المقصد السابع فی الاُصول العملیة

الاستدلال بالآیات

الاستدلال بالآیات

‏ ‏

فمنها : قوله تعالی : ‏«‏وَما کُنّا مُعَذِّبِینَ حَتّی نَبْعَثَ رَسُولاً‏»‏‎[1]‎‏ .‏

‏وجه الاستدلال علی وجه یندفع ما اُشکل علیه من الإیراد أن یقال : إنّ‏‎ ‎‏المتفاهم عرفاً من الآیة ـ لأجل تعلیق العذاب علی بعث الرسول الذی هو مبلّغ‏‎ ‎‏لأحکامه تعالی ، وبمناسبة الحکم والموضوع ـ هو أنّ بعث الرسول لیس له‏‎ ‎‏موضوعیة فی إنزال العقاب ، بل هو طریق لإیصال التکالیف إلی العباد ، وإتمام‏‎ ‎‏الحجّة به علیهم .‏

‏ولیس المراد من بعث الرسول هو بعث نفس الرسول ؛ وإن لم یبلّغ أحکامه ،‏‎ ‎‏فلو فرض أنّه تعالی بعث رسولاً لکن لم یبلّغ الأحکام فی شطر من الزمان‏‎ ‎‏ـ لمصلحة أو جهة اُخری ـ لا یصحّ أن یقال : إنّه تعالی یعذّبهم ؛ لأنّه بعث الرسول .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 15
‏وکذا لو بلّغ بعض الأحکام دون البعض یکون التعذیب بالنسبة إلی ما لم یبلّغ‏‎ ‎‏مخالفاً للوعد فی الآیة . وکذا لو بلّغ إلی بعض الناس دون بعض لا یصحّ أن یقال : إنّه‏‎ ‎‏یعذّب الجمیع ؛ لأنّه بعث الرسول . وکذا لو بلّغ جمیع الأحکام فی عصره ثمّ انقطع‏‎ ‎‏الوصول إلی الأعصار المتأخّرة .‏

‏وهذا أو أشباهه یدلّ علی أنّ الغایة لاستحقاق العذاب هو التبلیغ الواصل ،‏‎ ‎‏وأنّ ذکر بعث الرسول مع انتخاب هذه الکلمة کنایة عن إیصال الأحکام وإتمام‏‎ ‎‏الحجّة ، وأنّ التبلیغ غیر الواصل فی حکم العدم ، وأنّه لا یصحّح العذاب ، کما أنّ‏‎ ‎‏وجود الرسول بین الاُمّة بلا تبلیغ کذلک .‏

وعلی ذلک :‏ فلو بحث المکلّف عن تکلیفه ووظیفته بحثاً أکیداً ، فلم یصل إلی‏‎ ‎‏ما هو حجّة علیه ـ من علم تفصیلی أو إجمالی وغیرهما من الحجج ـ فلا شکّ أنّه‏‎ ‎‏یکون مشمولاً لقوله عزّوجلّ : ‏‏«‏وَما کُنّا مُعَذِّبِینَ حَتّی نَبْعَثَ رَسُولاً‏»‏‏ ؛ لما عرفت‏‎ ‎‏من أنّ الغایة للوعید بحسب اللبّ هو إیصال الأحکام إلی العباد ، وأنّ بعث الرسل‏‎ ‎‏لیس له موضوعیة فیما رتّب علیه .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ قوله تعالی : ‏‏«‏وَما کُنّا مُعَذِّبِینَ‏»‏‏ تنزیه للحقّ تعالی شأنه ،‏‎ ‎‏وهو یرید بهذا البیان أنّ التعذیب قبل البیان منافٍ لمقامه الربوبی ، وأنّ شأنه تعالی‏‎ ‎‏أجلّ من أن یرتکب هذا الأمر ؛ فلذلک عبّر بقوله : ‏‏«‏وَما کُنّا مُعَذِّبِینَ‏»‏‏ ، دون أن‏‎ ‎‏یقول : «وما عذّبنا» ، أو «ما أنزلنا العذاب» ، وذلک للإشارة إلی أنّ هذا الأمر منافٍ‏‎ ‎‏لمقامه الأرفع وشأنه الأجلّ .‏

‏وبعبارة أوضح : أنّ الآیة مسوقة : إمّا لإفادة أنّ التعذیب قبل البیان منافٍ‏‎ ‎‏لعدله وقسطه ، أو منافٍ لرحمته وعطوفته ولطفه علی العباد .‏

