المقصد السابع فی الاُصول العملیة

تقریر إشکال الاحتیاط فی العبادات

تقریر إشکال الاحتیاط فی العبادات

‏ ‏

‏نعم ، ربّما یقال : بعدم إمکان الاحتیاط فی العبادات بوجهین :‏

الأوّل :‏ ما أفاده الشیخ ‏‏رحمه الله‏‏ من أنّ العبادة لابدّ فیها من نیّة القربة المتوقّفة علی‏‎ ‎‏العلم بأمر الشارع ؛ تفصیلاً أو إجمالاً ، مع أنّه لا علم فی الشبهات البدویة ، فلا‏‎ ‎‏یمکن الاحتیاط‏‎[1]‎‏ .‏

‏وإن شئت قلت : إنّه یشترط فی صدور الشیء عن الشخص علی وجه العبادة‏‎ ‎‏إتیانها متقرّباً إلی الله علی وجه القطع والیقین ؛ فإنّ قصد الأمر والانبعاث عن بعث‏‎ ‎‏المولی وإن لم نقل بشرطیته إلاّ أنّه لا مناص عن القول بأنّ عبادیة الشیء یتقوّم‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 147
‏بإتیانه متقرّباً إلیه تعالی ، وهو لا یحصل إلاّ بالجزم بأنّه عبادة .‏

‏وبعبارة أوضح : أنّ العبادة متقوّمة بقصد التقرّب ، وفی الشبهات البدویة : إمّا‏‎ ‎‏أن یقصد ذات الشیء بلا قصد التقرّب ، أو ذات الشیء مع قصد التقرّب ، أو ذات‏‎ ‎‏الشیء مع احتمال التقرّب . والأوّل خلف ، والثانی ممتنع ؛ لأنّ القصد الحقیقی لا‏‎ ‎‏یتعلّق بالأمر المجهول المشکوک فیه ، والثالث غیر مفید ؛ لأنّ الإتیان باحتمال‏‎ ‎‏التقرّب غیر الإتیان بقصده ، والذی یعتبر فیها قصده لا احتماله .‏

والجواب :‏ أنّ ذلک یرجع إلی اعتبار الجزم فی النیّة ، ولا دلیل علی اعتباره ؛‏‎ ‎‏لا من العقل ولا من النقل :‏

‏أمّا الأوّل : فلأنّه لا یعقل أن یتجاوز الأمر عمّا تعلّق به ویبعث إلی غیر ما‏‎ ‎‏تعلّق به ، والمفروض أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب لیس إلاّ ذات العمل ونفس‏‎ ‎‏الفعل ، فشرطیة أمر آخر یحتاج إلی دلیل .‏

‏وأمّا الثانی : فالدلیل الوحید هو الإجماع علی أنّه یشترط فی العبادات‏‎ ‎‏الإتیان بالعمل لله تعالی ، وأمّا العلم بأنّه عبادة والجزم فی النیّة فلیسا مصبّاً‏‎ ‎‏للإجماع .‏

والحاصل :‏ أنّ ما دلّ علیه ضرورة الفقه والمسلمین أنّه یشترط أن یأتی‏‎ ‎‏المکلّف بأعماله لوجه الله ، وهو حاصل عند إتیانه بعنوان الاحتیاط ؛ ضرورة أنّ‏‎ ‎‏داعی المحتاط فی أعماله کلّها هو طلب رضاء الله ومرضاته .‏

الثانی :‏ أنّ المطلوب فی باب العبادات هو تحصیل عنوان الإطاعـة‏‎ ‎‏والامتثال والانبعاث عن بعث المولی ؛ إذ لو أتاه بدواعٍ اُخر لما أطاع وامتثل ؛‏‎ ‎‏وإن أتی بمتعلّق الأمر . وعلیه : فصدق هذا العنوان یتوقّف علی العلم بالأمر حتّی‏‎ ‎‏ینبعث بأمـره . وأمّا إذا احتمل وجـود الأمـر فهو غیر منبعث عـن بعث المولی ، بل‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 148
‏عـن احتمال البعث ، وهو غیر کافٍ فی صدق الإطاعة .‏

