الاستدلال بالآیات
فمنها : قوله تعالی : «وَما کُنّا مُعَذِّبِینَ حَتّی نَبْعَثَ رَسُولاً» .
وجه الاستدلال علی وجه یندفع ما اُشکل علیه من الإیراد أن یقال : إنّ المتفاهم عرفاً من الآیة ـ لأجل تعلیق العذاب علی بعث الرسول الذی هو مبلّغ لأحکامه تعالی ، وبمناسبة الحکم والموضوع ـ هو أنّ بعث الرسول لیس له موضوعیة فی إنزال العقاب ، بل هو طریق لإیصال التکالیف إلی العباد ، وإتمام الحجّة به علیهم .
ولیس المراد من بعث الرسول هو بعث نفس الرسول ؛ وإن لم یبلّغ أحکامه ، فلو فرض أنّه تعالی بعث رسولاً لکن لم یبلّغ الأحکام فی شطر من الزمان ـ لمصلحة أو جهة اُخری ـ لا یصحّ أن یقال : إنّه تعالی یعذّبهم ؛ لأنّه بعث الرسول .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 15
وکذا لو بلّغ بعض الأحکام دون البعض یکون التعذیب بالنسبة إلی ما لم یبلّغ مخالفاً للوعد فی الآیة . وکذا لو بلّغ إلی بعض الناس دون بعض لا یصحّ أن یقال : إنّه یعذّب الجمیع ؛ لأنّه بعث الرسول . وکذا لو بلّغ جمیع الأحکام فی عصره ثمّ انقطع الوصول إلی الأعصار المتأخّرة .
وهذا أو أشباهه یدلّ علی أنّ الغایة لاستحقاق العذاب هو التبلیغ الواصل ، وأنّ ذکر بعث الرسول مع انتخاب هذه الکلمة کنایة عن إیصال الأحکام وإتمام الحجّة ، وأنّ التبلیغ غیر الواصل فی حکم العدم ، وأنّه لا یصحّح العذاب ، کما أنّ وجود الرسول بین الاُمّة بلا تبلیغ کذلک .
وعلی ذلک : فلو بحث المکلّف عن تکلیفه ووظیفته بحثاً أکیداً ، فلم یصل إلی ما هو حجّة علیه ـ من علم تفصیلی أو إجمالی وغیرهما من الحجج ـ فلا شکّ أنّه یکون مشمولاً لقوله عزّوجلّ : «وَما کُنّا مُعَذِّبِینَ حَتّی نَبْعَثَ رَسُولاً» ؛ لما عرفت من أنّ الغایة للوعید بحسب اللبّ هو إیصال الأحکام إلی العباد ، وأنّ بعث الرسل لیس له موضوعیة فیما رتّب علیه .
وإن شئت قلت : إنّ قوله تعالی : «وَما کُنّا مُعَذِّبِینَ» تنزیه للحقّ تعالی شأنه ، وهو یرید بهذا البیان أنّ التعذیب قبل البیان منافٍ لمقامه الربوبی ، وأنّ شأنه تعالی أجلّ من أن یرتکب هذا الأمر ؛ فلذلک عبّر بقوله : «وَما کُنّا مُعَذِّبِینَ» ، دون أن یقول : «وما عذّبنا» ، أو «ما أنزلنا العذاب» ، وذلک للإشارة إلی أنّ هذا الأمر منافٍ لمقامه الأرفع وشأنه الأجلّ .
وبعبارة أوضح : أنّ الآیة مسوقة : إمّا لإفادة أنّ التعذیب قبل البیان منافٍ لعدله وقسطه ، أو منافٍ لرحمته وعطوفته ولطفه علی العباد .
فلو أفاد الأوّل لَدلّ علی نفی الاستحقاق وأنّ تعذیب العبد حین ذاک أمـر
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 16
قبیح مستنکر یستحیل صدوره منه ، ولو أفاد الثانی لدلّ علی نفی الفعلیة ، وأنّ العذاب مرتفع ؛ وإن لم یدلّ علی نفی الاستحقاق . وسیأتی عدم الفرق بین المفادین فیما هو المهمّ .
