الاستدلال علی وجوب الاحتیاط بالدلیل العقلی (العلم الإجمالی)
استدلّ الأخباری علی لزوم الاحتیاط بالعلم الإجمالی ؛ قائلاً بأنّا نعلم بوجود محرّمات کثیرة فی الشریعة الغرّاء ، فیجب علینا الخروج عن تبعاتها ،
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 111
ولا یحصل إلاّ بترک کلّ ما علم حرمته أو شکّ فیها ؛ حتّی یحصل العلم القطعی بالامتثال ، أو یرد من الشارع الترخیص ، ومعه یحصل الأمن من العقاب .
وخلاصة هذا البرهان ادّعاء قطعین : الأوّل القطع بوجود محرّمات کثیرة فی الشریعة ، الثانی القطع بعدم رضاء الشارع بارتکابها ؛ کائنة ما کانت .
ومن المعلوم ـ حینئذٍ ـ لزوم الاجتناب إلی أن یحصل الیقین بالبراءة ، وهذا الیقین لا یحصل إلاّ بترک معلوم الحرمة ومشکوکها .
قلت : وبما أنّ الأجوبة المذکورة فی المقام یدور حول القول بانحلال العلم الإجمالی بالمراجعة إلی الأدلّة فلا بأس من التعرّض لمیزان الانحلال وأقسامه ؛ حتّی یکون کالضابط لعامّة الأجوبة :
فنقول : إنّ ما به ینحلّ العلم الإجمالی : تارة یکون قطعاً واُخری یکون غیره من الأمارات والاُصول الشرعیة کالاستصحاب ، أو العقلیة کالاشتغال . وعلی التقادیر : تارة یکون العلم الإجمالی مقدّماً لقیام الطریق واُخری مؤخّراً وثالثة مقارناً ، وعلی التقادیر : تارة یکون المؤدّی بالعلم الإجمالی مقدّماً علی المؤدّی بالطریق التفصیلی واُخری مؤخّراً وثالثة مقارناً .
وعلی التقادیر أنّ ما به ینحلّ : إمّا أن یکون أمراً تفصیلیاً ؛ سواء کان علماً أو حجّة ، وإمّا یکون أمراً إجمالیاً ، کما لو علم إجمالاً بتکالیف بین جمیع الشبهات ، وعلم بوجود تکالیف أیضاً بین الطرق والأمارات ، مع إمکان انطباقهما .
ثمّ إنّه لو علم أنّ ما هو المعلوم تفصیلاً عین ما هو المعلوم بالإجمال ، ووقف علی انطباق المعلومین انطباقاً قطعیاً فلا إشکال فی الانحلال . ومثله ما إذا قطع بأنّ ما فی دائرة العلم الإجمالی الکبیر عین ما هو فی دائرة الصغیر ؛ إذ مع هذا ینحلّ العلم فی الکبیر ویبقی فی الصغیر فقط .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 112
وأمّا إذا احتمل الانطباق فهل ینحلّ العلم الإجمالی حینئذٍ حقیقة أو حکماً ، أو لا ینحلّ مطلقاً ؟
فیظهر من بعضهم : أنّه ینحلّ حقیقة ، وأفاد فی وجهه : بأنّ العلم الإجمالی قد تعلّق بأمر غیر معنون ولا متعیّن ، والتفصیلی تعلّق بالمعیّن ، وانطباق اللا معیّن علی المعیّن قهری ؛ لأنّ عدم الانطباق إمّا لأجل زیادة الواقعیات المعلومة بالإجمال عن المعلوم بالتفصیل ، أو من جهة تعیّن الواقعیات المعلومة بالإجمال بنحو تأبی عن الانطباق ، أو تنجّز غیر الواقعیات بالأمارات ، والکلّ خلف ، انتهی .
قلت : إنّ وجه عدم الانحلال لأجل احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی غیر المعلوم بالتفصیل .