‏فلو أفاد الأوّل لَدلّ علی نفی الاستحقاق وأنّ تعذیب العبد حین ذاک أمـر‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 16
‏قبیح مستنکر یستحیل صدوره منه ، ولو أفاد الثانی لدلّ علی نفی الفعلیة ، وأنّ‏‎ ‎‏العذاب مرتفع ؛ وإن لم یدلّ علی نفی الاستحقاق . وسیأتی عدم الفرق بین المفادین‏‎ ‎‏فیما هو المهمّ .‏

وقد اُورد علی الاستدلال بالآیة اُمور :

‏منها :‏‏ ما عن بعض أعاظم العصر من أنّ مفاد الآیة أجنبی عن البراءة ؛ فإنّ‏‎ ‎‏مفادها الإخبار بنفی التعذیب قبل إتمام الحجّة ، فلا دلالة لها علی حکم مشتبه‏‎ ‎‏الحکم من حیث إنّه مشتبه‏‎[2]‎‏ .‏

وفیه :‏ ما عرفت فی تقریر الاستدلال من أنّ بعث الرسل کنایة عن إیصال‏‎ ‎‏الأحکام ، فالمشتبه الحکم داخل فی مفاد الآیة ؛ إمّا لما ذکرناه من أنّ بعث الرسل‏‎ ‎‏لأجل کونها واسطة فی التبلیغ ، أو بإلغاء الخصوصیة وإلحاق مشتبه الحکم بالموارد‏‎ ‎‏التی لم یبلّغها الرسل .‏

منها :‏ أنّ الآیة راجعة إلی نفی التعذیب عن الاُمم السالفة قبل بعث الرسل ،‏‎ ‎‏فلا مساس له بالمقام‏‎[3]‎‏ .‏

وفیه أوّلاً :‏ أنّ التأمّل فی الآیات المتقدّمة علیها یعطی خلاف ذلک ، فإلیک‏‎ ‎‏بمراجعة ما تقدّمها من الآیات تجد صحّة ما ادّعیناه .‏

وثانیاً :‏ لو فرض أنّ مـوردها ما ذکـر ، غیر أنّ التعبیر بقولـه تعالی : ‏‏«‏وَما‎ ‎کُنّا مُعَذِّبِینَ‏»‏‏ حاکٍ عن کونه سنّة جاریـة لله عزّ شأنـه ، مـن دون فـرق بین‏‎ ‎‏السالفـة والقادمـة ، وأنّ تلک الطریقة ساریـة فی عامّـة الأزمان ، مـن غیر فرق بین‏‎ ‎‏السلف والخلف .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 17
‏ولو لم نقل : إنّ ذلک مفاد الآیة حسب المنطوق فلا أقلّ یفهم العرف من الآیة‏‎ ‎‏ـ ولو بإلغاء الخصوصیة ومناسبة الحکم والموضوع ـ أنّ التعذیب قبل البیان لم یقع‏‎ ‎‏ولن یقع أبداً .‏

منها :‏ أنّ الاستدلال بها لما نحن فیه متقوّم بکونها فی مقام نفی الاستحقاق لا‏‎ ‎‏نفی الفعلیة ؛ لأنّ النزاع فی البراءة إنّما هو فی استحقاق العقاب علی ارتکاب‏‎ ‎‏المشتبه وعدمه ، لا فی فعلیة العقاب‏‎[4]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّ ذلک أوّل الکلام ؛ إذ النزاع بین الاُصولی والأخباری إنّما هو فی‏‎ ‎‏ثبوت المؤمّن وعدمه فی ارتکاب الشبهات ، وأنّه هل یلزم الاحتیاط أو لا ؟ وهذا‏‎ ‎‏هو مصبّ النزاع بین الطائفتین ، وأمّا البحث عن الاستحقاق وعدمه فهو خارج عمّا‏‎ ‎‏یهمّ علی کلا الفریقین .‏

‏وبالجملة : أنّ المرمی للقائل بالبراءة هو تجویز شرب التتن المشتبه الحکم‏‎ ‎‏لأجل وجود مؤمّن شرعی أو عقلی حتّی یطمئنّ أنّه لیس فی ارتکابه محذور ؛‏‎ ‎‏سواء کان ذلک لأجل رفع العقوبة الفعلیة أو نفی الاستحقاق .‏

‏والشاهد علی ما ذکرنا : أنّک تری القوم یستدلّون علی البراءة بحدیث الرفع‏‎ ‎‏الظاهر عندهم فی رفع المؤاخذة ، لا نفی الاستحقاق .‏

