الروایة الثامنة : حدیث الإطلاق
ومن الروایات : ما أرسله الصدوق ورواه الشیخ الحـرّ فی کتاب القضاء عـن محمّد بن علی بن الحسین ، قال : قال الصادق علیه السلام : «کلّ شیء مطلق حتّی یرد فیه نهی» .
وإسناد الصدوق متن الحدیث إلیه علیه السلام بصورة الجزم والقطع شهادة منه علی صحّة الروایة وصدورها عنه علیه السلام فی نظره قدس سره ، وهذا الإرسال بهذه الصورة ، من دون أن یقول : «وعن الصادق» حاکٍ عن وجود قرائن کاشفة عن صحّة الحدیث ومعلومیة صدوره عنده ، کما لا یخفی .
وأمّا فقه الحدیث : ففیه احتمالات ؛ فإنّ قوله «مطلق» إمّا أن یراد منه اللا حرج من قبل المولی ، فی قبال الحظر العقلی ؛ لکونه عبداً مملوکاً ینبغی أن یکون صدوره ووروده عن رأی مالکه ، أو یراد الإباحة الشرعیة الواقعیة ، أو الإباحة الظاهریة المجعولة للشاکّ .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 73
ثمّ المراد من النهی : إمّا النهی المتعلّق بالعناوین الأوّلیة أو الأعمّ منه ومن الظاهری ، کالمستفاد من الاحتیاط .
ثمّ المراد من الورود : إمّا الورود المساوق للصدور واقعاً ؛ سواء وصل إلی المکلّف أم لا ، أو الورود علی المکلّف المساوق للوصول إلیه .
وتمامیة دلالة الحدیث إنّما یتمّ لو دلّ علی الإباحة الظاهریة المجعولة للشاکّ فیما لم یصل إلی المکلّف نهی ؛ سواء صدر النهی عن المولی أو لا .
ثمّ إنّ بعض الأعیان المحقّقین : قد اعتقد بامتناع إرادة بعض الاحتمالات ؛ أعنی کون المطلق بمعنی الإباحة الشرعیة ؛ واقعیة کانت أو ظاهریة فیما إذا اُرید من الورود هو الصدور من الشارع .
أمّا الأوّل ـ کون المطلق بمعنی الإباحة الواقعیة والمراد من الورود هو الصدور ـ فأفاد فی وجه امتناعه ما هذا ملخّصه : إنّ الإباحة الواقعیة ناشئة من لا اقتضائیة الموضوع ؛ لخلوّه عن المصلحة والمفسدة ، فلا یعقل ورود حرمة فی موضوعها ؛ للزوم الخلف من فرض اقتضائیة الموضوع المفروض أنّه لا اقتضاء . وفرض عروض عنوان آخر مقتضٍ للحرمة مخالف لظاهر الروایة الدالّة علی أنّ الحرمة وردت علی نفس ما وردت علیه الإباحة .
ولو اُرید من ورود النهی تحدید الموضوع وتقییده بأنّ ما لم یرد فیه نهی مباح فهو ـ مع کونه خلاف الظاهر ـ فاسد ؛ لأنّه إن کان بنحو المعرّفیة فهو کالإخبار بأمر بدیهی لا یناسب شأن الإمام علیه السلام ، وإن کان بنحو التقیید والشرطیة فهو غیر معقول ؛ لأنّ تقیید موضوع أحد الضدّین بعدم الضدّ حدوثاً أو بقاءً غیر معقول ؛ لأنّ عدم الضدّ لیس شرطاً لوجود ضدّه .
وأمّا الثانی ـ کون المطلق بمعنی الإباحة الظاهریة ، والورود بمعنی الصدور ـ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 74
فأفاد : أنّه یمتنع لوجوه :
منها : لزوم تخلّف الحکم عن موضوعه التامّ ؛ فإنّه مع فرض کون الموضوع ـ وهو المشکوک ـ موجوداً یرتفع حکمه بصدور النهی المجامع مع الشکّ واقعاً ، فلا یعقل أن یتقیّد إلاّ بورود النهی علی المکلّف ؛ لیکون مساوقاً للعلم المرتفع به الشکّ .