وما ادّعی قدس سره من أنّ انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل قهری غیر مسموع ؛ فإنّ المعلوم بالإجمال لمّا کان أمراً غیر متعیّن فیحتمل أن یکون عین ما تعیّن بالعلم التفصیلی ، ویمکن أن یکون غیره ، ومع هذا فکیف یمکن أن یقال بالانطباق القهری ؟ ! والحاصل : أنّ لازم الانطباق القهری العلم بأنّ المعلوم بالإجمال هو عین ما علم بالتفصیل ، ولکنّه مفقود ؛ لقیام الاحتمال بالمغایرة بعد .
والتحقیق أن یقال : إنّ میزان الانحلال لو کان قائماً باتّحاد المعلومین مقداراً ، مع العلم بأنّ المعلوم بالتفصیل هو عین ما علم بالإجمال لکان لعدم الانحلال وجه ، إلاّ أنّ المیزان هو عدم بقاء العلم الإجمالی فی لوح النفس ، وانقلاب القضیة المنفصلة الحقیقیة أو المانعة الخلوّ إلی قضیة بتّیة ومشکوکة فیها ، أو إلی قضایا بتّیة وقضایا مشکوکة فیها .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 113
فلو علم بوجود واجب بین أمرین ؛ بحیث لا یحتمل الزیادة حتّی یکون القضیة منفصلة حقیقیة ، أو مع احتمال الزیادة حتّی یکون مانعة الخلوّ فمع العلم التفصیلی بوجوب بعض الأطراف أو واحد من الطرفین ینقلب القضیة إلی قضیة بتّیة ؛ أی إلی وجوب واحد معیّناً ، وإلی مشکوکة فیها .
فلا یصحّ أن یقال : إمّا هذا واجب أو ذاک ، بل لابدّ أن یقال : هذا واجب بلا کلام ، والآخر مشکوک الوجوب ، وهذا ما ذکرنا من ارتفاع الإجمال الموجود فی لوح النفس .
وإن شئت قلت : لا یصحّ عقد قضیة منفصلة علی نحو الحقیقیة ، ولا علی نحو المانعة الخلوّ .
ولو قیل : إنّ القضیة المنفصلة لا تنافی مع کون أحد الطرفین جزمی الحکم فلا مشاحة فی الاصطلاح ، ولکن لا یحکی عن تردّد فی النفس وإجمال فی الذهن ، بل ینحلّ المعلوم بالإجمال إلی علم تفصیلی وشکّ بدوی لا یعدّ طرفاً للعلم .
واحتمال کون المعلوم بالإجمال عین المشکوک فیه الذی خرج عن الطرفیة غیر مضرّ ؛ لأنّ المعلوم بنعت المعلومیة الفعلیة غیر محتمل الانطباق ، وإنّما المحتمل انطباق ما کان معلوماً سابقاً مع زوال وصف العلم بالفعل علی الطرف الآخر ؛ لأنّ المعلومیة الإجمالیة الفعلیة ملازم للعلم الإجمالی ، ومع زوال العلم لا معنی لوجود المعلوم بالفعل ، فتدبّر .
ثمّ إنّ بعـض محقّقـی العصـر قدس سره قـد حکـم ببقاء العلم الإجمالـی وعـدم انحلاله حقیقةً ، وحاصل ما أفاد : أنّ احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علـی المعلوم بالتفصیل وعلی الطرف الآخـر کاشف قطعی عـن بقاء العلم الإجمالی ؛ لکونه مـن لوازمه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 114
ودعوی : أنّه یستلزم محذور تعلّق العلمین بشیء واحد بتوسیط العنوانین الإجمالی والتفصیلی ؛ وهو من قبیل اجتماع المثلین ، مدفوعة بأنّه لا یزید عن التضادّ الموجود بین الشکّ والعلم . مع أنّه یمکن أن یتعلّق العلم والشکّ بشیء واحد بعنوانین ، کما فی أطراف العلم الإجمالی .
