فی بیان اعتبارات القضایا السالبة
فنقول : إنّ الوجوه المتصوّرة فی مجاری الاُصول الأزلیة لا تتجاوز عن أربعة :
الأوّل : السالبة المحصّلة علی نحو الهلیّة البسیطة ، کقولنا «زید لیس بموجود» ، فمفادها سلب الموضوع . ففی مثل هذه القضیة لیست حکایة حقیقیة ولا کشف واقعی عن أمر أصلاً ، ولیس لها محکی بوجه ، لکن العقل یدرک بنحو من الإدراک بطلان الموضوع . وقولنا «المعدوم المطلق لا یمکن الإخبار عنه» لا یحکی عن أمر واقعی ، بل ینبّه علی بطلان المعدوم وعدم شیئیته أصلاً .
الثانی : القضیة السالبة المحصّلة بنحو الهلیّة المرکّبة ، کقولنا «زید لیس بقائم» ؛ ففی مثلها قد یکون الموضوع محقّقاً یسلب عنه المحمول ، وقد یکون السلب بسلب الموضوع .
فلو کان لموضوعه وجوداً فله نحو حکایة لا لمحمولها ، فیحکم العقل أنّ موضوعها غیر متّصف بالمحمول ، فیحکم به من دون أن یکون لعدم الاتّصاف حقیقة خارجیة . ومناط صدقه عدم اتّصاف الموضوع بالمعنی المقابل للمعنی العدمی .
وأمّا إذا لم یکن لموضوعها تحقّق فلیس للقضیة حقیقة واقعیة أصلاً ؛ لا موضوعاً ولا محمولاً ولا هیئةً ؛ وإن کان إدراک هذا الأمر بتبع أمر وجودی ذهنی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 131
یخترعه العقل ، ولکنّه یعدّ وسیلة لهذا الإدراک ؛ أی إدراک أنّ الموضوع لم یکن متّصفاً بالمحمول .
الثالث : القضیة الموجبة المعدولة ، والمیزان فی اعتبارها أن یکون للمعنی العدمی المنتسب إلی الموضوع نحو حصول فی الموضوع ، کأعدام الملکات ، نحو «زید لا بصیر» المساوق لقولنا : «زید أعمی» ، فمناط صدقه هو نحو تحقّق للمعنی السلبی فی الموضوع وثبوته له بنحو من الثبوت .
وهذا الاعتبار لیس فی القضیة السالبة المحصّلة ؛ للفرق الواضح بین سلب شیء عن موضوع وإثبات السلب له ؛ فإنّ معنی الإثبات هو حصول الأمر العدمی له ، ومعنی السلب سلب هذا الثبوت عنه .
ولأجل ذلک یکون المعتبر من المعدولة ما إذا کان للسلب نحو ثبوت بنحو العدم والملکة ، کما مرّ ؛ فیخرج قولنا : «زید لا عمرو» ، أو «الجدار غیر بصیر» .
الرابع : الموجبة السالبة المحمول ، والمیزان فی اعتبارها توصیف الموضوع بما یدلّ علی سلب الربط ، نحو قوله : «زید هو الذی لیس بقائم» وهو من القضایا المعتبرة ، کما حقّق فی محلّه .
هذه هی الوجوه المتصوّرة فی المقام . وهناک وجه آخر سیوافیک بیانه أیضاً .
فعلی ذلک : فما هو الموضوع لحرمة أکله ، أو لـ «ما تراه المرأة بعد خمسین فهو غیر حیض» لا یخلو عن هذه الأقسام الماضیة ، ولا بأس لبیان حال کـلّ واحـد منهما :
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 132
فنقول : بعد ما لا یکون المورد من قبیل الهلیّات البسیطة ـ کما هو واضح ـ تنحصر الاحتمالات فی الثلاثة الباقیة :
فنقول : أمّا الوجه الثانی ـ أعنی کون سلب القرشیة عن المرأة والقابلیة عن الحیوان من قبیل السالبة المحصّلة المرکّبة ـ فلابدّ أن یکون الموضوع للحرمة هو الحیوان ؛ سالباً عنه القابلیة علی نحو السلب التحصیلی الذی یجتمع مع عدم الحیوان .
وهو غیر صحیح جدّاً ، ومقطوع علی بطلانه لوجهین :
الأوّل : أنّ من المبرهن فی محلّه توقّف صدق الموجبات علی وجود موضوعاتها خارجاً أو ذهناً حسب أحکامها ومحمولاتها .
وعلیه : فالحکم بالحرمة أو بقوله علیه السلام : «ما تراه المرأة . . .» إلی آخره حکم إیجابی ، یمتنع أن یکون موضوعها شیئاً سلب عنه شیء بنحو قضیة سالبة محصّلة مع صدقها أحیاناً ، مع عدم موضوع لها .
