المقصد السابع فی الاُصول العملیة

الاستدلال بالآیات

الاستدلال بالآیات

‏ ‏

‏منها الآیات ؛ وهی علی طوائف :‏

منها :‏ ما دلّ علی حرمة الإلقاء فی التهلکة ، کقوله تعالی : ‏‏«‏وَلا تُلْقُوا‎ ‎بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ‏»‏‎[1]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّ ملاحظة سیاق الآیات یرشدنا إلی المرمی منه ؛ فإنّها نازلة فی‏‎ ‎‏مورد الإنفاق للفقراء وسـدّ عیلتهم وأداء حـوائجهم بإعطاء الـزکاة والصدقات ؛‏‎ ‎‏حتّی یتحفّظ بذلک نظم الاجتماع ، ویتوازن أعدال المجتمع ، ولا ینفصم عروة‏‎ ‎‏المعیشة لأرباب الأموال بالثورة علی ذوی الثروة ؛ فإنّ فی منعهم عـن حقّهم إلقاء‏‎ ‎‏لنفوسهم إلی التهلکة .‏

‏أو فی مورد الإنفاق فی سبیل الجهاد ؛ لأنّ فی ترک الإنفاق مظنّة غلبة‏‎ ‎‏الخصم . إلی غیر ذلک من محتملات .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 93
‏وأمّا مورد الشبهة : فلیس هاهنا أیّة هلکة ؛ لا اُخرویة بمعنی العقاب لقیام‏‎ ‎‏الأدلّة علی جواز الارتکاب ، ولا دنیویة ؛ إذ لا یکون فی غالب مواردها هلکة‏‎ ‎‏دنیویة .‏

ومنها :‏ ما دلّ علی حرمة القول بغیر علم ، کقوله تعالی : ‏‏«‏وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِکُمْ‎ ‎ما لَیْسَ لَکُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَیِّناً وَهُوَ عِنْدَ الله ِ عَظِیمٌ‏»‏‎[2]‎‏ ، وقوله تعالی :‏‎ ‎‏«‏أَتَقُولُونَ عَلَی الله ِ ما لا تَعْلَمُونَ‏»‏‎[3]‎‏ .‏

وجه الدلالة :‏ أنّ الحکم بجواز الارتکاب تقوّل بلا علم وافتراء علیه تعالی .‏

قال الشیخ الأعظم :‏ ولا یرد ذلک علی أهل الاحتیاط ؛ لأنّهم لا یحکمون‏‎ ‎‏بالحرمة ، بل یترکون لاحتمالها . وهذا بخلاف الارتکاب ؛ فإنّه لا یکون إلاّ بعد‏‎ ‎‏الحکم بالرخصة والعمل علی الإباحة .‏

‏والظاهر منه : ارتضاؤه بهذا الفرق ؛ ولهذا أجاب عن الإشکال بأنّ فعل الشیء‏‎ ‎‏المشتبه حکمه ـ اتّکالاً علی قبح العقاب بلا بیان ـ لیس من ذلک‏‎[4]‎‏ .‏

وأنت خبیر‏ : بأنّ النزاع بین الأخباری والاُصولی فی وجوب الاحتیاط‏‎ ‎‏وعدمه لا فی الترک وعدمه ؛ فالأخباری یدّعی وجوب الاحتیاط ویحکم به ،‏‎ ‎‏والاُصـولی ینکر وجوبـه ویقول بالبراءة والإباحـة . فکلّ واحـد یـدّعی أمـراً‏‎ ‎‏ویقیم علیه أدلّة .‏

والجواب عن أصل الاستدلال :‏ أنّه سیوافیک فی مباحث الاستصحاب أنّ‏‎ ‎‏المراد من العلم والیقین فی الکتاب والسنّة ـ إلاّ ما شذّ ـ هو الحجّة لا العلم‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 94
‏الوجدانی‏‎[5]‎‏ ، والمنظور من الآیات هو حرمة الفتوی بلا حجّة والتقوّل بلا دلیل من‏‎ ‎‏الکتاب والسنّة والعقل .‏

‏وعلیه : فلیس الاُصولی فی قوله بالبراءة متقوّلاً بغیر الدلیل ؛ لما سمعت من‏‎ ‎‏الأدلّة المحکمة الواضحة .‏

ومن الآیات :‏ ما دلّ علی وجوب الاتّقاء حسب الاستطاعة والتورّع بمقدار‏‎ ‎‏القدرة ، مثل قوله سبحانه : ‏‏«‏فَاتَّقُوا الله َ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏»‏‎[6]‎‏ ، وقوله عزّ اسمه :‏‎ ‎‏«‏وَجاهِدُوا فِی الله ِ حَقَّ جِهادِهِ . . .‏»‏‎[7]‎‏ الآیة ، وقوله عزّ شأنه : ‏‏«‏اتَّقُوا الله َ حَقَّ‎ ‎تُقاتِهِ‏»‏‎[8]‎‏ .‏