وعلیه : فلا مجال للإشکال فی تعلّق العلمین بشیء بتوسیط عنوانین الإجمالی والتفصیلی ، انتهی .
وفیه : أنّ ما ذکره خلط بین احتمال انطباق المعلوم بالإجمال فعلاً واحتمال انطباق المعلوم بالإجمال سابقاً ، وقد زال عنه العلم فعلاً . والمفید لما ادّعاه هو الأوّل ، مع أنّه غیر واقع ؛ ضرورة ارتفاع العلم الإجمالی عن مرکزه ؛ فإنّ العلم بکون هذا واجباً أو خمراً لا یجتمع مع التردّد فی کونه واجباً أو عدله ، أو کونه خمراً أو الآخر ؛ فإنّ الإجمال متقوّم بالتردّد ، وهو ینافی العلم التفصیلی ولا یجتمع معه .
وأمّا ما ذبّ به عن الدعوی فی قیاس اجتماع العلم الإجمالی والتفصیلی باجتماع الشکّ والعلم الإجمالی ففی غایة الضعف ؛ إذ لا مانع من اجتماع العلم الإجمالی والشکّ ، بل هو متقوّم به أبداً ؛ إذ لا منافاة بین تعلّق العلم بکون أحدهما خمراً ، وبین الشکّ فی کون الآخر معیّناً خمراً .
وهذا بخلاف المقام ؛ فإنّ تعلّق العلم الإجمالی والتفصیلی بشیء واحد بتوسیط عنوانین معناه کون هذا معیّناً خمراً ، والشکّ فی کونه خمراً ، وهما لا یجتمعان أصلاً .
وإن شئت قلت : فرض تعلّق العلم الإجمالی بکون أحدهما خمراً فرض
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 115
التردید فی کلّ واحد بعینه ، وفرض العلم التفصیلی بکون واحد منهما بعینه خمراً فرض اللاتردید ، وهذا اجتماع النقیضین .
فتحصّل : أنّ الانحلال إلی علم تفصیلی وشکّ بدوی فی الموارد المزبورة هو الحقّ القراح ، غیر أنّه یمکن أن یقال : إنّ إطلاق الانحلال فی هذه الموارد لا یخلو عن مسامحة ؛ لأنّ الانحلال فرع مقارنة العلم التفصیلی والإجمالی ، وهما غیر مجتمعین . وکیف کان : فالحقّ ما مرّ .
وربّما یقال : بالانحلال الحکمی ؛ بمعنی بقاء العلم الإجمالی مع وجود العلم التفصیلی ، أو قیام الأمارة أو الأصل علی بعض الأطراف بمقدار المعلوم بالإجمال ممّا یحتمل انطباق مؤدّاه علی المعلوم بالإجمال .
وقد اُفید فی تقریره وجوه :
منها : ما أشار إلیه بعض محقّقی العصر ؛ حیث أفاد : أنّه مع قیام المنجّز فی أحد طرفی العلم الإجمالی ـ علماً کان أو أمارةً أو أصلاً ـ یخرج العلم الإجمالی عن تمام المؤثّریة فی هذا الطرف لما هو المعلوم من عدم تحمّل تکلیف واحد للتنجیزین .
وبالجملة : معنی منجّزیة العلم الإجمالی کونه مؤثّراً مستقلاًّ فی المعلوم علی الإطلاق ، وهذا المعنی غیر معقول بعد خروج أحد الأطراف عن قابلیة التأثّر ، فلا یبقی فی البین إلاّ تأثیره علی تقدیر خاصّ ، وهو أیضاً مشکوک من الأوّل .
والحاصل : أنّ الجامـع المطلق القابل للانطباق علی کلّ واحـد غیر قابل التأثّر مـن قبل العلم الإجمالی ، والجامـع المقیّد بانطباقـه علی الطرف الآخـر لا یکون معلوماً من الأوّل .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 116
وفیه : أنّه یظهر النظر فیه ممّا یأتی فی الجواب عن المحقّق الخراسانی من الخلط بین العلم الوجدانی وغیره .