فقولنا : الحیوان مسلوباً عنه القابلیة أو المرأة مسلوباً عنها القرشیة بنحو السلب التحصیلی المطلق یمتنع أن یکون موضوعاً لـ «یحرم» أو لـ «ما تراه المرأة» ؛ لصدق الموضوع مع عدم حیوان أو مرأة ، وعدم صدق المحمول إلاّ مع وجود الحیوان والمرأة ، فکیف یصلح للموضوعیة ؛ إذ کیف یحکم علی الحیوان المعدوم بالحرمة أو علی المرأة المعدومة بالرؤیة .
وبالجملة : أنّ الحیوان الموجود إذا لم یکن قابلاً کما یصدق علیه قولنا : لم یکن الحیوان قابلاً کذلک یصدق هذه القضیة علی المعدوم من رأس ؛ فإنّ عدم
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 133
القابلیة تارة یکون بانتفاء الموضوع واُخری بانتفاء المحمول ، فالأعمّ صدقاً من حیث وجود الموضوع وعدمه کیف یقع موضوعاً لحکم إیجابی ـ الحرمة والرؤیة ـ مع أنّه لا یصدق إلاّ مع بعض حالات الموضوع .
وإن شئت قلت : إنّ سلب شیء عن شیء قبل تحقّق الموضوع لیس له واقع ، وإنّما هو من اختراع العقل لا کاشفیة ولا مکشوفیة فی البین ، فقولنا : هذه المرأة قبل تحقّقها لم تکن قرشیة أو أنّ هذا الحیوان قبل تحقّقه لم یکن قابلاً للتذکیة والآن کما کان ممّا لا معنی له ؛ لأنّ هذه المرأة قبل تحقّقها لم تکن هذه ، وهذا الحیوان لم یکن هذا ؛ لا وجوداً ولا ماهیة ، ولا یمکن أن یشار إلیهما حسّاً أو عقلاً .
وإنّما یتوهّم الواهمة : أنّ لهذا المشار إلیه هذیّة قبل تحقّقها ؛ فهذه المرأة قبل وجودها لم تکن مشاراً إلیها ولا مسلوباً عنها شیء علی نعت سلب شیء عن شیء ، فالقضیة المشکوک فیها لیست لها حالة سابقة ، وإنّما سابقتها فی عالم الاختراع بتبع اُمور وجودیة .
فإن قلت : إنّ المرأة الکذائیة قبل تحقّقها إمّا قرشیة أو لیست بقرشیة ، وهکذا الحیوان ؛ لامتناع ارتفاع النقیضین ، فإذا کذب کونها قرشیة أو کونه قابلاً صدق أنّها لیست بقرشیة .
قلت : فیه ـ مضافاً إلی أنّ نقیض قولنا : «إنّها قرشیة» لیس قولنا : «إنّها لیست بقرشیة» علی نعت سلب شیء عن شیء له واقعیة ، بل نقیضه أعمّ من ذلک ومن بطلان الموضوع ؛ وهو یلازم بطلان المحمول ومفاد الهیئة ـ أنّ القرشیة والقابلیة من لوازم الوجود ـ أی یتّصف به الموضوع بعد وجوده ـ فهی قبل وجوده لا قرشیة ولا لیست قرشیة ، والحیوان لا قابل ولا لیس بقابل علی معنی سلب شیء عن شیء ؛ وإن صدق السلب المحصّل بسلب الموضوع . فسلب القرشیة عن المرأة لیس سلباً
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 134
حقیقیاً ؛ بمعنی کونه حاکیاً أو کاشفاً عن واقعیته کما تقدّم حتّی یجیء حدیث امتناع ارتفاع النقیضین .
الثانی : أنّ أخذ السالبة المحصّلة جزءً للموضوع یستلزم التناقض فی نفس جعل الموضوع موضوعاً ؛ فإنّ قولنا : المرأة مسلوبة عنها القرشیة مؤلّف من موضوع ـ المرأة ـ ومن قضیة سالبة محصّلة التی یصدق مع عدم الموضوع ، ومع ذلک کیف یمکن أن یقیّد الموضوع بقید یصدق حتّی مع عدم وجوده ؟ فإنّ عدم القابلیة یصدق مع عدم الحیوان کما تقدّم ، وما هذا إلاّ تناقض فی ناحیة الموضوع .
فإن قلت : إنّ ما هو المنشأ للأثر إنّما هو السالبة المحصّلة ، لکن فی حال وجود الموضوع . فاستصحاب عدم القابلیة علی نحو الأعمّ وإن لم یترتّب علیه الأثر حدوثاً إلاّ أنّه یترتّب علیه الأثر بقاءً . واستصحاب ذلک العدم وإن کان لا یترتّب علیه الأثر حال عدم الحیوان إلاّ أنّه بعد العلم بوجود الحیوان وانتقاض العدم من ناحیةٍ ، ترتّب الأثر علیه منضمّاً إلی وجوده .