‏ویرشدک إلی أنّ الباعث حینئذٍ هو الاحتمال الموجود فی الذهن لا الأمر‏‎ ‎‏الواقعی ، أنّ الاحتمال قد یطابق الواقع وقد یخالفه والرجل المحتاط یأتی بالمحتمل‏‎ ‎‏فی کلتا الصورتین ، فلیس الباعث سوی الاحتمال ؛ لعدم الأمر فیما إذا لم یطابق‏‎ ‎‏الاحتمال .‏

‏فإن قلت : إنّ الباعث دائماً إنّما هو الصورة المتصوّرة فی الذهن لا نفس الأمر‏‎ ‎‏الواقعی ؛ ضرورة أنّ انبعاث القاطع لیس عن نفس البعث ، بل عن القطع بالأمر ،‏‎ ‎‏بدلیل أنّه ربّما یخالف قطعه الواقع ، مع أنّه یأتی بالمقطوع ، فلو کان علّة الانبعاث‏‎ ‎‏هو الوجود الواقعی للأمر لکان لازمه عدم الانبعاث عند کون القطع جهلاً مرکّباً .‏

‏قلت : فیه خلط واضح ؛ ضرورة أنّ القطع مرآة للواقع وطریق إلیه ، فلو طابق‏‎ ‎‏الواقع یصیر الواقع معلوماً بالعرض ، ویناله المکلّف نیلاً بالعرض . وبذلک یصحّ‏‎ ‎‏انتزاع الإطاعة والامتثال للأمر الواقعی .‏

‏وهذا بخلاف ما إذا خالف ، فبما أنّه تخیّل یکون الانبعاث عن نفس القطع ،‏‎ ‎‏ولا یعدّ عمله عند العقلاء عملاً إطاعیاً ، والإطاعة والعصیان أمران عقلائیان ، ونحن‏‎ ‎‏نری أنّهم یفرّقون بین تطابق القطع وتخالفه .‏

‏أمّا صورة الاحتمال : فلیس فیها انکشاف ولا دلالة ولا هدایة ، فلا یمکن‏‎ ‎‏انتزاع الإطاعة عن الانبعاث الناشئ من الاحتمال ، ولا یقال : إنّه أطاع أمر المولی‏‎ ‎‏وامتثله وانبعث عنه مع جهله بأصل وجوده وثبوته‏‎[2]‎‏ .‏

هذا غایة تقریر منّا لهذا الوجه .‏ ومع ذلک فغیر وجیه ؛ إذ لم یدلّ دلیل علی‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 149
‏لزوم الانبعاث عن البعث ولا لزوم قصد الأمر المتعلّق به ؛ سوی الإجماع المحکی‏‎ ‎‏عن بعض المتکلّمین‏‎[3]‎‏ ، مع عدم حجّیة الإجماع ـ محصّله ومنقوله ـ فی هذه‏‎ ‎‏المسائل العقلیة .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ الإطاعة أمر عقلائی ، ولا إشکال عند العقلاء فی أنّ العبد‏‎ ‎‏إذا أتی بالمحتمل یکون مطیعاً للمولی إذا طابق الواقع ، ویعدّ ذلک نحو إطاعة‏‎ ‎‏وامتثال .‏

‏أضف إلی ذلک : أنّ الانبعاث مطلقاً لیس من البعث ، بل البعث التشریعی له‏‎ ‎‏دعوة تشریعیة وبعث إیقاعی إلی العمل .‏

‏وأمّا الانبعاث بها والتحرّک حسب تحریکه فلا یحصل إلاّ بعد تحقّق اُمور فی‏‎ ‎‏النفس ، کحبّ المولی أو معرفته أو الخوف من عقابه أو الطمع فی ثوابه ، إلی غیر‏‎ ‎‏ذلک من المبادئ حسب اختلاف العباد .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 150

  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25 : 150 ـ 151 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 73 .
  • )) راجع ما یأتی فی الصفحة 421 .