تقریر إشکال الاحتیاط فی العبادات
نعم ، ربّما یقال : بعدم إمکان الاحتیاط فی العبادات بوجهین :
الأوّل : ما أفاده الشیخ رحمه الله من أنّ العبادة لابدّ فیها من نیّة القربة المتوقّفة علی العلم بأمر الشارع ؛ تفصیلاً أو إجمالاً ، مع أنّه لا علم فی الشبهات البدویة ، فلا یمکن الاحتیاط .
وإن شئت قلت : إنّه یشترط فی صدور الشیء عن الشخص علی وجه العبادة إتیانها متقرّباً إلی الله علی وجه القطع والیقین ؛ فإنّ قصد الأمر والانبعاث عن بعث المولی وإن لم نقل بشرطیته إلاّ أنّه لا مناص عن القول بأنّ عبادیة الشیء یتقوّم
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 147
بإتیانه متقرّباً إلیه تعالی ، وهو لا یحصل إلاّ بالجزم بأنّه عبادة .
وبعبارة أوضح : أنّ العبادة متقوّمة بقصد التقرّب ، وفی الشبهات البدویة : إمّا أن یقصد ذات الشیء بلا قصد التقرّب ، أو ذات الشیء مع قصد التقرّب ، أو ذات الشیء مع احتمال التقرّب . والأوّل خلف ، والثانی ممتنع ؛ لأنّ القصد الحقیقی لا یتعلّق بالأمر المجهول المشکوک فیه ، والثالث غیر مفید ؛ لأنّ الإتیان باحتمال التقرّب غیر الإتیان بقصده ، والذی یعتبر فیها قصده لا احتماله .
والجواب : أنّ ذلک یرجع إلی اعتبار الجزم فی النیّة ، ولا دلیل علی اعتباره ؛ لا من العقل ولا من النقل :
أمّا الأوّل : فلأنّه لا یعقل أن یتجاوز الأمر عمّا تعلّق به ویبعث إلی غیر ما تعلّق به ، والمفروض أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب لیس إلاّ ذات العمل ونفس الفعل ، فشرطیة أمر آخر یحتاج إلی دلیل .
وأمّا الثانی : فالدلیل الوحید هو الإجماع علی أنّه یشترط فی العبادات الإتیان بالعمل لله تعالی ، وأمّا العلم بأنّه عبادة والجزم فی النیّة فلیسا مصبّاً للإجماع .
والحاصل : أنّ ما دلّ علیه ضرورة الفقه والمسلمین أنّه یشترط أن یأتی المکلّف بأعماله لوجه الله ، وهو حاصل عند إتیانه بعنوان الاحتیاط ؛ ضرورة أنّ داعی المحتاط فی أعماله کلّها هو طلب رضاء الله ومرضاته .
الثانی : أنّ المطلوب فی باب العبادات هو تحصیل عنوان الإطاعـة والامتثال والانبعاث عن بعث المولی ؛ إذ لو أتاه بدواعٍ اُخر لما أطاع وامتثل ؛ وإن أتی بمتعلّق الأمر . وعلیه : فصدق هذا العنوان یتوقّف علی العلم بالأمر حتّی ینبعث بأمـره . وأمّا إذا احتمل وجـود الأمـر فهو غیر منبعث عـن بعث المولی ، بل
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 148
عـن احتمال البعث ، وهو غیر کافٍ فی صدق الإطاعة .
ویرشدک إلی أنّ الباعث حینئذٍ هو الاحتمال الموجود فی الذهن لا الأمر الواقعی ، أنّ الاحتمال قد یطابق الواقع وقد یخالفه والرجل المحتاط یأتی بالمحتمل فی کلتا الصورتین ، فلیس الباعث سوی الاحتمال ؛ لعدم الأمر فیما إذا لم یطابق الاحتمال .
فإن قلت : إنّ الباعث دائماً إنّما هو الصورة المتصوّرة فی الذهن لا نفس الأمر الواقعی ؛ ضرورة أنّ انبعاث القاطع لیس عن نفس البعث ، بل عن القطع بالأمر ، بدلیل أنّه ربّما یخالف قطعه الواقع ، مع أنّه یأتی بالمقطوع ، فلو کان علّة الانبعاث هو الوجود الواقعی للأمر لکان لازمه عدم الانبعاث عند کون القطع جهلاً مرکّباً .
قلت : فیه خلط واضح ؛ ضرورة أنّ القطع مرآة للواقع وطریق إلیه ، فلو طابق الواقع یصیر الواقع معلوماً بالعرض ، ویناله المکلّف نیلاً بالعرض . وبذلک یصحّ انتزاع الإطاعة والامتثال للأمر الواقعی .
وهذا بخلاف ما إذا خالف ، فبما أنّه تخیّل یکون الانبعاث عن نفس القطع ، ولا یعدّ عمله عند العقلاء عملاً إطاعیاً ، والإطاعة والعصیان أمران عقلائیان ، ونحن نری أنّهم یفرّقون بین تطابق القطع وتخالفه .
أمّا صورة الاحتمال : فلیس فیها انکشاف ولا دلالة ولا هدایة ، فلا یمکن انتزاع الإطاعة عن الانبعاث الناشئ من الاحتمال ، ولا یقال : إنّه أطاع أمر المولی وامتثله وانبعث عنه مع جهله بأصل وجوده وثبوته .
هذا غایة تقریر منّا لهذا الوجه . ومع ذلک فغیر وجیه ؛ إذ لم یدلّ دلیل علی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 149
لزوم الانبعاث عن البعث ولا لزوم قصد الأمر المتعلّق به ؛ سوی الإجماع المحکی عن بعض المتکلّمین ، مع عدم حجّیة الإجماع ـ محصّله ومنقوله ـ فی هذه المسائل العقلیة .
وإن شئت قلت : إنّ الإطاعة أمر عقلائی ، ولا إشکال عند العقلاء فی أنّ العبد إذا أتی بالمحتمل یکون مطیعاً للمولی إذا طابق الواقع ، ویعدّ ذلک نحو إطاعة وامتثال .
أضف إلی ذلک : أنّ الانبعاث مطلقاً لیس من البعث ، بل البعث التشریعی له دعوة تشریعیة وبعث إیقاعی إلی العمل .
وأمّا الانبعاث بها والتحرّک حسب تحریکه فلا یحصل إلاّ بعد تحقّق اُمور فی النفس ، کحبّ المولی أو معرفته أو الخوف من عقابه أو الطمع فی ثوابه ، إلی غیر ذلک من المبادئ حسب اختلاف العباد .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 150