قلت ـ مضافاً إلی ما عرفت من عدم قضیة حاکیة عن نفس الأمر قبل وجود الموضوع ، وإنّما یخترع الواهمة قضیة کذائیة ، وعلیه لا یعقل وحدة القضیة المتیقّنة مع القضیة المشکوک فیها ـ إنّ المستصحب إذا کان عنواناً عامّاً ، وکان أحد الفردین قطعی الارتفاع فاستصحابه وانطباقه علی الفرد المحتمل الآخر لا یصحّ إلاّ علی القول بالاُصول المثبتة .
فإنّ عدم القابلیة کما یتحقّق فی ضمن انتفاء الموضوع کذلک یتحقّق مع ارتفاع المحمول . فإذا علمنا انتقاض العدم فی ناحیة الموضوع فبقاء ذلک العدم بعد ذلک یستلزم عقلاً صدقه مع الفرد الآخر ـ أعنی السالبة بانتفاء المحمول ـ وما هذا إلاّ إثبات الفرد الخاصّ باستصحاب العامّ ، وهو من الاُصول المثبتة ، نظیر
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 135
استصحاب بقاء الحیوان الجامع بین الفیل والبقّ وإثبات آثار الفیل .
وبالجملة : لو کان موضوع الحکم المرأة الموجودة أو فی حال وجودها ، وکانت القضیة المتیقّنة المرأة الغیر الموجودة أو فی حال عدم الوجود مع الغضّ عن بطلان ذلک ـ کما مرّ ـ کان إجراء الأصل لإثبات الحکم لها فی حال الوجود مثبتاً .
وأمّا لو کان الموضوع المرأة الموجودة مسلوبة عنها القرشیة ؛ سلباً محصّلاً ـ بمعنی أنّ الموضوع أحد قسمی السالبة المحصّلة ـ واُرید استصحابه فلا حالة سابقة له ؛ لأنّ القرشیة واللا قرشیة من لوازم الوجود ولم یکن فی زمان وجود المرأة معلوماً مسلوباً عنه القرشیة .
وأمّا الوجه الثالث ؛ أعنی أخذ القضیة جزءً علی نحو الموجبة المعدولة ، کقولنا الحیوان الغیر القابل للتذکیة ، أو المرأة الغیر القرشیة علی نحو التوصیف ، أو الوجه الرابع ؛ أعنی کون القضیة جزءً للموضوع علی نحو الموجبة السالبة المحمول ؛ أعنی المرأة التی لم تکن قرشیة أو الحیوان الذی لیس قابلاً للتذکیة ، وقد تقدّم ملاک اعتبار ذاک القسم ، وحاصله : اعتبار قضیة سالبة محصّلة نعتاً لموضوع ؛ حتّی یصیر ما یدلّ علی سلب الربط نعتاً له ، ویصیر المفاد أخیراً ربط السلب .
فعدم جریان الاستصحاب علی هذین الوجهین أوضح ؛ لعدم الحالة السابقة ؛ فلأنّ اتّصاف شیء بشیء فرع ثبوته . فاتّصاف الحیوان بغیر القابلیة أو بأنّه الذی لم یکن قابلاً فرع وجود الموصوف ، والحیوان الذی نشکّ فی قابلیته لم یکن بقید الوجود مورداً للیقین السابق ، بل هو من أوّل حدوثه مشکوک القابلیة وعدمها .
وبالجملة : فما هو معلوم هو عدم قابلیته علی نحو السالبة المحصّلة ، وهو لیس موضوعاً للحکم ، وما هو موضوع لم یتعلّق به العلم ؛ إذ الحیوان الواقع بأیدینا لم یکن فی زمان من أزمنة وجوده مورداً للعلم بأنّه غیر قابل حتّی نستصحبه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 136
أضف إلی ذلک ما تقدّم : أنّ استصحاب العنوان العامّ الذی یلائم مع عدم وجود الموضوع لا یثبت کون هذا الحیوان غیر قابل إلاّ علی القول بالأصل المثبت ؛ فإنّ استصحاب العامّ بعد العلم بانتفاء أحد فردیه لا یثبت به بقاؤه فی ضمن الفرد الآخـر ، فلا یمکن إثبات الأثر المترتّب علی الفرد . نعم لو کان لنفس العامّ أثر یترتّب به ، کما لا یخفی .
فظهر : أنّ أصالة عدم القابلیة فی الحیوان کأصالة عدم القرشیة فی المرأة لیس لها أساس ، من غیر فرق بین کون الشکّ فی القابلیة لأجل الشبهة المفهومیة أو غیرها ، کما تقدّم . ومع عدم جریانها یکون المرجع هو أصالة عدم التذکیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 137