منها : ما أفاده المحقّق الخراسانی قدس سره من انحلال العلم الإجمالی بثبوت طرق واُصول معتبرة مثبتة لتکالیف بمقدار المعلوم بالإجمال أو أزید ، وأنّ حجّیة الأمارات شرعاً وإن کانت بتنجیز ما أصابه والعذر عمّا أخطأ عنه ـ کما فی الطرق العقلیة ـ إلاّ أنّ نهوض الحجّة علی ما ینطبق علیه المعلوم بالإجمال فی بعض الأطراف یکون عقلاً بحکم الانحلال ، وصرف تنجّزه إلی ما إذا کان فی ذاک الطرف والعذر عمّا إذا کان فی سائر الأطراف ، انتهی .
وفیه : أنّه خلط بین العلم الوجدانی الإجمالی بوجود تکالیف فی البین ؛ بحیث لا یرضی المولی بترکه أصلاً ، والعلم بالخطاب ، أو العلم بقیام الأمارة إجمالاً .
فلو کان من قبیل الأوّل ـ أعنی العلم بالتکلیف الفعلی ـ فلا یعقل عدم تنجّزه فی أیّ طرف کان ، ولا یعقل صرف تنجّزه إلی ما إذا کان فی ذاک الطرف والعذر عمّا إذا کان فی سائر الأطراف .
کما لا یعقل الترخیص ؛ فإنّ ترخیص بعض الأطراف المحتمل کونه هو المعلوم بالإجمال أو غیره لا یجتمع مع بقاء العلم بفعلیته ، بل لو قامت الأمارة علی کون المؤدّی هو المعلوم بالإجمال یجب عقلاً رفع الید عن الأمارة والعمل بما هو مقتضی العلم الوجدانی الفعلی .
وإن شئت قلت : إنّ الترخیص ، بل احتماله مع العلم الوجدانی الفعلی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 117
بالتکلیف من الاُمور المتنافیة ، لا یجتمعان أصلاً ؛ لأنّ احتمال الترخیص مع احتمال کون التکلیف فی طرفه مع القطع بالتکلیف الفعلی مطلقاً متناقضان .
نعم ، یصحّ ما ذکره وکلّ ما ذکره الشیخ الأعظم قدس سره ، فی العلم بالخطاب أو العلم بقیام الأمارة إجمالاً ، کما تقدّم إجمالاً وسیجیء توضیحه فی مباحث الاشتغال .
ومنها : ما أفاده بعض الأعیان المحقّقین فی تعلیقته : من أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بوجوب ما لا یخرج عن الطرفین لا بأحدهما المردّد ، فلا ینجّز إلاّ بمقداره ، وتنجّز الخصوصیة المردّدة به محال .
ففی کلّ طرف یحتمل الحکم المنجّز ، لا أنّه منجّز ، وذاک الاحتمال هو الحامل علی فعل کلّ من المحتملین ؛ لاحتمال العقاب .
وأمّا الحجّة القائمة علی وجوب الظهر بخصوصها فهی منجّزة للخاصّ بما هو خاصّ ، ولیس لها فی تنجیز الخاصّ مزاحم ، فلا محالة تستقلّ الحجّة فی تنجیز الخاصّ .