وبما ذکرنا یظهر :‏ أنّ الآیة أسدّ الأدلّة التی استدلّ بها للبراءة ، وأنّ ما اُورد‏‎ ‎‏علیه من الإیرادات غیر خالٍ عن الضعف .‏

‏نعم ، لا یستفاد من الآیة أکثر ممّا یستفاد من حکم العقل الحاکم علی قبح‏‎ ‎‏العقاب بلا بیان ؛ فلو دلّ الدلیل علی لزوم الاحتیاط أو التوقّف لصار ذلک نفسه‏‎ ‎‏بیاناً ، فیکون ذاک الدلیل وارداً علی العقل وما تضمّنته الآیة .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 18
ومنها : قوله تعالی :

‏«‏لِیُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَیْهِ رِزْقُهُ فَلْیُنْفِقْ مِمّا آتاهُ الله ُ لا یُکَلِّفُ‎ ‎الله ُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها سَیَجْعَلُ الله ُ بَعْدَ عُسْرٍ یُسْراً‏»‏‎[5]‎‏ .‏

‏بیان الاستدلال : أنّ المراد من الموصول التکلیف ، ومن «الإیتاء» الإیصال‏‎ ‎‏والإعلام ، ومعناها : أنّ الله لا یکلّف نفساً إلاّ تکلیفاً أوصلها وبلّغها .‏

‏ویمکن بیانه بوجه آخر حتّی ینطبق علی ما سبقها من الآیات بأن یقال : إنّ‏‎ ‎‏المراد من الموصول هو الأعمّ من الأمر الخارجی ونفس التکلیف ، وأنّ المراد من‏‎ ‎‏«الإیتاء» الأعمّ من نفس الإقدار والإیصال ، ویصیر مفادها : أنّ الله لا یکلّف نفساً‏‎ ‎‏تکلیفاً ولا یکلّفه بشیء ـ کالإنفاق ـ إلاّ بعد الإیصال والإقدار .‏

وفی کلا التقریرین نظر ، بل منع :

‏أمّا الأوّل :‏‏ فلأنّ إرادة خصوص التکلیف منه مخالف لمورد الآیة وما قبلها‏‎ ‎‏وما بعدها .‏

‏نعم ، الظاهر أنّ قوله : ‏‏«‏لا یُکَلِّفُ الله ُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها‏»‏‏ هو الکبری الکلّیة ،‏‎ ‎‏وبمنزلة الدلیل علی ما قبلها ، کما یظهر من استشهاد الإمام ‏‏علیه السلام‏‏ بها فی روایة‏‎ ‎‏عبد الأعلی ؛ حیث سأل أبا عبدالله  ‏‏علیه السلام‏‏ : هل کلّف الناس بالمعرفة ؟‏

قال : «لا ، علی الله البیان ، ‏«‏لا یُکَلِّفُ الله ُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها‏»‏ ، و‏«‏لا یُکَلِّفُ الله ُ‎ ‎نَفْساً إِلاّ ما آتاها‏»‏‏»‏‎[6]‎‏ .‏

‏ولعلّ المراد بالمعرفة هی المعرفة الکاملة التی لا یمکن إلاّ بإقداره تعالی‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 19
‏وتأییده ، لا مطلق العلم بوجود صانع للعالم ، الذی هو فطری .‏

‏ثمّ إنّ التعبیر بالإیتاء الذی بمعنی الإعطاء لا یبعد أن یکون مشاکلة لقوله :‏‎ ‎‏«‏فَلْیُنْفِقْ مِمّا آتاهُ الله ُ‏»‏‏ .‏

وأمّا ثانی التقریرین :‏ فالمنع فیه أوضح ؛ لأنّ إرادة الأعمّ من الموصول مع‏‎ ‎‏إسناد فعل واحد إلیه غیر ممکن فی المقام ؛ إذ لو اُرید من الموصول نفس التکلیف‏‎ ‎‏ینزّل منزلة المفعول المطلق .‏

‏ولو اُرید مع ذلک الأمر الخارجی الذی یقع علیه التکلیف یصیر مفعولاً به‏‎ ‎‏وتعلّق الفعل بالمفعول المطلق ـ سواء کان نوعیاً أم غیره ـ یباین نحـو تعلّقـه‏‎ ‎‏بالمفعول به ؛ لعدم الجامع بین التکلیف والمکلّف به بنحو یتعلّق التکلیف بهما علی‏‎ ‎‏وزان واحد .‏

