏‎[1]‎‏ .‏

فغیر تامّ ؛‏ لأنّ ترتّب الثواب علی الشیء : تارة لأجل کونه محبوباً نفسیاً ،‏‎ ‎‏واُخری لأجل التحفّظ علی ما هو محبوب واقعاً ، وفی مثله لا یصیر العمل مستحبّاً‏‎ ‎‏بذاته ، ولا یسمّی مستحبّاً اصطلاحاً .‏

ویلیه فی الضعف‏ ـ بل أضعف منه ـ ما أفاده بعض أعاظم العصر ‏‏رحمه الله‏‏ ؛ فإنّه‏‎ ‎‏بعد ما ذکر الاحتمالات الموجودة فی مفاد الأخبار اختار ثانیها ، فقال : إنّ الجملة‏‎ ‎‏الخبریة بمعنی الإنشاء وفی مقام بیان استحباب العمل ، ویمکن أن یکون ذلک علی‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 155
‏أحد وجهین : أحدهما أن تکون القضیة مسوقة لبیان اعتبار قول المبلّغ وحجّیته ؛‏‎ ‎‏سواء کان واجداً لشرائط الحجّیة أو لا ـ کما هو الظاهر ـ فیکون مفاد الأخبار‏‎ ‎‏مسألة اُصولیة ؛ هی حجّیة الخبر الضعیف ، ومخصّصة لما دلّ علی اعتبار الوثاقة‏‎ ‎‏والعدالة فی الراوی .‏

‏إن قلت : إنّ النسبة بینهما عموم من وجه ؛ حیث إنّ ما دلّ علی اعتبار‏‎ ‎‏الشرائط یعمّ القائم علی الوجوب والاستحباب ، وأخبار من بلغ تعمّ الواجد‏‎ ‎‏للشرائط وغیره وتختصّ بالمستحبّات ، فیقع التعارض بینهما .‏

‏قلت ـ مع إمکان أن یقال : إنّ أخبار من بلغ ناظرة إلی إلغاء الشرائط ؛ فتکون‏‎ ‎‏حاکمة علی ما دلّ علی اعتبارها ـ إنّ الترجیح لها بعمل المشهور بها ، مع أنّه لو قدّم‏‎ ‎‏ما دلّ علی اعتبار الشرائط علیها لم یبق لها مورد ، بخلاف تقدیمها علیها ؛ فإنّ‏‎ ‎‏الواجبات والمحرّمات تبقی مشمولة لها .‏

‏بل یظهر من الشیخ اختصاص ما دلّ علی اعتبار الشرائط بالواجبات‏‎ ‎‏والمحرّمات‏‎[2]‎‏ . ولکن الإنصاف خلافه .‏

‏إلی أن قال : ولا یبعد أن یکون هذا أقرب ، کما علیه المشهور‏‎[3]‎‏ ، انتهی‏‎ ‎‏کلامه .‏

وفی کلامه مواقع للنظر :

‏أمّا أوّلاً :‏‏ فلأنّ مساق الأخبار ـ کما هو غیر خفی علی من لاحظه ـ لیس‏‎ ‎‏إعطاء الحجّیة ؛ فإنّ لسان الحجّیة إنّما هو إلغاء احتمال الخلاف وأنّ المؤدّی هو‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 156
‏الواقع ، وهو ینافی مع فرض عدم صدور الحدیث ، کما هو صریح قوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«وإن‎ ‎کان رسول الله لم یقله»‎[4]‎‏ .‏

‏وإن شئت أن تعرف التنافی فعلیک بالجمع بین لسان الأخبار ولسان الحجّیة ؛‏‎ ‎‏فتراه أمراً بارداً غیر متناسب ، فلو قال القائل : «ما أدّی عنّی فعنّی یؤدّی ، وإن لم‏‎ ‎‏یکن المؤدّی عنّی ولم یصدر عنّی» کان کلاماً مستهجناً متناقضاً . وهذا شاهد علی‏‎ ‎‏عدم کون الحدیث فی هذه المقامات .‏

وثانیاً :‏ أنّ ما أفاده من أنّ أخبار الباب معارضة أو مخصّصة لما دلّ علی‏‎ ‎‏حجّیة قول الثقة فی غیر محلّه جدّاً ؛ لعدم التنافی بینهما حتّی ینجرّ الأمر إلی‏‎ ‎‏التعارض أو التخصیص ؛ إذ لا منافاة بین أن یکون خبر الثقة حجّة ومطلق الخبر‏‎ ‎‏حجّـة فی المستحبّات . ومـا دلّ علی حجّیة قـول الثقة ـ سوی آیـة النبأ‏‎[5]‎‏ ـ‏‎ ‎‏غیر دالّ علی عدم حجّیة قول غیره . وإن شئت فلاحظ آیة النفر‏‎[6]‎‏ والسؤال‏‎[7]‎‏ ‏‎ ‎‏والأخبار الواردة فی المقام‏‎[8]‎‏ . وما دلّ علی عدم اعتبار خبر الفاسق أو غیر الثقة‏‎ ‎‏قابل للمناقشة .‏