وتنجیز الخاصّ الذی لا مزاحم له یمنع عن تنجّز الوجوب الواحد المتعلّق بما لا یخرج عن الطرفین ؛ إذ لیس للواحد إلاّ تنجّز واحد ، وإذا دار الأمر بین منجّزین : أحدهما یزاحم الآخر بتنجیزه ـ ولو بقاءً ـ والآخـر لا یزاحمـه فی تنجیزه ـ ولو بقاءً ـ لعدم تعلّقه بالخاصّ حتّی ینجّزه فلا محالة یکون التأثیر للأوّل ، انتهی ملخّصاً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 118
وفی ما ذکره مواقع للنظر :
أمّا أوّلاً : فلأنّ القول بأنّ العلم قد تعلّق بوجوب ما لا یخرج عن الطرفین لا بأحدهما المردّد خلاف الوجدان ، فإنّ الوجدان أقوی شاهـد علی أنّ العلم متعلّق بوجوب أحـدهما ؛ بمعنی أنّ الشخص واقف علی أنّ الواجب هـو الجمعـة بما لها مـن الخصوصیة ، أو الظهر کـذلک . وتأویل ذلک العلم إلی أنّـه متعلّق بما لا یخرج عن الطرفین تأویل بعد تعلّق العلم ، ولا یلتفت علی ذلک التأویل إلاّ عند التوجّه الثانوی .
وثانیاً : أنّ معنی منجّزیة الأمارة لیس إلاّ أنّ المؤدّی علی فرض کونـه تکلیفاً واقعیاً وموافقتـه للواقـع یکون تخلّفها موجباً لاستحقاق العقوبـة ، فلا تکون الأمـارة منجّزة للتکلیف إلاّ علی سبیل الاحتمال ، کما أنّ العلم الإجمالی کـذلک ،
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 119
فأیّ فرق بینه وبین الأمارة ؟ !
وما أفاد من أنّ طرف العلم الإجمالی یحتمل وجود الحکم المنجّز فیه لا أنّه منجّز ، بخلاف الأمارة فإنّها منجّزة للخاصّ ، فی غیر محلّه ؛ لأنّ التنجیز فی کلیهما بمعنیً واحد ، وحکم العقل فی کلیهما علی نسق واحد ؛ وهو لزوم الاتّباع لاحتمال التکلیف المنجّز الموجب لاستحقاق العقوبة .
لا یقال : إنّ لسان أدلّة حجّیة الأمارات أو لسان نفسها هو أنّ المؤدّی نفس الواقع وأنّه منجّز علیک ، لا أنّ المؤدّی علی فرض مطابقته للواقع منجّز وموجب للعقوبة ، وکم فرق بینهما ؟ ! وعلیه یحصل الفرق بین تنجیز الأمارة والعلم الإجمالی .
لأنّا نقول : والأمارة وإن قامت علی الخصوصیة لکن لم تکن منجّزة علی أیّ حال ، بل علی فرض المطابقة للواقع . والعلم الإجمالی أیضاً منجّز للتکلیف بخصوصیته فی أیّ طرف کان ؛ بمعنی أنّه مع العلم الإجمالی بوجوب الظهر أو الجمعة إذا ترکهما المکلّف ، وکان الظهر واجباً بحسب الواقع یستحقّ العقوبة علی الظهر بخصوصیته .
وثالثاً : سلّمنا أنّ متعلّق العلم إنّما هو وجوب ما لا یخرج عن الطرفین ، ولکنّه یستلزم تنجیز ما هو المنطبق ـ بالفتح ـ لهذا العنوان ؛ أعنی نفس التکلیف الواقعی .
وعلی هذا : فلو فرض صحّة الأمارة وتطابقها للواقع یکون مؤدّاها نفس التکلیف الواقعی ، فلا محالة یقع التنجیز علی شیء واحد معیّن واقعی ، ویکون التنجیز مستنداً إلی العلم الإجمالی والأمارة ، لا إلی الأمارة فقط ، لو لم نقل باستناده
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 120
إلی العلم الإجمالی فقط ؛ لسبقه وتقدّمه . وعلیه : فما أفاد من أنّ الأمارة فی تنجیزها بلا مزاحم غیر صحیح .
فظهر : أنّه لا صحّة للقول بالانحلال الحکمی مع حفظ العلم الإجمالی ، کما تقدّم .