وقد اُورد علی الاستدلال بالآیة اُمور :
منها : ما عن بعض أعاظم العصر من أنّ مفاد الآیة أجنبی عن البراءة ؛ فإنّ مفادها الإخبار بنفی التعذیب قبل إتمام الحجّة ، فلا دلالة لها علی حکم مشتبه الحکم من حیث إنّه مشتبه .
وفیه : ما عرفت فی تقریر الاستدلال من أنّ بعث الرسل کنایة عن إیصال الأحکام ، فالمشتبه الحکم داخل فی مفاد الآیة ؛ إمّا لما ذکرناه من أنّ بعث الرسل لأجل کونها واسطة فی التبلیغ ، أو بإلغاء الخصوصیة وإلحاق مشتبه الحکم بالموارد التی لم یبلّغها الرسل .
منها : أنّ الآیة راجعة إلی نفی التعذیب عن الاُمم السالفة قبل بعث الرسل ، فلا مساس له بالمقام .
وفیه أوّلاً : أنّ التأمّل فی الآیات المتقدّمة علیها یعطی خلاف ذلک ، فإلیک بمراجعة ما تقدّمها من الآیات تجد صحّة ما ادّعیناه .
وثانیاً : لو فرض أنّ مـوردها ما ذکـر ، غیر أنّ التعبیر بقولـه تعالی : «وَما کُنّا مُعَذِّبِینَ» حاکٍ عن کونه سنّة جاریـة لله عزّ شأنـه ، مـن دون فـرق بین السالفـة والقادمـة ، وأنّ تلک الطریقة ساریـة فی عامّـة الأزمان ، مـن غیر فرق بین السلف والخلف .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 17
ولو لم نقل : إنّ ذلک مفاد الآیة حسب المنطوق فلا أقلّ یفهم العرف من الآیة ـ ولو بإلغاء الخصوصیة ومناسبة الحکم والموضوع ـ أنّ التعذیب قبل البیان لم یقع ولن یقع أبداً .
منها : أنّ الاستدلال بها لما نحن فیه متقوّم بکونها فی مقام نفی الاستحقاق لا نفی الفعلیة ؛ لأنّ النزاع فی البراءة إنّما هو فی استحقاق العقاب علی ارتکاب المشتبه وعدمه ، لا فی فعلیة العقاب .
وفیه : أنّ ذلک أوّل الکلام ؛ إذ النزاع بین الاُصولی والأخباری إنّما هو فی ثبوت المؤمّن وعدمه فی ارتکاب الشبهات ، وأنّه هل یلزم الاحتیاط أو لا ؟ وهذا هو مصبّ النزاع بین الطائفتین ، وأمّا البحث عن الاستحقاق وعدمه فهو خارج عمّا یهمّ علی کلا الفریقین .
وبالجملة : أنّ المرمی للقائل بالبراءة هو تجویز شرب التتن المشتبه الحکم لأجل وجود مؤمّن شرعی أو عقلی حتّی یطمئنّ أنّه لیس فی ارتکابه محذور ؛ سواء کان ذلک لأجل رفع العقوبة الفعلیة أو نفی الاستحقاق .
والشاهد علی ما ذکرنا : أنّک تری القوم یستدلّون علی البراءة بحدیث الرفع الظاهر عندهم فی رفع المؤاخذة ، لا نفی الاستحقاق .
وبما ذکرنا یظهر : أنّ الآیة أسدّ الأدلّة التی استدلّ بها للبراءة ، وأنّ ما اُورد علیه من الإیرادات غیر خالٍ عن الضعف .
