الأمر الثانی : معنی الرفع فی الحدیث
هل الرفع فی الحدیث بمعناه الحقیقی ، أو هو بمعنی الدفع ، استعمل فی المقام مجازاً ؟
التحقیق هو الأوّل ؛ سواء قلنا إنّ المرفوع هو نفس الموضوعات ادّعاءً ـ کما هو المختار ـ أو المرفوع آثارها وأحکامها بالتزام تقدیر فی الکلام .
أمّا علی الأوّل فبیانه : أنّ معنی الرفع الحقیقی هو إزالة الشیء بعد وجوده وتحقّقه ، وقد اُسند إلی نفس هذه العناوین التسعة المتحقّقة فی الخارج ، فلابدّ أن یحمل الرفع إلی الرفع الادّعائی ، وهو یحتاج إلی وجود المصحّح لهذا الادّعاء .
ثمّ المصحّح کما یمکن أن یکون رفع الآثار یمکن أن یکون دفع المقتضیات عن التأثیر ؛ لأنّ رفع الموضوع تکویناً کما یوجب رفع الآثار المترتّبة علیه والمتحقّقة فیه ، کذلک یوجب عدم ترتّب الآثار علیه بعد رفعه وإعدامه ، وهذا مصحّح الدعوی ؛ لاسیّما مع وجود المقتضی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 33
فیجوز نسبة الرفع إلی الموضوع ادّعاءً بواسطة رفع آثاره أو دفعها أو دفع المقتضی عن التأثیر ، وذلک لا یوجب أن یکون الرفع المنسوب إلی الموضوع بمعنی الدفع ، بل لو بدّل الرفع بالدفع لیخرج الکلام عمّا له من البلاغة إلی الابتذال .
وأمّا علی الثانی ـ أعنی کون المرفوع هو الآثار بالتزام تقدیر ـ فتوضیحه : أنّ إطلاق الرفع إنّما هو لأجل شمول إطلاقات الأدلّة أو عمومها لحالات الاضطرار والإکراه والنسیان والخطأ وعدم الطاقة ، فعمومات الکتاب ـ مثل : «وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما» وأضرابه ـ والسنّة شاملة حسب الإرادة الاستعمالیة هذه الحالات .
وإطلاق الرفع إنّما هو حسب تلک الإرادة ؛ وإن کان حسب الإرادة الجدّیة دفعاً ؛ لعدم شمولها لهذه الحالات من أوّل الأمر ، لکنّ المصحّح لاستعمال الرفع هو الإرادة الاستعمالیة التی مآله إلی ضرب القانون عموماً علی موضوعات الأحکام ، بلا تقیید وتخصیص . فیستقرّ فی ذهن المخاطب بدواً ثبوت الحکم للمضطرّ والناسی وأشباههما .
ثمّ إنّ المتکلّم یخبر برفع الآثار والأحکام عن الموضوعات المضطرّ إلیها والمستکره بها ، وإطلاق الرفع لأجل شمول العامّ القانونی لها ، واستقراره فی أذهان المخاطبین .
وهذا کلّه بناءً علی جواز خطاب الناسی واضح ، وأمّا بناءً علی عدم جواز خطابه یکون الرفع فی الأحکام التکلیفیة فی حقّه فی غیر مورده .
وأمّا الطیرة والوسوسة : فالمصحّح لاستعمال الرفع کونهما محکومین
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 34
بالأحکام فی الشرائع السابقة ، ولم یکن الشرائع السماویة محدودة ظاهراً ، بل أحکامها حسب الإرادة الاستعمالیة کانت ظاهرة فی الدوام والبقاء ؛ ولهذا یقال : إنّها منسوخة .
وإن شئت قلت : کان هناک إطلاق أو عموم یوهم بقاء الحکم فی عامّة الأزمنة ، فإطلاق الرفع لأجل رفع تلک الأحکام الظاهرة فی البقاء والدوام ، ویشهد علی ذلک قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «عن اُمّتی» ؛ وإن کان کلّ ذلک دفعاً حسب اللبّ والجدّ ، إلاّ أنّ مناط حسن الاستعمال هو الاستعمالیة من الإرادتین لا الجدّیة ، بل لو کان المیزان للرفع هو إطلاق الأحکام فی الشرائع السماویة یمکن أن یکون وجه استعمال الرفع فی عامّة الموضوعات التسعة لأجل ثبوت الحکم فیها فی الشرائع السابقة علی نحو الدوام والاستمرار .
وأمّا «ما لا یعلمون» : فالرفع فیه لأجل إطلاق الأدلّة وظهورها فی شمول الحکم للعالم والجاهل بلا فرق ، کما هو المختار فی الباب . نعم لو لم نقل بإطلاق الأدلّة فلا شکّ فی قیام الإجماع علی الاشتراک فی التکالیف .