التحقیق فی الجـواب : ما تقدّم منّا علی الوجـه الکلّی مـن أنّ المیزان لانحلال العلم هـو ارتفاع التردید ، وانقلاب القضیـة المنفصلـة الحقیقیـة أو المانعـة الخلـوّ إلی قضیـة بتّیـة ومشکوکة ، ولا یلزم العلم بکـون المعلوم تفصیلاً هـو المعلوم إجمالاً .
وعلی هذا فما أشار إلیه المحقّق الخراسانی فی بعض کلماته یمکن أن یکون وجهاً للانحلال الحقیقی ، وحاصله : تحقّق العلم الوجدانی بوجود تکالیف واقعیة فی مؤدّی الطرق والأمارات والاُصول المعتبرة بمقدار المعلوم بالإجمال ، ومعه ینحلّ العلم الإجمالی الکبیر فی دائرة العلم الإجمالی الصغیر .
وبعبارة أوضح : أنّ العلم بوجود تکالیف بسبب الأمارات والاُصول یرفع التردید الموجود فی دائرة العلم الإجمالی الکبیر .
وإن شئت فأوضح المقام بما یلی : لو علم إجمالاً بکون واحد من الإنائات الثلاثة خمراً ، واحتمل الزیادة ، ثمّ علم جزماً بأنّ واحداً من هذین الإنائین خمرٌ فلا یعقل بقاء العلم الأوّل ؛ لعدم إمکان التردید بین أحد الإنائین وبین الآخر ؛ فإنّه ینافی العلم الإجمالی ، فلا یمکن تعلّق علمین بواحد من الإنائین وواحد من الثلاثة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 121
نعم ، یمکن تعلّق العلمین بسببین للتکلیف أو الوضع ، کما لو علم إجمالاً بوقوع قطرة من الدم فی واحـد مـن الإنائین ، وعلم بوقوع قطرة اُخـری مقارناً لوقوع الأوّل فی أحدهما أو إناء آخر ؛ فإنّ العلمین تعلّقا بالقطرتین والسببین لا بالنجاسة .
وهذا نظیر العلم بوقوع قطرة بول أو دم فـی إناء معیّن ؛ فإنّ العلم تعلّق بوقـوع القطرتین ، فکلّ منهما معلوم ، وأمّا النجاسة المسبّبة فلم تکن معلومة مرّتین ؛ لعدم تعقّل ذلک .
وهاهنا وجه آخر فی ردّ مقالة الأخباری ، وحاصله : منع تعلّق العلم الإجمالی علی وجود تکالیف فعلیة لا یرضی الشارع بترکها . کیف ، وجعل الحجّیة للأمارات والاُصول أو إمضاء حجّیتها مع إمکان مخالفتها للواقع أدلّ دلیل علی عدم فعلیتها مطلقاً ورضاء الشارع بترکها فی موارد قیام الأمارة علی الخلاف ؛ إذ فعلیتها مطلقاً تستلزم وجوب العمل بالاحتیاط حتّی فی موارد قیام الأمارات والاُصول .
وعلی هذا : لا معنی لتنجیز ما عدا مؤدّیات الأمارات والاُصول ؛ لعدم تعلّق العلم بالتکلیف الفعلی ، بل إنّما تعلّق بخطابات قابلة للانطباق علی مؤدّیاتها .
ولهذا لا یلتزم الأخباری بلزوم الاحتیاط عند قیام الأمارة علی نفی التکلیف فی مورد . فلو صحّ ما یدّعیه من العلم الفعلی بالتکالیف الفعلیة التی لا یرضی الشارع بترکها علی أیّ حال لزم علیه الاحتیاط فی ذلک المورد ، مع أنّه لا یلتزم به .
وهذا ـ أی التعبّد بالأمارات والاُصول ـ أوضح دلیل علی عدم کون الأحکام بمثابة لا یرضی بترکها ، وأنّ الشارع قد رفع الید عنها فی غیر موارد الأمارات والاُصول من الشبهات .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 122