نعم ، لا یستفاد من الآیة أکثر ممّا یستفاد من حکم العقل الحاکم علی قبح العقاب بلا بیان ؛ فلو دلّ الدلیل علی لزوم الاحتیاط أو التوقّف لصار ذلک نفسه بیاناً ، فیکون ذاک الدلیل وارداً علی العقل وما تضمّنته الآیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 18
ومنها : قوله تعالی :
«لِیُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَیْهِ رِزْقُهُ فَلْیُنْفِقْ مِمّا آتاهُ الله ُ لا یُکَلِّفُ الله ُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها سَیَجْعَلُ الله ُ بَعْدَ عُسْرٍ یُسْراً» .
بیان الاستدلال : أنّ المراد من الموصول التکلیف ، ومن «الإیتاء» الإیصال والإعلام ، ومعناها : أنّ الله لا یکلّف نفساً إلاّ تکلیفاً أوصلها وبلّغها .
ویمکن بیانه بوجه آخر حتّی ینطبق علی ما سبقها من الآیات بأن یقال : إنّ المراد من الموصول هو الأعمّ من الأمر الخارجی ونفس التکلیف ، وأنّ المراد من «الإیتاء» الأعمّ من نفس الإقدار والإیصال ، ویصیر مفادها : أنّ الله لا یکلّف نفساً تکلیفاً ولا یکلّفه بشیء ـ کالإنفاق ـ إلاّ بعد الإیصال والإقدار .
وفی کلا التقریرین نظر ، بل منع :
أمّا الأوّل : فلأنّ إرادة خصوص التکلیف منه مخالف لمورد الآیة وما قبلها وما بعدها .
نعم ، الظاهر أنّ قوله : «لا یُکَلِّفُ الله ُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها» هو الکبری الکلّیة ، وبمنزلة الدلیل علی ما قبلها ، کما یظهر من استشهاد الإمام علیه السلام بها فی روایة عبد الأعلی ؛ حیث سأل أبا عبدالله علیه السلام : هل کلّف الناس بالمعرفة ؟
قال : «لا ، علی الله البیان ، «لا یُکَلِّفُ الله ُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها» ، و«لا یُکَلِّفُ الله ُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها»» .
ولعلّ المراد بالمعرفة هی المعرفة الکاملة التی لا یمکن إلاّ بإقداره تعالی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 19
وتأییده ، لا مطلق العلم بوجود صانع للعالم ، الذی هو فطری .
ثمّ إنّ التعبیر بالإیتاء الذی بمعنی الإعطاء لا یبعد أن یکون مشاکلة لقوله : «فَلْیُنْفِقْ مِمّا آتاهُ الله ُ» .
وأمّا ثانی التقریرین : فالمنع فیه أوضح ؛ لأنّ إرادة الأعمّ من الموصول مع إسناد فعل واحد إلیه غیر ممکن فی المقام ؛ إذ لو اُرید من الموصول نفس التکلیف ینزّل منزلة المفعول المطلق .
ولو اُرید مع ذلک الأمر الخارجی الذی یقع علیه التکلیف یصیر مفعولاً به وتعلّق الفعل بالمفعول المطلق ـ سواء کان نوعیاً أم غیره ـ یباین نحـو تعلّقـه بالمفعول به ؛ لعدم الجامع بین التکلیف والمکلّف به بنحو یتعلّق التکلیف بهما علی وزان واحد .
وإن شئت قلت : المفعول المطلق هو المصدر أو ما فی معناه المأخوذ من نفس الفعل ، والمفعول به ما یقع علیه الفعل المباین معه ، ولا جامع بین الأمرین حتّی یصحّ الإسناد .
ثمّ إنّ بعض محقّقی العصر قدس سره وجّه إرادة الأعمّ من الموصول والإیتاء ، ما هذا خلاصته : إنّ الإشکال إنّما یرد فی فرض إرادة الخصوصیات المزبورة من شخص الموصول ، وإلاّ فبناءً علی استعمال الموصول فی معناه الکلّی العامّ وإرادة الخصوصیات المزبورة من دوالّ اُخر خارجیة فلا یتوجّه محذور ؛ لا من طرف الموصول ، ولا فی لفظ الإیتاء ، ولا من جهة تعلّق الفعل بالموصول :
أمّا من جهة الموصول فلأجل استعماله فی معناه الکلّی ، وأنّ إفادة الخصوصیات من دوالّ اُخر .
