المقصد السابع فی الاُصول العملیة

جولة حول وجوب دفع الضرر المحتمل

جولة حول وجوب دفع الضرر المحتمل

‏ ‏

ربّما یتوهّم :‏ ورود حکم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل علی الحکم‏‎ ‎‏العقلی المذکور من قبح العقاب بلا بیان ، بتوهّم : أنّ الأوّل بیان بلسانه ، فیصیر‏‎ ‎‏العقاب مع البیان .‏

وهذا فاسد‏ ؛ سواء اُرید من الضرر العقاب الاُخروی أو اُرید غیره :‏

أمّا الأوّل :‏ فلأنّ من الواضح أنّ الکبری بما هی هی لا ینتج شیئاً فی عامّة‏‎ ‎‏الموارد ما لم ینضمّ إلیه الصغری ، فالعلم بوجوب دفع الضرر کالعلم بقبح العقاب بلا‏‎ ‎‏بیان لا ینتجان إلاّ إذا انضمّ إلی کلّ واحد صغراه .‏

‏فیقال فی الاُولی : إنّ العقاب فی ارتکاب محتمل الحرمة أو ترک محتمل‏‎ ‎‏الوجوب محتمل ، ویجب دفع الضرر المحتمل ؛ فینتج وجوب الاحتراز عن محتمل‏‎ ‎‏التکلیف .‏

‏ویقال فی الثانیة : إنّ العقاب علی محتمل التکلیف بعد الفحص التامّ وعدم‏‎ ‎‏العثور علیه عقاب بلا بیان ، والعقاب بلا بیان قبیح ـ أی یمتنع صدوره عن المولی‏‎ ‎‏الحکیم العادل ـ فینتج : أنّ العقاب علی محتمل التکلیف ممتنع .‏

إذا عرفت ذلک فنقول :‏ إنّ القیاس الثانی مرکّب من صغری وجدانیة وکبری‏‎ ‎‏برهانیة ، فالنتیجة المتحصّلة منهما قطعیة بتّیة .‏

‏وأمّا الأوّل : فالصغری فیه لیست أمراً وجدانیاً فعلیة ، بل صحّة صغراه یتوقّف‏‎ ‎‏علی اُمور ؛ إمّا تقصیر العبد فی الفحص عن تکالیفه ، أو کون المولی غیر حکیم أو‏‎ ‎‏غیر عادل ، أو کون العقاب بلا بیان أمراً غیر قبیح . فلأجل واحد من هذه الاُمور‏‎ ‎‏یصیر العقاب محتملاً ، والمفروض عدم تحقّق واحد منها .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 88
‏فظهر : أنّ الصغری فی الثانی وجدانیة قطعیة فعلیة ، أمّا الصغری فی الأوّل‏‎ ‎‏معلّقة علی تحقّق واحد من هذه الاُمور ، والمفروض عدم تحقّقها . فهذا القیاس تامّ‏‎ ‎‏فعلی غیر معلّق علی شیء ، وتمامیة ذاک مبنیة ومعلّقة علی بطلان القواعد المسلّمة .‏

‏ولا شکّ عندئذٍ فی حکومة القیاس المنظّم من المقدّمات الفعلیة علی‏‎ ‎‏المتوقّف علی اُمور لم یحصل واحد منها ؛ بمعنی أنّ القیاس الثانی دافع لصغری‏‎ ‎‏القیاس الأوّل .‏

‏ولعلّه إلی ذلک ینظر کلمات القوم ، وإلاّ فظاهر کلماتهم من ورود إحدی‏‎ ‎‏الکبریین علی الاُخری غیر صحیح ؛ فإنّ النزاع لیس بین الکبریین ، بل صحّتهما ممّا‏‎ ‎‏لا إشکال فیه ، وصدقهما لا یتوقّف علی وجود مصداق لصغراهما ؛ إذ العقاب‏‎ ‎‏بلا بیان قبیح ـ کان بیان فی العالم أو لا ـ کما أنّ دفع الضرر المحتمل واجب ـ کان‏‎ ‎‏الضرر محتملاً أو لا ـ فاحتمال الضرر فی بعض الموضوعات وتحقّق البیان کذلک‏‎ ‎‏غیر مربوط بحکم الکبریین وموضوعهما ، فلا یکون إحدی الکبریین واردة أو‏‎ ‎‏حاکمة علی الاُخری قطّ ، بل أحد القیاسین بعد تمامیة مقدّماته وجداناً أو برهاناً‏‎ ‎‏یدفع صغری القیاس الآخر بالبیان المتقدّم .‏