ومنها : أنّ الإباحة إذا کانت مغیّاة بصدور النهی واقعاً أو محدّدة بعدمه ، والغایة أو القید مشکوک الحصول فلا محالة یحتاج إلی أصالة عدم صدوره لفعلیة الإباحة .
وأمّا الأصل : فإن کان لمجرّد نفی الحرمة فلا مانع منه إلاّ أنّه لیس من الاستدلال بالخبر ، وإن کان للتعبّد بالإباحة الشرعیة ـ واقعیة أو ظاهریة ـ فقد علم امتناع ذلک مطلقاً ، وإن کان للتعبّد بالإباحة ـ بمعنی اللا حرج ـ فهی لیست من مقولة الحکم ، ولا هی موضوع ذو حکم .
ومنها : أنّ ظاهر الخبر جعل ورود النهی غایة رافعة للإباحة الظاهریة المفروضة ، ومقتضی فرض عدم الحرمة إلاّ بقاءً هو فرض عدم الحرمة حدوثاً ، ومقتضاه عدم الشکّ فی الحلّیة والحرمة من أوّل الأمر ، فلا معنی لجعل الإباحة الظاهریة .
ولیست الغایة غایة للإباحة الإنشائیة حتّی یقال : إنّه یحتمل فی فرض فعلیة الشکّ صدور النهی واقعاً ، بل غایة لحقیقة الإباحة الفعلیة بفعلیة موضوعها ـ وهو المشکوک ـ وحیث إنّ المفروض صدور النهی بقاءً فی مورد هذه الإباحة الفعلیة فلذا یرد المحذور المزبور .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 75
أقول : فی کلامه مواقع للنظر :
منها : ما أفاده فی امتناع الأوّل من أنّ الإباحة الواقعیة ناشئة من لا اقتضاء الموضوع ، فلا یعقل ورود النهی علی نفس الموضوع ، ففیه : أنّ اللا اقتضاء والاقتضاء لو کانا راجعین إلی نفس الموضوع لکان لما ذکره وجه ، إلاّ أنّ الأحکام الشرعیة وإن کانت مجعولة عن مصالح ومفاسد لکن لا یلزم أن یکون تلک المصالح أو المفاسد فی نفس الموضوعات حتّی یکون الاقتضاء واللااقتضاء راجعاً إلیه ، بل الجهات الخارجیة مؤثّرة فی جعل الأحکام بلا ریب .
وأوضح شاهد علی ذلک هو نجاسة الکفّار والمشرکین ؛ فإنّ جعل النجاسة علیهم لیس لأجل وجود قذارة أو کثافة فی أبدانهم ـ کما فی سائر الأعیان النجسة ـ بل الملاک لهذا الجعل الجهات السیاسیة ؛ فإنّ نظر المشرّع تحفّظ المسلمین عن مخالطة الکفّار والمعاشرة معهم ؛ حتّی تصون بذلک أخلاقهم وآدابهم ونوامیسهم ، فلأجل هذه الأمنیة حکم علی نجاستهم .
فحینئذٍ : فمن الممکن أن یکون الموضوع مقتضیاً للحرمة لکن الموانع منعت عن جعلها ، أو المصالح السیاسیة اقتضت جعل الإباحة الواقعیة . فلو کان الشارع حاکماً بحلّیة الخمر فی دور الضعف ـ وإن کان تراها ذات مفسدة مقتضیة للتحریم وجعل الحرمة ـ لکان أشبه شیء بالمقام .
ومنها : أنّه یمکن جعل ورود النهی تحدیداً للموضوع بکلا الوجهین ؛ من المعرّفیة والشرطیة بلا محذور :
أمّا الأوّل : فلأنّ ما هو کالبدیهی إنّما هو الإباحة بمعنی اللاحرجی قبال الحظر ، وأمّا الإباحة الواقعیة المجعولة الشرعیة فلیس کذلک ؛ لأنّها لا تحصل إلاّ بجعل الجاعل ، بخلاف اللاحرجیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 76
فإن قلت : یلزم اللغویة حینئذٍ ؛ إذ بعد ما حکم العقل باللاحرجیة فلا مجال لجعل الإباحة الواقعیة .
