المقصد السابع فی الاُصول العملیة

الأمر الثانی‏: معنی الرفع فی الحدیث

الأمر الثانی : معنی الرفع فی الحدیث

‏ ‏

‏هل الرفع فی الحدیث بمعناه الحقیقی ، أو هو بمعنی الدفع ، استعمل فی المقام‏‎ ‎‏مجازاً ؟‏

‏التحقیق هو الأوّل ؛ سواء قلنا إنّ المرفوع هو نفس الموضوعات ادّعاءً ـ کما‏‎ ‎‏هو المختار ـ أو المرفوع آثارها وأحکامها بالتزام تقدیر فی الکلام .‏

أمّا علی الأوّل فبیانه :‏ أنّ معنی الرفع الحقیقی هو إزالة الشیء بعد وجوده‏‎ ‎‏وتحقّقه ، وقد اُسند إلی نفس هذه العناوین التسعة المتحقّقة فی الخارج ، فلابدّ أن‏‎ ‎‏یحمل الرفع إلی الرفع الادّعائی ، وهو یحتاج إلی وجود المصحّح لهذا الادّعاء .‏

‏ثمّ المصحّح کما یمکن أن یکون رفع الآثار یمکن أن یکون دفع المقتضیات‏‎ ‎‏عن التأثیر ؛ لأنّ رفع الموضوع تکویناً کما یوجب رفع الآثار المترتّبة علیه‏‎ ‎‏والمتحقّقة فیه ، کذلک یوجب عدم ترتّب الآثار علیه بعد رفعه وإعدامه ، وهذا‏‎ ‎‏مصحّح الدعوی ؛ لاسیّما مع وجود المقتضی .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 33
‏فیجوز نسبة الرفع إلی الموضوع ادّعاءً بواسطة رفع آثاره أو دفعها أو دفع‏‎ ‎‏المقتضی عن التأثیر ، وذلک لا یوجب أن یکون الرفع المنسوب إلی الموضوع بمعنی‏‎ ‎‏الدفع ، بل لو بدّل الرفع بالدفع لیخرج الکلام عمّا له من البلاغة إلی الابتذال .‏

وأمّا علی الثانی‏ ـ أعنی کون المرفوع هو الآثار بالتزام تقدیر ـ فتوضیحه : أنّ‏‎ ‎‏إطلاق الرفع إنّما هو لأجل شمول إطلاقات الأدلّة أو عمومها لحالات الاضطرار‏‎ ‎‏والإکراه والنسیان والخطأ وعدم الطاقة ، فعمومات الکتاب ـ مثل : ‏‏«‏وَالسّارِقُ‎ ‎وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما‏»‏‎[1]‎‏ وأضرابه ـ والسنّة شاملة حسب الإرادة الاستعمالیة‏‎ ‎‏هذه الحالات .‏

‏وإطلاق الرفع إنّما هو حسب تلک الإرادة ؛ وإن کان حسب الإرادة الجدّیة‏‎ ‎‏دفعاً ؛ لعدم شمولها لهذه الحالات من أوّل الأمر ، لکنّ المصحّح لاستعمال الرفع هو‏‎ ‎‏الإرادة الاستعمالیة التی مآله إلی ضرب القانون عموماً علی موضوعات الأحکام ،‏‎ ‎‏بلا تقیید وتخصیص . فیستقرّ فی ذهن المخاطب بدواً ثبوت الحکم للمضطرّ‏‎ ‎‏والناسی وأشباههما .‏

‏ثمّ إنّ المتکلّم یخبر برفع الآثار والأحکام عن الموضوعات المضطرّ إلیها‏‎ ‎‏والمستکره بها ، وإطلاق الرفع لأجل شمول العامّ القانونی لها ، واستقراره فی أذهان‏‎ ‎‏المخاطبین .‏

‏وهذا کلّه بناءً علی جواز خطاب الناسی واضح ، وأمّا بناءً علی عدم جواز‏‎ ‎‏خطابه یکون الرفع فی الأحکام التکلیفیة فی حقّه فی غیر مورده .‏

‏وأمّا الطیرة والوسوسة : فالمصحّح لاستعمال الرفع کونهما محکومین‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 34
‏بالأحکام فی الشرائع السابقة ، ولم یکن الشرائع السماویة محدودة ظاهراً ، بل‏‎ ‎‏أحکامها حسب الإرادة الاستعمالیة کانت ظاهرة فی الدوام والبقاء ؛ ولهذا یقال : إنّها‏‎ ‎‏منسوخة .‏

‏وإن شئت قلت : کان هناک إطلاق أو عموم یوهم بقاء الحکم فی عامّة‏‎ ‎‏الأزمنة ، فإطلاق الرفع لأجل رفع تلک الأحکام الظاهرة فی البقاء والدوام ، ویشهد‏‎ ‎‏علی ذلک قوله ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ : ‏«عن اُمّتی»‏ ؛ وإن کان کلّ ذلک دفعاً حسب اللبّ والجدّ ، إلاّ‏‎ ‎‏أنّ مناط حسن الاستعمال هو الاستعمالیة من الإرادتین لا الجدّیة ، بل لو کان‏‎ ‎‏المیزان للرفع هو إطلاق الأحکام فی الشرائع السماویة یمکن أن یکون وجه‏‎ ‎‏استعمال الرفع فی عامّة الموضوعات التسعة لأجل ثبوت الحکم فیها فی الشرائع‏‎ ‎‏السابقة علی نحو الدوام والاستمرار .‏