وأجاب عنه شیخنا العلاّمة‏ ـ أعلی الله مقامه ـ بأنّ الاتّقاء یشمل المندوبات‏‎ ‎‏وترک المکروهات ، ولا إشکال فی عدم وجوبهما . فیدور الأمر بین تقیید المادّة‏‎ ‎‏بغیرهما وبین التصرّف فی الهیئة بحملها علی إرادة مطلق الرجحان ؛ حتّی لا ینافی‏‎ ‎‏فعل المندوب وترک المکروه . ولا إشکال فی عدم أولویة الأوّل ، إن لم نقل بأولویة‏‎ ‎‏الثانی ؛ من جهة کثرة استعمالها فی غیر الوجوب ؛ حتّی قیل : إنّه صار من المجازاة‏‎ ‎‏الراجحة المساوی احتمالها مع الحقیقة‏‎[9]‎‏ ، انتهی .‏

وفیه أمّا أوّلاً :‏ فإنّ شمول الاتّقاء لفعل المندوب وترک المکروه مورد منع ؛‏‎ ‎‏فإنّ التقوی عبارة عن الاحتراز عمّا یوجب الضرر ، أو یحتمل فی فعله أو ترکه‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 95
‏الضرر ، ولیس المندوب والمکروه بهذه المثابة . وأمّا شموله لمشتبه الحرمة أو‏‎ ‎‏الوجوب فلاحتمال الضرر فی فعله أو ترکه . ویشهد علی المعنی المختار‏‎ ‎‏الاستعمالات الرائجة فی الکتاب والسنّة .‏

وأمّا ثانیاً :‏ فلو سلّم کون استعمال الهیئة فی غیر الوجوب کثیراً ، إلاّ أنّ تقیید‏‎ ‎‏المادّة أکثر ، بل قلّما تجد إطلاقاً باقیاً علی إطلاقه ، وهذا بخلاف هیئة الأمر ؛ فهی‏‎ ‎‏مستعملة فی الوجوب واللزوم فی الکتاب والسنّة إلی ما شاء الله .‏

‏أضف إلی ذلک : أنّ ترجیح التصرّف فی الهیئة علی التصرّف فی المادّة یوجب‏‎ ‎‏تأسیس فقه جدید ، ولا أظنّ أنّه ‏‏قدس سره‏‏ کان عاملاً بهذه الطریقة فی الفروع الفقهیة ؛ وإن‏‎ ‎‏تکرّر منه القول بترجیح التصرّف فی الهیئة علی المادّة فی مجلس درسه .‏

‏نعم ، یتعیّن فی المقام التصرّف فی الهیئـة دون المادّة ، لا لکون ذلک قاعـدة‏‎ ‎‏کلّیة ، بل لخصوصیـة فی المقام ؛ لأنّ الآیـة شاملـة للشبهات الموضوعیة‏‎ ‎‏والوجوبیة الحکمیة . ولو حملنا الآیة علی الوجوب بلا تصرّف فی مفاد الهیئة‏‎ ‎‏یستلزم تقیید الآیة وإخراج بعض الأقسام ، مع أنّ لسانها آبیة عن التقیید . بل التقیید‏‎ ‎‏یعدّ أمراً بشیعاً .‏

‏وکیف یقبل الطبع أن یقال : اتّقوا الله حقّ تقاته إلاّ فی مورد کذا وکذا ؟ فلا‏‎ ‎‏مناص عن التصرّف فی مفاد الهیئة بحمل الطلب علی مطلق الرجحان حتّی یتمّ‏‎ ‎‏إطلاقها ، ولا یرد علیها تقیید أو تخصیص . ولیس الاُصولی منکراً لرجحان‏‎ ‎‏الاحتیاط أبداً .‏

‏أضف إلی ذلک : أنّ الآیات شاملة للمحرّمات والواجبات المعلومة ، ولا‏‎ ‎‏إشکال فی امتناع تعلّق الأمر التعبّدی بوجوب إطاعتهما ، فیجب حمل الأوامر فیها‏‎ ‎‏علی الإرشاد ، فتصیر تابعة للمرشد إلیه .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 96
‏فلو حکم العقل أو ثبت وجوبه أو حرمته یتعیّن العمل علی طبق المرشد إلیه ،‏‎ ‎‏وإن لم یثبت وجوبه أو حرمته أو ثبت خلافه لابدّ من العمل أیضاً علی طبقه .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 97

  • )) البقرة (2) : 195 .
  • )) النور (24) : 15 .
  • )) الأعراف (7) : 29 .
  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25 : 62 ـ 63 .
  • )) الاستصحاب ، الإمام الخمینی قدس سره : 81 ـ 82 و 239 .
  • )) التغابن (64) : 16 .
  • )) الحجّ (22) : 78 .
  • )) آل عمران (3) : 102 .
  • )) درر الفوائد ، المحقّق الحائری : 429 .