وأمّـا الإیتاء فهو مستعمل فی معنی الإعطاء ، غیر أنّـه یختلف مصادیقـه ؛
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 20
مـن کونه تارة هو الإعلام عند إضافتـه إلی الحکم ، واُخـری الملکیة عند إضافته إلی المال .
وأمّا تعلّق الفعل بالموصول ؛ حیث لا یکون له إلاّ نحو تعلّق واحد به ، ومجرّد تعدّده بالتحلیل لا یقتضی تعدّده بالنسبة إلی الجامع الذی هو مفاد الموصول ، غایة الأمر یحتاج إلی تعدّد الدالّ والمدلول ، انتهی .
قلت : إنّ کون الشیء مفعولاً مطلقاً لیس معناه إلاّ کونه ملحوظاً عند إضافة الفعل إلیه بأنّه من شؤون الفعل وکیفیاته علی نحو یکون وجوده بعین وجود الفعل ، کما أنّ المفعول به یلاحظ عند إضافة الفعل إلیه بأنّه أمر موجود فی الخارج وقع الفعل علیه ، ومع ذلک فکیف یمکن إرادتهما باستعمال واحد ؟
وبعبارة اُخری : أنّ نحو تعلّق الفعل بهما مباین لا جامع بینهما . وتعدّد الدالّ والمدلول أو إقامة القرینة علی الخصوصیات فإنّما یصحّ إذا کان فی المقام جامع واقعی حتّی یکون الخصوصیات من مصادیقه ، وأمّا مع عدمه وعدم إمکان إرادتهما منها فلا معنی لإقامة القرینة ، کما لا یخفی .
نعم ، لو صحّ ما ذکـره أخیراً ـ مـن إمکان کون المراد مـن التکلیف فی الآیة هـو الکلفة والمشقّة ، لا الحکم الشرعی ـ لرجع النسبتان إلی نسبة واحدة ؛ إذ یجعل الموصـول ـ حینئذٍ ـ عبارة عـن المفعول به أو المفعول النشوی المعبّر عنه فی کلام بعضهم بالمفعول منه . فیصیر مفاد الآیة : أنّه سبحانه لا یوقع عباده فی کلفـة حکـم إلاّ الحکم الذی أوصلـه إلیهم ، وارتفع الإشکال ، لکنّـه غیر مفید للمقام ، کما یأتی الکلام فیه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 21
ثمّ إنّه قدس سره بعدما استوجه وجود الجامع استشکل فی التمسّک بالإطلاق : تارة بوجود القدر المتیقّن ؛ حیث إنّ القدر المتیقّن ـ حسب سیاق الآیات ـ هو المال ، واُخری بأنّ المستفاد منها عدم الکلفة من قبل التکالیف المجهولة غیر الواصلة إلی المکلّف ، لا نفی الکلفة مطلقاً ؛ ولو من قِبل إیجاب الاحتیاط ، فیکون مفادها مساوقاً لحکم العقل ، فلو ثبت ما یدّعیه الأخباری لصار وارداً علیه ، انتهی .
وأنت خبیر بما فیه ؛ إذ وجود القدر المتیقّن غیر مضرٍّ فی التمسّک بالإطلاق ، کما أوضحناه فی مبحث المطلق والمقیّد .
کما أنّ جعل الاحتیاط لأجل التحفّظ علی التکالیف الواقعیة لا یناسب مع سوق الآیة ؛ لأنّ مساقها مساق المنّة والامتنان ، والإخبار عن لطفه وعنایته ؛ بأنّه لا یجعل العباد فی الکلفة والمشقّة من جهة التکلیف إلاّ مع إیصالها .