‏وبالجملة : فالنسبة وإن کانت عموماً وخصوصاً من وجه إلاّ أنّهما متوافقان .‏

وثالثاً :‏ أنّ ما ادّعی من حکومة أخبار الباب علی غیرها فیه ما لا یخفی ؛‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 157
‏لفقدان مناط الحکومة . نعم لو صحّ ما أفاد من کون أخبار الباب ناظرة إلی إلغاء‏‎ ‎‏الشرائط لکان له وجه صحیح ، ولکنّه بعد غیر تامّ .‏

‏وبالجملة : مفاد أخبار المقام حجّیة قول المخبر مطلقاً فی المستحبّات ،‏‎ ‎‏ومفاد أدلّة اعتبار قول الثقة حجّیة قول الثقة مطلقاً ، ولیس لإحـدی الطائفتین‏‎ ‎‏تعرّض لحال الدلیل الآخر ؛ من تفسیر أو توضیح أو تصرّف فی جهة من جهاتها ممّا‏‎ ‎‏به قوام الحکومة .‏

ورابعاً :‏ أنّ جعـل عمل المشهور مـرجّحاً لتقدیم أخبار الباب علی غیرها‏‎ ‎‏غیر تامّ ؛ لأنّ وجه عملهم بها غیر معلوم ؛ إذ من المحتمل أنّهم فهموا منها معنی لا‏‎ ‎‏ینافی مع غیرها ـ علی ما فسّرناه ـ أو فهموا أنّ نفس البلوغ ـ من أیّ مخبر ـ‏‎ ‎‏موضوع للاستحباب وموجب لحدوث المصلحة فیه ، إلی غیر ذلک من الوجوه التی‏‎ ‎‏یجتمع مع غیرها .‏

‏وما اشتهر بینهم من التسامح فی أدلّة السنن لا یدلّ علی أنّ مفاد الأخبار‏‎ ‎‏عندهم هو إلغاء شرائط الحجّیة فی المستحبّات ؛ فإنّ التسامح کما یمکن أن یکون‏‎ ‎‏لأجل إلغائها کذلک یمکن أن یکون لأجل المعنی الذی ذکرناه .‏

‏وبالجملة : الترجیح بعملهم فرع انقداح التعارض بینهما عندهم ، وهو‏‎ ‎‏غیر معلوم .‏

وخامساً :‏ أنّ ما أفاد من أنّه لو قدّم ما دلّ علی اعتبار الشرائط لم یبق لتلک‏‎ ‎‏الأخبار مورد بخلاف العکس ممنوع صغریً وکبریً :‏

‏أمّا الصغری : فلأنّ أخبار الباب لا تختصّ بخبر غیر الثقة ، بل لها إطلاق یعمّ‏‎ ‎‏الثقة وغیرها ، فلو خرج مورد التعارض بقی الفرد الآخر تحته ، ولا یلزم أن یکون‏‎ ‎‏المورد الباقی مختصّاً بها .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 158
‏نعم ، لو کان مضمونها إلغاء اعتبار الشرائط أو حجّیة الخبر الضعیف‏‎ ‎‏بالخصوص لکان لما ذکره وجه ، وأمّا لو کان مفاده حجّیة قول المخبر فی‏‎ ‎‏المستحبّات وکان لها إطلاق یعمّ الثقة وغیرها فلو خرج مورد التعارض عن‏‎ ‎‏الإطلاق لکان مفادها حجّیة قول الثقة فی المستحبّات .‏

‏وأمّا الکبری : فلأنّ عدم بقاء المورد لیس من المرجّحات بعد فرض‏‎ ‎‏التعارض ، کما لا یخفی .‏

‏وأمّا ما أورده علی الشیخ الأعظم : فبما أنّه لم یحضرنی رسالة الشیخ ـ وإن‏‎ ‎‏أوردها صاحب «الأوثق» بتمامه فی تعلیقته‏‎[9]‎‏ ـ فلأجل ذلک نکتفی بما ذکرنا من‏‎ ‎‏الملاحظات‏‎[10]‎‏ .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 159

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 160

  • )) کفایة الاُصول : 401 .
  • )) رسائل فقهیة ، ضمن تراث الشیخ الأعظم (رسالة فی التسامح فی أدلّة السنن) 23 : 152 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 412 ـ 415 .
  • )) المحاسن : 25 / 2 ، وسائل الشیعة 1 : 81 ، کتاب الطهارة ، أبواب مقدّمات العبادات ، الباب 18 ، الحدیث 3 .
  • )) الحجرات (49) : 6 .
  • )) التوبة (9) : 122 .
  • )) النحل (16) : 43 .
  • )) راجع وسائل الشیعة 27 : 77 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 8 و11 .
  • )) أوثق الوسائل فی شرح الرسائل : 299 ـ 307 .
  • )) ثمّ إنّ سیّدنا الاُستاذ ـ دام ظله ـ بحث فی الدورة السابقة فی المقام عن عدّة مسائل ؛ منها : مفـاد النهی وجریان الأصل فیما إذا ترکـه مرّة ، منها : دوران الأمـر بین التعیین والتخییر ، وأنّ الأصل مع أیّهما ، منها : دوران الأمـر بین الواجب العینی أو الکفائی ، وأنّ مقتضی الأصـل ما هو .     ولکنّه ـ دام ظلّه ـ أسقط فی هذه الدورة کلّها ؛ روماً للاختصار ، ولما حقّقه فی الجزء الأوّل حول هذه المسائل الثلاثة . [المؤلّف]