قلت : إنّه منقوض أوّلاً بالبراءة الشرعیة ، مع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بیان ، وثانیاً نمنع لغویة الجعل بعد کونها ذات آثار لا تترتّب إلاّ بجعل تلک الإباحة الواقعیة ، ولا یغنی عنها ما یحکم به العقل ؛ ضرورة أنّه مع الشکّ فی ورود النهی من الشارع یمکن استصحاب الحلّیة المجعولة ، بعد الإشکال فی جریان أصالة عدم ورود النهی لأجل کونها أصلاً مثبتاً ، وبدونها لا یجوز استصحاب اللاحرجیة ؛ لعدم کونها حکماً شرعیاً ، ولا موضوعاً ذا أثر .
علی أنّه یمکن منع اللغویة بأنّ جعلها لرفع الشبهة المغروسة فی الأذهان من أنّ الأشیاء قبل ورود الشرع علی الحظر حتّی یرد منه الترخیص .
وأمّا الثانی : أعنی أخذ عدم الضدّ شرطاً لوجود الضدّ الآخر ، فالمنع عنه یختصّ بالاُمور التکوینیة کما حقّق فی محلّه ، وأمّا الاُمور الاعتباریة التی لا یتحمّل أحکام التکوینی ـ کالتضادّ وغیره ـ فلا ، وقد أوضحنا فی بعض المباحث : أنّه لا تضادّ بین الأحکام ، فلأجل ذلک یمکن أن یجعل عدم أحد الضدّین شرطاً لوجود الضدّ الآخر .
ومنها : ما أفاده من امتناع إرادة الإباحة الظاهریة من المطلق مع کون الورود الواقعی غایةً أو تحدیداً للموضوع لأجل تخلّف الحکم من موضوعه التامّ ، ففیه : أنّ الموضوع علی التحدید هو المشکوک الذی لم یرد فیه نهی واقعاً ، وهو غیر المشکوک الذی ورد فیه نهی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 77
وبالجملة : لو کان الموضوع للإباحة الظاهریة هو المشکوک بما هو هو ، المجامع مع ورود النهی واقعاً ، یلزم تخلّف الحکم ـ الإباحة الظاهریة ـ عن موضوعه المشکوک . فمع کون الموضوع ـ وهو المشکوک ـ موجوداً لیس معه الحکم ـ أعنی الإباحة ـ لأجل ورود النهی واقعاً .
وأمّا لو کان الموضوع هو المشکوک الذی لم یرد فیه نهی واقعاً ، فلو ورد هنا نهی لانتفی ما هو موضوع الإباحة بانتفاء أحد جزئیه ، فلیس هنا موضوع حتّی یلزم انفکاک الحکم عن موضوعه .
نعم ، لو کان غایة فالموضوع وإن کان هو المشکوک بما هو هو ـ وهو محفوظ مع ورود النهی ـ لکن لا مانع من تخلّف الحکم عن موضوعه إذا اقتضت المصالح الخارجیة لذلک .
وما ذکر من الامتناع ناشٍ من قیاس التشریع علی التکوین ، بتخیّل أنّ الموضوعات علل تامّة للأحکام ـ کما هو المعروف ـ وهو غیر تامّ .
وقد عرفت : أنّ المصالح الخارجیة ومفاسدها لها دخالة فی تعلّق الأحکام ، کما مرّ فی نجاسة الکفّار ، وطهارة العامّة فی حال الغیبة لأجل حصول الاتّفاق والاتّحاد ؛ حتّی دلّت الأخبار علی رجحان معاشرتهم والحضور فی جماعاتهم إلی غیر ذلک .
وعلی ذلک : فالمشکوک یمکن أن یکون حلالاً إلی أمد ؛ لاقتضاء العصر وحراماً إلی زمان آخر . وإن شئت أخذت الحوادث المقارنة قیداً محدوداً ، وبتغیّرها یتغیّر الحکم .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 78
وأمّا إجراء الأصل : فنختار أنّه للتعبّد بالإباحة الشرعیة واقعیة أو ظاهریة . وما أفاد من أنّه قد علم امتناع ذلک مطلقاً قد علمت صحّته ومعقولیته . أضف إلی ذلک : أنّ ما أفاد تحت ذلک العنوان ـ إجراء الأصل ـ ظاهر فی کونه دلیلاً مستقلاًّ ، مع أنّه فی الإباحة الظاهریة مصادرة جدّاً . اللهمّ أن یتشبّث بما أفاده قبله ، فلا یکون ذلک دلیلاً مستقلاًّ .