وأمّا الثانی‏ ؛ أعنی ما إذا اُرید من الضرر غیر العقاب الاُخروی الموعود‏‎ ‎‏جـزاءً للأعمال :‏

فإن اُرید منه اللوازم القهریة للأعمال‏ التی یعبّر عنه بتجسّم الأعمال وتجسّد‏‎ ‎‏الأفعال ، بتقریب أنّها لیست من العقوبات السیاسیة المجعولة ؛ حتّی یرتفع بحکم‏‎ ‎‏العقل ، بل صور غیبیة لأفعال الإنسان ، وقد استدلّ أصحاب هذا الرأی بعدّة آیات‏‎ ‎‏وأخبار ظاهرة فیما قالوه‏‎[1]‎‏ ، وعلیه فلابدّ من دفع هذا الاحتمال :‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 89
فنقول :‏ إنّ ما هو المقرّر عند أصحاب هذا القول : أنّ الأعمال التی تبقی‏‎ ‎‏آثارها فی النفس هی الآثار الحسنة النورانیة أو السیئة الظلمانیة ، وأمّا مطلق‏‎ ‎‏الأعمال ممّا هی متصرّمة فی عالم الطبع فلا یمکن تحقّقها فی عالم آخر . ولا تکون‏‎ ‎‏تلک الأفعال موجبة لخلاّقیة النفس صوراً غیبیة تناسب تلک الأفعال .‏

‏وبالجملة : لوازم الأعمال هی الصور المتجسّدة بتبع فعّالیة النفس إذا خرجت‏‎ ‎‏عن الجسد فی البرازخ أو بعد الرجوع إلیه فی القیامة الکبری . فالأفعال الطبیعیة‏‎ ‎‏التی لم تورث فی النفس صورة ، لا یمکن حشرها وتصوّرها فی سائر العوالم .‏‎ ‎‏ومناط هذه التصوّرات هو الإطاعة والعصیان ، لا إتیان مطلق الأفعال .‏

وإن اُرید به الضرر الدنیوی ففیه :‏ أنّ احتمال مطلق الضرر ـ ولو کان دنیویاً ـ‏‎ ‎‏غیر واجبة الدفع ما لم یوجب احتمال العقاب .‏

‏فإن قلت : إنّ مع احتمال الضرر یحکم العقل بقبح الارتکاب ، وبالملازمة‏‎ ‎‏تثبت الحرمة .‏

‏قلت ـ مضافاً إلی أنّ ارتکاب الضرر لیس قبیحاً ، بل هو بلا داعٍ عقلائی‏‎ ‎‏سفه ـ إنّ لازم ذلک البیان هو العلم بالتکلیف فی صورة احتماله ، فتأمّل .‏

‏فإن قلت : إنّ احتمال الضرر مستوجب لاحتمال القبح ، وهو مستلزم‏‎ ‎‏لاحتمال العقاب ، وقد علم وجوب دفعه .‏

‏قلت ـ مضافاً إلی ما أوردنا علی الأوّل من أنّ ارتکاب الضرر بلا داعٍ عقلائی‏‎ ‎‏سفه لا قبیح ، ومعه لا سفه ولا قبح ـ یرد علیه : أنّ الضرر بوجوده الواقعی لا یؤثّر‏‎ ‎‏فی القبح ، بل علی فرضه لابدّ من العلم به ، فالعلم به موضوع للقبح ، فمع احتمال‏‎ ‎‏الضرر لا یکون قبیحاً جزماً .‏

‏أضف إلی ذلک : أنّ الشبهة الموضوعیة والوجوبیة مشترکتان مع الشبهة‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 90
‏التحریمیة فی هذه التوالی المدّعـاة ، فلو کانت للأفعال لوازم قهریـة مؤذیـة‏‎ ‎‏لصاحبها لکان علی الشارع الرؤوف الـرحیم إیجاب الاحتیاط ؛ حتّی یصون‏‎ ‎‏صاحبها عن هذه اللوازم القهریة . فالترخیص فیهما إجماعاً بل ضرورة ، دلیل‏‎ ‎‏علی بطلان تلک المزعمة ، وأنّه لیس هاهنا ضرر اُخروی أو دنیوی واجب الدفع ،‏‎ ‎‏کما لا یخفی .‏

‏وأظنّ : أنّ هذا المقدار من الأدلّة کافٍ فی إثبات البراءة الشرعیة ، ولنعطف‏‎ ‎‏عنان الکلام إلی مقالة الأخباریین .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 91

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 92

  • )) الأربعون حدیثاً ، الشیخ البهائی : 401 ـ 402 و 473، الحکمة المتعالیة 9 : 175 و290 .