‏وإن شئت قلت : المفعول المطلق هو المصدر أو ما فی معناه المأخوذ من‏‎ ‎‏نفس الفعل ، والمفعول به ما یقع علیه الفعل المباین معه ، ولا جامع بین الأمرین‏‎ ‎‏حتّی یصحّ الإسناد .‏

ثمّ إنّ بعض محقّقی العصر ‏قدس سره‏‏ وجّه إرادة الأعمّ من الموصول والإیتاء ، ما هذا‏‎ ‎‏خلاصته : إنّ الإشکال إنّما یرد فی فرض إرادة الخصوصیات المزبورة من شخص‏‎ ‎‏الموصول ، وإلاّ فبناءً علی استعمال الموصول فی معناه الکلّی العامّ وإرادة‏‎ ‎‏الخصوصیات المزبورة من دوالّ اُخر خارجیة فلا یتوجّه محذور ؛ لا من طرف‏‎ ‎‏الموصول ، ولا فی لفظ الإیتاء ، ولا من جهة تعلّق الفعل بالموصول :‏

‏أمّا من جهة الموصول فلأجل استعماله فی معناه الکلّی ، وأنّ إفادة‏‎ ‎‏الخصوصیات من دوالّ اُخر .‏

‏وأمّـا الإیتاء فهو مستعمل فی معنی الإعطاء ، غیر أنّـه یختلف مصادیقـه ؛‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 20
‏مـن کونه تارة هو الإعلام عند إضافتـه إلی الحکم ، واُخـری الملکیة عند إضافته‏‎ ‎‏إلی المال .‏

‏وأمّا تعلّق الفعل بالموصول ؛ حیث لا یکون له إلاّ نحو تعلّق واحد به ،‏‎ ‎‏ومجرّد تعدّده بالتحلیل لا یقتضی تعدّده بالنسبة إلی الجامع الذی هو مفاد‏‎ ‎‏الموصول ، غایة الأمر یحتاج إلی تعدّد الدالّ والمدلول‏‎[7]‎‏ ، انتهی .‏

قلت :‏ إنّ کون الشیء مفعولاً مطلقاً لیس معناه إلاّ کونه ملحوظاً عند إضافة‏‎ ‎‏الفعل إلیه بأنّه من شؤون الفعل وکیفیاته علی نحو یکون وجوده بعین وجود الفعل ،‏‎ ‎‏کما أنّ المفعول به یلاحظ عند إضافة الفعل إلیه بأنّه أمر موجود فی الخارج وقع‏‎ ‎‏الفعل علیه ، ومع ذلک فکیف یمکن إرادتهما باستعمال واحد ؟‏

‏وبعبارة اُخری : أنّ نحو تعلّق الفعل بهما مباین لا جامع بینهما . وتعدّد الدالّ‏‎ ‎‏والمدلول أو إقامة القرینة علی الخصوصیات فإنّما یصحّ إذا کان فی المقام جامع‏‎ ‎‏واقعی حتّی یکون الخصوصیات من مصادیقه ، وأمّا مع عدمه وعدم إمکان إرادتهما‏‎ ‎‏منها فلا معنی لإقامة القرینة ، کما لا یخفی .‏

‏نعم ، لو صحّ ما ذکـره أخیراً ـ مـن إمکان کون المراد مـن التکلیف فی الآیة‏‎ ‎‏هـو الکلفة والمشقّة ، لا الحکم الشرعی‏‎[8]‎‏ ـ لرجع النسبتان إلی نسبة واحدة ؛‏‎ ‎‏إذ یجعل الموصـول ـ حینئذٍ ـ عبارة عـن المفعول به أو المفعول النشوی المعبّر عنه‏‎ ‎‏فی کلام بعضهم بالمفعول منه . فیصیر مفاد الآیة : أنّه سبحانه لا یوقع عباده فی‏‎ ‎‏کلفـة حکـم إلاّ الحکم الذی أوصلـه إلیهم ، وارتفع الإشکال ، لکنّـه غیر مفید‏‎ ‎‏للمقام ، کما یأتی الکلام فیه .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 21
ثمّ إنّه ‏قدس سره‏‏ بعدما استوجه وجود الجامع استشکل فی التمسّک بالإطلاق : تارة‏‎ ‎‏بوجود القدر المتیقّن ؛ حیث إنّ القدر المتیقّن ـ حسب سیاق الآیات ـ هو المال ،‏‎ ‎‏واُخری بأنّ المستفاد منها عدم الکلفة من قبل التکالیف المجهولة غیر الواصلة إلی‏‎ ‎‏المکلّف ، لا نفی الکلفة مطلقاً ؛ ولو من قِبل إیجاب الاحتیاط ، فیکون مفادها‏‎ ‎‏مساوقاً لحکم العقل ، فلو ثبت ما یدّعیه الأخباری لصار وارداً علیه‏‎[9]‎‏ ، انتهی .‏

