الاستدلال بالآیات
منها الآیات ؛ وهی علی طوائف :
منها : ما دلّ علی حرمة الإلقاء فی التهلکة ، کقوله تعالی : «وَلا تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ» .
وفیه : أنّ ملاحظة سیاق الآیات یرشدنا إلی المرمی منه ؛ فإنّها نازلة فی مورد الإنفاق للفقراء وسـدّ عیلتهم وأداء حـوائجهم بإعطاء الـزکاة والصدقات ؛ حتّی یتحفّظ بذلک نظم الاجتماع ، ویتوازن أعدال المجتمع ، ولا ینفصم عروة المعیشة لأرباب الأموال بالثورة علی ذوی الثروة ؛ فإنّ فی منعهم عـن حقّهم إلقاء لنفوسهم إلی التهلکة .
أو فی مورد الإنفاق فی سبیل الجهاد ؛ لأنّ فی ترک الإنفاق مظنّة غلبة الخصم . إلی غیر ذلک من محتملات .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 93
وأمّا مورد الشبهة : فلیس هاهنا أیّة هلکة ؛ لا اُخرویة بمعنی العقاب لقیام الأدلّة علی جواز الارتکاب ، ولا دنیویة ؛ إذ لا یکون فی غالب مواردها هلکة دنیویة .
ومنها : ما دلّ علی حرمة القول بغیر علم ، کقوله تعالی : «وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِکُمْ ما لَیْسَ لَکُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَیِّناً وَهُوَ عِنْدَ الله ِ عَظِیمٌ» ، وقوله تعالی : «أَتَقُولُونَ عَلَی الله ِ ما لا تَعْلَمُونَ» .
وجه الدلالة : أنّ الحکم بجواز الارتکاب تقوّل بلا علم وافتراء علیه تعالی .
قال الشیخ الأعظم : ولا یرد ذلک علی أهل الاحتیاط ؛ لأنّهم لا یحکمون بالحرمة ، بل یترکون لاحتمالها . وهذا بخلاف الارتکاب ؛ فإنّه لا یکون إلاّ بعد الحکم بالرخصة والعمل علی الإباحة .
والظاهر منه : ارتضاؤه بهذا الفرق ؛ ولهذا أجاب عن الإشکال بأنّ فعل الشیء المشتبه حکمه ـ اتّکالاً علی قبح العقاب بلا بیان ـ لیس من ذلک .
وأنت خبیر : بأنّ النزاع بین الأخباری والاُصولی فی وجوب الاحتیاط وعدمه لا فی الترک وعدمه ؛ فالأخباری یدّعی وجوب الاحتیاط ویحکم به ، والاُصـولی ینکر وجوبـه ویقول بالبراءة والإباحـة . فکلّ واحـد یـدّعی أمـراً ویقیم علیه أدلّة .
والجواب عن أصل الاستدلال : أنّه سیوافیک فی مباحث الاستصحاب أنّ المراد من العلم والیقین فی الکتاب والسنّة ـ إلاّ ما شذّ ـ هو الحجّة لا العلم
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 94
الوجدانی ، والمنظور من الآیات هو حرمة الفتوی بلا حجّة والتقوّل بلا دلیل من الکتاب والسنّة والعقل .
وعلیه : فلیس الاُصولی فی قوله بالبراءة متقوّلاً بغیر الدلیل ؛ لما سمعت من الأدلّة المحکمة الواضحة .
ومن الآیات : ما دلّ علی وجوب الاتّقاء حسب الاستطاعة والتورّع بمقدار القدرة ، مثل قوله سبحانه : «فَاتَّقُوا الله َ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ، وقوله عزّ اسمه : «وَجاهِدُوا فِی الله ِ حَقَّ جِهادِهِ . . .» الآیة ، وقوله عزّ شأنه : «اتَّقُوا الله َ حَقَّ تُقاتِهِ» .
وأجاب عنه شیخنا العلاّمة ـ أعلی الله مقامه ـ بأنّ الاتّقاء یشمل المندوبات وترک المکروهات ، ولا إشکال فی عدم وجوبهما . فیدور الأمر بین تقیید المادّة بغیرهما وبین التصرّف فی الهیئة بحملها علی إرادة مطلق الرجحان ؛ حتّی لا ینافی فعل المندوب وترک المکروه . ولا إشکال فی عدم أولویة الأوّل ، إن لم نقل بأولویة الثانی ؛ من جهة کثرة استعمالها فی غیر الوجوب ؛ حتّی قیل : إنّه صار من المجازاة الراجحة المساوی احتمالها مع الحقیقة ، انتهی .
وفیه أمّا أوّلاً : فإنّ شمول الاتّقاء لفعل المندوب وترک المکروه مورد منع ؛ فإنّ التقوی عبارة عن الاحتراز عمّا یوجب الضرر ، أو یحتمل فی فعله أو ترکه
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 95
الضرر ، ولیس المندوب والمکروه بهذه المثابة . وأمّا شموله لمشتبه الحرمة أو الوجوب فلاحتمال الضرر فی فعله أو ترکه . ویشهد علی المعنی المختار الاستعمالات الرائجة فی الکتاب والسنّة .
وأمّا ثانیاً : فلو سلّم کون استعمال الهیئة فی غیر الوجوب کثیراً ، إلاّ أنّ تقیید المادّة أکثر ، بل قلّما تجد إطلاقاً باقیاً علی إطلاقه ، وهذا بخلاف هیئة الأمر ؛ فهی مستعملة فی الوجوب واللزوم فی الکتاب والسنّة إلی ما شاء الله .
أضف إلی ذلک : أنّ ترجیح التصرّف فی الهیئة علی التصرّف فی المادّة یوجب تأسیس فقه جدید ، ولا أظنّ أنّه قدس سره کان عاملاً بهذه الطریقة فی الفروع الفقهیة ؛ وإن تکرّر منه القول بترجیح التصرّف فی الهیئة علی المادّة فی مجلس درسه .
نعم ، یتعیّن فی المقام التصرّف فی الهیئـة دون المادّة ، لا لکون ذلک قاعـدة کلّیة ، بل لخصوصیـة فی المقام ؛ لأنّ الآیـة شاملـة للشبهات الموضوعیة والوجوبیة الحکمیة . ولو حملنا الآیة علی الوجوب بلا تصرّف فی مفاد الهیئة یستلزم تقیید الآیة وإخراج بعض الأقسام ، مع أنّ لسانها آبیة عن التقیید . بل التقیید یعدّ أمراً بشیعاً .
وکیف یقبل الطبع أن یقال : اتّقوا الله حقّ تقاته إلاّ فی مورد کذا وکذا ؟ فلا مناص عن التصرّف فی مفاد الهیئة بحمل الطلب علی مطلق الرجحان حتّی یتمّ إطلاقها ، ولا یرد علیها تقیید أو تخصیص . ولیس الاُصولی منکراً لرجحان الاحتیاط أبداً .
أضف إلی ذلک : أنّ الآیات شاملة للمحرّمات والواجبات المعلومة ، ولا إشکال فی امتناع تعلّق الأمر التعبّدی بوجوب إطاعتهما ، فیجب حمل الأوامر فیها علی الإرشاد ، فتصیر تابعة للمرشد إلیه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 96
فلو حکم العقل أو ثبت وجوبه أو حرمته یتعیّن العمل علی طبق المرشد إلیه ، وإن لم یثبت وجوبه أو حرمته أو ثبت خلافه لابدّ من العمل أیضاً علی طبقه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 97