فالرفع لأجل ثبوت الحکم حسب الإرادة الاستعمالیة لکلّ عالم وجاهل ؛ وإن کان الجاهل خارجاً حسب الإرادة الجدّیة ، غیر أنّ المناط فی حسن الاستعمال هو الاستعمالی من الإرادة .
فتلخّص : کون الرفع بمعناها ؛ سواء کان الرفع بلحاظ رفع التسعة بما هی هی ، أو کان رفع تلک الاُمور حسب الآثار الشرعیة .
ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر أفاد : أنّ الرفع بمعنی الدفع ؛ حیث قال : إنّ استعمال الرفع مکان الدفع لیس مجازاً ، ولا یحتاج إلی عنایة أصلاً ؛ فإنّ الرفع فی الحقیقة یمنع ویدفع المقتضی عن التأثیر فی الزمان اللاحق ؛ لأنّ بقاء الشیء کحدوثه یحتاج
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 35
إلی علّة البقاء . فالرفع فی مرتبة وروده علی الشیء إنّما یکون دفعاً حقیقة ، باعتبار علّة البقاء ؛ وإن کان رفعاً باعتبار الوجود السابق .
فاستعمال الرفع فی مقام الدفع لا یحتاج إلی علاقة المجاز ، بل لا یحتاج إلی عنایة أصلاً ، بل لا یکون خلاف ما یقتضیه ظاهر اللفظ ؛ لأنّ غلبة استعمال الرفع فیما یکون له وجود سابق لا یقتضی ظهوره فی ذلک ، انتهی .
وفی کلامه مواقع للنظر :
منها : أنّ اللغة والارتکاز قد تطابقا علی أنّ معنی الرفع هو إزالة الشیء عن صفة الوجود بعد تحقّقه وتحصّله ، فعلی هذا فلو استعمل بمعنی الدفع فلا مناص عن العنایة وما به یتناسب الاستعمال ، وإنکار احتیاجه إلی العنایة مکابرة ظاهرة .
منها : أنّ ما أفاده قدس سره ؛ من أنّ بقاء الشیء یحتاج إلی العلّة کحدوثه صحیح لا ریب فیه إلاّ أنّ ما أفاده من أنّ الرفع عبارة عن دفع المقتضی عن التأثیر فی الزمان اللاحق غیر صحیح ؛ فإنّ دفع المقتضی عن التأثیر فی الزمان اللاحق لا یطلق علیه الرفع ، بل یطلق علیه الدفع ، وإنّما یستعمل الرفع فی هذه الحالة لا بهذه الحیثیة ، بل باعتبار إزالة الشیء عن صفحة الوجود بعد تحقّقه .
ومجرّد تواردهما أحیاناً علی مورد واحد أو حالة واحدة لا یجعلهما مترادفین ، ولا یرفع احتیاج الاستعمال إلی العنایة .
وإن شئت فاعتبر الحدوث والبقاء ؛ فإنّ الأوّل عبارة عن وجود الشیء بعد عدمه وجوداً أوّلیاً ، والثانی عبارة عن استمرار هذا الوجود ، وتواردهما علی المورد لا یجعل الحدوث بقاءً ولا بالعکس .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 36
منها : أنّ ما اختاره فی المقام ینافی مع ما أفاده فی الأمر الخامس فی بیان عموم النتیجة ؛ حیث قال : إنّ شأن الرفع تنزیل الموجود منزلة المعدوم ، وأنّ الرفع یتوجّه علی الموجود ، فیجعله معدوماً .
وینافی أیضاً مـع ما أفاده فـی التنبیه الأوّل مـن تنبیهات الاشتغال ؛ حیث قال : إنّ الدفع إنّما یمنع عن تقرّر الشیء خارجاً وتأثیر المقتضی فی الوجود ، فهو یساوق المانـع ، وأمّـا الرفـع فهو یمنع عـن بقاء الوجـود ویقتضی إعـدام الشیء الموجـود عـن وعائـه .
نعم ، قـد یستعمل الرفـع فی مکـان الـدفع وبالعکس ، إلاّ أنّ ذلک بضرب مـن العنایة والتجوّز . والذی یقتضیه الحقیقـة هـو استعمال الـدفع فی مقـام المنع عـن تأثیـر المقتضی فـی الـوجـود ، واستعمال الرفـع فـی مقام المنع عـن بقـاء الشـیء الموجود ، انتهی .
وبقی فی کلامه أنظاراً ترکناها مخافة التطویل .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 37