وأنت خبیر بما فیه ؛‏ إذ وجود القدر المتیقّن غیر مضرٍّ فی التمسّک بالإطلاق ،‏‎ ‎‏کما أوضحناه فی مبحث المطلق والمقیّد‏‎[10]‎‏ .‏

‏کما أنّ جعل الاحتیاط لأجل التحفّظ علی التکالیف الواقعیة لا یناسب مع‏‎ ‎‏سوق الآیة ؛ لأنّ مساقها مساق المنّة والامتنان ، والإخبار عن لطفه وعنایته ؛ بأنّه لا‏‎ ‎‏یجعل العباد فی الکلفة والمشقّة من جهة التکلیف إلاّ مع إیصالها .‏

‏ومن المعلوم : أنّ جعل الاحتیاط تضییق علی المکلّف بلا إیصال ؛ لأنّ‏‎ ‎‏المرمی من الاحتیاط هو التحفّظ علی الواقع ، لا کونه طریقاً موصلاً إلی الواقع ،‏‎ ‎‏فإیجاب التحفّظ فی الشبهات البدویة کلفة بلا إیصال ولا إعلام .‏

ثمّ إنّه ‏قدس سره‏‏ استشکل ثالثاً فـی التمسّک بالإطلاق ما حاصلـه : إنّ مساقها‏‎ ‎‏مساق قوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«إنّ الله سکت عن أشیاء لم یسکت عنها نسیاناً»‎[11]‎‏ فیکون‏‎ ‎‏دلالتها ممحّضة فی نفی الکلفة عمّا لم یوصل علمه إلی العباد ؛ لمکان سکوته‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 22
‏وعـدم بیانـه وإظهاره ، لا نفی الکلفـة مطلقاً عمّـا لم یصل علمـه إلی العباد ؛‏‎ ‎‏لإخفاء الظالمین‏‎[12]‎‏ ، انتهی .‏

وفیه :‏ أنّ ذلک بعید عن مفاد الآیة جدّاً ؛ إذ حینئذٍ یصیر من قبیل توضیح‏‎ ‎‏الواضح ؛ إذ مآلها حسب قول القائل إلی أنّ الله لا یکلّف نفساً بما هو ساکت عنه ،‏‎ ‎‏وهو کما تری .‏

‏نعم ، یمکن منع التمسّک بالإطلاق بطریق آخر ، بیانه : أنّ معنی الإطلاق‏‎ ‎‏ـ کما مرّ‏‎[13]‎‏ ـ هو کون الطبیعة تمام الموضوع للحکم ، فلو احتملنا دخالة شیء‏‎ ‎‏غیر مذکور فی الحکم فنحکم به علی عدم جزئیته وشرطیته .‏

‏ولکن الاحتجاج به بعد انعقاد الظهور لما وقع تحت دائرة الحکم حتّی یحتجّ‏‎ ‎‏بعدم تعرّضه علی قید آخر علی عدم دخالته ، وهذا الشرط منتفٍ فی المقام ؛ إذ لم‏‎ ‎‏یثبت أنّ المتکلّم أراد المعنی الجامع الانتزاعی الذی یحتاج فی تصوّر إرادته إلی‏‎ ‎‏تکلّف ، أو أراد إحدی المعانی الاُخر ، ومع ذلک التردّد لا مجال للإطلاق ؛ إذ غایة ما‏‎ ‎‏ذکرنا من المعانی والوجوه احتمالات وإمکانات ، وهو لا ینفع من دون الظهور .‏

‏علی أنّ الظاهر حسب السیاق هو المعنی الأوّل ؛ أعنی جعل المراد من‏‎ ‎‏الموصول الأمر الخارجی ، ومن «الإیتاء» هو الإقدار والإعطاء ، فلاحظ .‏

وممّا ذکرناه :‏ یظهر النظر فیما أفاده بعض أعاظم العصر فی المقام بما هذا‏‎ ‎‏حاصله : إنّ المراد من الموصول خصوص المفعول به ، ومع ذلک یکون شاملاً‏‎ ‎‏للتکلیف وموضوعه ؛ لأنّ إیتاء کلّ شیء بحسبه .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 23
‏أضف إلی ذلک : أنّ المفعول المطلق النوعی والعددی یصحّ جعله مفعولاً به‏‎ ‎‏بنحو من العنایة ، کما أنّ الوجوب والتحریم یصحّ تعلّق التکلیف بهما باعتبار ما لهما‏‎ ‎‏من المعنی الاسم المصدری‏‎[14]‎‏ ، انتهی .‏