‏وأمّا ‏«ما لا یعلمون»‏ : فالرفع فیه لأجل إطلاق الأدلّة وظهورها فی شمول‏‎ ‎‏الحکم للعالم والجاهل بلا فرق ، کما هو المختار فی الباب . نعم لو لم نقل بإطلاق‏‎ ‎‏الأدلّة فلا شکّ فی قیام الإجماع علی الاشتراک فی التکالیف .‏

‏فالرفع لأجل ثبوت الحکم حسب الإرادة الاستعمالیة لکلّ عالم وجاهل ؛‏‎ ‎‏وإن کان الجاهل خارجاً حسب الإرادة الجدّیة ، غیر أنّ المناط فی حسن الاستعمال‏‎ ‎‏هو الاستعمالی من الإرادة .‏

فتلخّص :‏ کون الرفع بمعناها ؛ سواء کان الرفع بلحاظ رفع التسعة بما هی‏‎ ‎‏هی ، أو کان رفع تلک الاُمور حسب الآثار الشرعیة .‏

ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر أفاد :‏ أنّ الرفع بمعنی الدفع ؛ حیث قال : إنّ استعمال‏‎ ‎‏الرفع مکان الدفع لیس مجازاً ، ولا یحتاج إلی عنایة أصلاً ؛ فإنّ الرفع فی الحقیقة‏‎ ‎‏یمنع ویدفع المقتضی عن التأثیر فی الزمان اللاحق ؛ لأنّ بقاء الشیء کحدوثه یحتاج‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 35
‏إلی علّة البقاء . فالرفع فی مرتبة وروده علی الشیء إنّما یکون دفعاً حقیقة ، باعتبار‏‎ ‎‏علّة البقاء ؛ وإن کان رفعاً باعتبار الوجود السابق .‏

‏فاستعمال الرفع فی مقام الدفع لا یحتاج إلی علاقة المجاز ، بل لا یحتاج إلی‏‎ ‎‏عنایة أصلاً ، بل لا یکون خلاف ما یقتضیه ظاهر اللفظ ؛ لأنّ غلبة استعمال الرفع‏‎ ‎‏فیما یکون له وجود سابق لا یقتضی ظهوره فی ذلک‏‎[2]‎‏ ، انتهی .‏

وفی کلامه مواقع للنظر :

‏منها :‏‏ أنّ اللغة والارتکاز قد تطابقا علی أنّ معنی الرفع هو إزالة الشیء عن‏‎ ‎‏صفة الوجود بعد تحقّقه وتحصّله ، فعلی هذا فلو استعمل بمعنی الدفع فلا مناص عن‏‎ ‎‏العنایة وما به یتناسب الاستعمال ، وإنکار احتیاجه إلی العنایة مکابرة ظاهرة .‏

منها :‏ أنّ ما أفاده ‏‏قدس سره‏‏ ؛ من أنّ بقاء الشیء یحتاج إلی العلّة کحدوثه صحیح لا‏‎ ‎‏ریب فیه إلاّ أنّ ما أفاده من أنّ الرفع عبارة عن دفع المقتضی عن التأثیر فی الزمان‏‎ ‎‏اللاحق غیر صحیح ؛ فإنّ دفع المقتضی عن التأثیر فی الزمان اللاحق لا یطلق علیه‏‎ ‎‏الرفع ، بل یطلق علیه الدفع ، وإنّما یستعمل الرفع فی هذه الحالة لا بهذه الحیثیة ، بل‏‎ ‎‏باعتبار إزالة الشیء عن صفحة الوجود بعد تحقّقه .‏

‏ومجرّد تواردهما أحیاناً علی مورد واحد أو حالة واحدة لا یجعلهما‏‎ ‎‏مترادفین ، ولا یرفع احتیاج الاستعمال إلی العنایة .‏

‏وإن شئت فاعتبر الحدوث والبقاء ؛ فإنّ الأوّل عبارة عن وجود الشیء بعد‏‎ ‎‏عدمه وجوداً أوّلیاً ، والثانی عبارة عن استمرار هذا الوجود ، وتواردهما علی المورد‏‎ ‎‏لا یجعل الحدوث بقاءً ولا بالعکس .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 36
منها :‏ أنّ ما اختاره فی المقام ینافی مع ما أفاده فی الأمر الخامس فی بیان‏‎ ‎‏عموم النتیجة ؛ حیث قال : إنّ شأن الرفع تنزیل الموجود منزلة المعدوم ، وأنّ الرفع‏‎ ‎‏یتوجّه علی الموجود ، فیجعله معدوماً‏‎[3]‎‏ .‏

‏وینافی أیضاً مـع ما أفاده فـی التنبیه الأوّل مـن تنبیهات الاشتغال ؛ حیث‏‎ ‎‏قال : إنّ الدفع إنّما یمنع عن تقرّر الشیء خارجاً وتأثیر المقتضی فی الوجود ، فهو‏‎ ‎‏یساوق المانـع ، وأمّـا الرفـع فهو یمنع عـن بقاء الوجـود ویقتضی إعـدام الشیء‏‎ ‎‏الموجـود عـن وعائـه .‏

‏نعم ، قـد یستعمل الرفـع فی مکـان الـدفع وبالعکس ، إلاّ أنّ ذلک بضرب‏‎ ‎‏مـن العنایة والتجوّز . والذی یقتضیه الحقیقـة هـو استعمال الـدفع فی مقـام المنع‏‎ ‎‏عـن تأثیـر المقتضی فـی الـوجـود ، واستعمال الرفـع فـی مقام المنع عـن بقـاء‏‎ ‎‏الشـیء الموجود‏‎[4]‎‏ ، انتهی .‏

‏وبقی فی کلامه أنظاراً ترکناها مخافة التطویل .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 37

  • )) المائدة (5) : 38 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 337 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 353 .
  • )) نفس المصدر 4 : 222 .