ثمّ إنّ الأصل الجاری فی المقام :
إن کان أصالة عدم الحرمة : فسیوافیک الإشکال فیه .
وإن کان أصالة عدم ورود النهی حتّی یثبت الحلّیة الواقعیة أو الظاهریة : فسیوافیک أنّه من الاُصول المثبتة ؛ لأنّ تحقّق ذی الغایة مع عدم حصول غایته من الأحکام العقلیة ، والشکّ فی تحقّق ذیها وإن کان مسبّباً عن تحقّق نفس الغایة وعدمها ، إلاّ أنّه لیس مطلق السببیة مناطاً لحکومة السببی علی المسبّبی ما لم یکن الترتّب شرعیاً .
وإن کان الأصل أصالة بقاء الإباحة الواقعیة أو الظاهریة فلا مانع منه .
والقول بأنّ الاستصحاب لا یجری فی الأحکام الظاهریة صحیح ، لکن المقام لیس من أفراده ؛ لأنّ ذلک فیما إذا کان نفس الشکّ کافیاً فی ترتّب الأحکام ؛ لأنّ الحکم فی المقام لیس مرتّباً علی نفس الشکّ ، بل علیه مغیّاً بعدم ورود النهی الواقعی ، وهذا لا یکفی فیه الشکّ أصلاً حتّی لا تحتاج إلی الاستصحاب .
وأمّا ما أفاده فی ثالث إشکالاته : فلأنّا نمنع استلزام عدم الحرمة إلاّ بعد ورود النهی عدمَ تحقّق الشکّ ؛ فإنّ تحقّقه ضروری مع الشکّ فی الورود وعدمه ؛ فإنّ المکلّف إذا التفت إلی حرمة شرب التتن وعدمها ؛ محتملاً ورود النهی واقعاً فلا محالة یتحقّق فی نفسه الشکّ ، وهو کافٍ فی جعل الحکم الظاهری ؛ سواء کان
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 79
الحکم الظاهری هو إیجاب الاحتیاط حتّی یرد الترخیص ، أو الترخیص حتّی یرد النهی ، وقد أوضحنا عدم لغویة هذا الجعل ، کما تقدّم .
ثمّ هذا کلّه علی القول بأنّ موضوع الحلّیة الظاهریة هو الشکّ فی الحکم الشرعی المجعول .
ویمکن أن یقال : إنّ موضوعها هو الشکّ فی کون الأشیاء علی الحظر وعدمه ، أو الشکّ فی الملازمة بین حکم العقل والشرع إذا قلنا بالحظر عقلاً ، فیکون قوله علیه السلام : «کلّ شیء مطلق حتّی یرد فیه نهی» ناظراً لکلا الشکّین . فلو شکّ فی أنّ الأصل فی الأشیاء هو الحظر أو عدمه تفید الروایة کونها علی الإباحة ، وکذا لو قلنا بأنّ الأصل الأوّلی هو الحظر ولکن شککنا فی الملازمة .
والحاصل : یکون قوله علیه السلام ناظراً إلی ما إذا شکّ فی الحکم الشرعی لأجل الشکّ فی أنّ الأصل فی الأشیاء هو الحظر أو عدمه ، أو لأجل الشکّ فی الملازمة . فهذا الشکّ محقّق مطلقاً ؛ حتّی مع العلم بعدم ورود النهی فی الشرع ؛ لأنّ متعلّق الشکّ کون الأصل فی الأشیاء قبل الشرع هل هو الحظر أو لا ؟
وهذا لا ینافی العلم بعدم ورود النهی من الشارع ، وهذا نحو آخر من الحکم الظاهری المجعول فی حقّ الشاکّ فی الحکم الواقعی . وعلی هذا یکون عامّة إشکالاته واضحة الدفع ؛ خصوصاً الثالث منها ؛ فإنّه علی فرض تسلیمه لا یرد فی هذا الفرض ، کما لایخفی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 80