وفیه‏ ـ مضافاً إلی عدم إمکان شمول الموصول لهما بما مرّ‏‎[15]‎‏ ـ أوّلاً : أنّ‏‎ ‎‏قوله ‏‏قدس سره‏‏إنّ المفعول المطلق یصحّ جعله مفعولاً به بنحو من العنایة لا محصّل له ،‏‎ ‎‏کقوله : إنّ الوجوب والتحریم یصحّ تعلّق التکلیف بهما ؛ إذ کیف یتصوّر تعلّق البعث‏‎ ‎‏بهما علی نحو المفعول به ؛ ولو اعتبرا بنحو الاسم المصدری ؟‏

‏وثانیاً : أنّ لازم ما أفاد هو الجمع بین الاعتبارین المتنافیین ؛ فإنّ المفعول به‏‎ ‎‏مقدّم فی الاعتبار علی المصدر ؛ لأنّه إضافة قائمة به فی الاعتبار ، وأمّا المفعول‏‎ ‎‏المطلق فهو عبارة عن حاصل المصدر ، وهو متأخّر رتبةً عن المصدر ، فکیف یجمع‏‎ ‎‏بینهما فی الاعتبار ؟ فیلزم ممّا ذکره اعتبار المتأخّر فی الاعتبار متقدّماً فی الاعتبار‏‎ ‎‏فی حال کونه متأخّراً .‏

ثمّ إنّه استشکل علی دلالة الآیة :‏ بأنّ أقصی ما تدلّ علیه الآیة هو أنّ‏‎ ‎‏المؤاخذة لا تحسن إلاّ بعد بعث الرسل وتبلیغ الأحکام ، وهذا لا ربط له بما نحن‏‎ ‎‏فیه من الشکّ فی التکلیف بعد البعث والإنزال وعروض اختفاء التکلیف بما لا یرجع‏‎ ‎‏إلی الشارع .‏

‏فالآیة لا تدلّ علی البراءة ، بل مفادها مفاد قوله تعالی : ‏‏«‏وَما کُنّا مُعَذِّبِینَ‎ ‎حَتّی نَبْعَثَ رَسُولاً‏»‏‎[16]‎‏ ، انتهی .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 24
وفیه :‏ ما عرفت‏‎[17]‎‏ فی توضیح دلالة الآیة المتقدّمة ؛ بأنّ المیزان هو الإبلاغ‏‎ ‎‏والإیصال فی استحقاق العقاب ، لا الإبلاغ ولو مع عدم الوصول .‏

‏علی أنّ دلالة تلک ـ بعد الغضّ عمّا ذکرنا من الإشکال‏‎[18]‎‏ ـ أوضح من‏‎ ‎‏المتقدّمة ؛ لوضوح دلالتها فی الإبلاغ والإیصال ، من دون أن نحتاج إلی إلغاء‏‎ ‎‏الخصوصیة ، کما لا یخفی .‏

‏ثمّ إنّ القوم استدلّوا ببعض الآیات ؛ وحیث إنّ فیما ذکرنا أو ما نذکره من‏‎ ‎‏السنّة والأدلّة العقلیة غنیً عن الخوض فیه طوینا البیان عنه ، ونذکر ما استدلّوا به‏‎ ‎‏من السنّة .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 25

  • )) الإسراء (17) : 15 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 333 ـ 334 .
  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25 : 23 .
  • )) الفصول الغرویة : 353 / السطر 7 ، کفایة الاُصول : 385 .
  • )) الطلاق (65) : 7 .
  • )) الکافی 1 : 163 / 5 .
  • )) نهایة الأفکار 3 : 202 ـ 203 .
  • )) نفس المصدر 3 : 203 .
  • )) نهایة الأفکار 3 : 203 ـ 204 .
  • )) تقدّم فی الجزء الثانی : 273 .
  • )) الفقیه 4 : 53 / 193 ، وسائل الشیعة 27 : 175، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 12 ، الحدیث 68 .
  • )) نهایة الأفکار 3 : 204 .
  • )) تقدّم فی الجزء الثانی : 159 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 332 ـ 333 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 20 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 333 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 15 ـ 16 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 19 .