ومن المعلوم : أنّ جعل الاحتیاط تضییق علی المکلّف بلا إیصال ؛ لأنّ المرمی من الاحتیاط هو التحفّظ علی الواقع ، لا کونه طریقاً موصلاً إلی الواقع ، فإیجاب التحفّظ فی الشبهات البدویة کلفة بلا إیصال ولا إعلام .
ثمّ إنّه قدس سره استشکل ثالثاً فـی التمسّک بالإطلاق ما حاصلـه : إنّ مساقها مساق قوله علیه السلام : «إنّ الله سکت عن أشیاء لم یسکت عنها نسیاناً» فیکون دلالتها ممحّضة فی نفی الکلفة عمّا لم یوصل علمه إلی العباد ؛ لمکان سکوته
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 22
وعـدم بیانـه وإظهاره ، لا نفی الکلفـة مطلقاً عمّـا لم یصل علمـه إلی العباد ؛ لإخفاء الظالمین ، انتهی .
وفیه : أنّ ذلک بعید عن مفاد الآیة جدّاً ؛ إذ حینئذٍ یصیر من قبیل توضیح الواضح ؛ إذ مآلها حسب قول القائل إلی أنّ الله لا یکلّف نفساً بما هو ساکت عنه ، وهو کما تری .
نعم ، یمکن منع التمسّک بالإطلاق بطریق آخر ، بیانه : أنّ معنی الإطلاق ـ کما مرّ ـ هو کون الطبیعة تمام الموضوع للحکم ، فلو احتملنا دخالة شیء غیر مذکور فی الحکم فنحکم به علی عدم جزئیته وشرطیته .
ولکن الاحتجاج به بعد انعقاد الظهور لما وقع تحت دائرة الحکم حتّی یحتجّ بعدم تعرّضه علی قید آخر علی عدم دخالته ، وهذا الشرط منتفٍ فی المقام ؛ إذ لم یثبت أنّ المتکلّم أراد المعنی الجامع الانتزاعی الذی یحتاج فی تصوّر إرادته إلی تکلّف ، أو أراد إحدی المعانی الاُخر ، ومع ذلک التردّد لا مجال للإطلاق ؛ إذ غایة ما ذکرنا من المعانی والوجوه احتمالات وإمکانات ، وهو لا ینفع من دون الظهور .
علی أنّ الظاهر حسب السیاق هو المعنی الأوّل ؛ أعنی جعل المراد من الموصول الأمر الخارجی ، ومن «الإیتاء» هو الإقدار والإعطاء ، فلاحظ .
وممّا ذکرناه : یظهر النظر فیما أفاده بعض أعاظم العصر فی المقام بما هذا حاصله : إنّ المراد من الموصول خصوص المفعول به ، ومع ذلک یکون شاملاً للتکلیف وموضوعه ؛ لأنّ إیتاء کلّ شیء بحسبه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 23
أضف إلی ذلک : أنّ المفعول المطلق النوعی والعددی یصحّ جعله مفعولاً به بنحو من العنایة ، کما أنّ الوجوب والتحریم یصحّ تعلّق التکلیف بهما باعتبار ما لهما من المعنی الاسم المصدری ، انتهی .
وفیه ـ مضافاً إلی عدم إمکان شمول الموصول لهما بما مرّ ـ أوّلاً : أنّ قوله قدس سرهإنّ المفعول المطلق یصحّ جعله مفعولاً به بنحو من العنایة لا محصّل له ، کقوله : إنّ الوجوب والتحریم یصحّ تعلّق التکلیف بهما ؛ إذ کیف یتصوّر تعلّق البعث بهما علی نحو المفعول به ؛ ولو اعتبرا بنحو الاسم المصدری ؟
وثانیاً : أنّ لازم ما أفاد هو الجمع بین الاعتبارین المتنافیین ؛ فإنّ المفعول به مقدّم فی الاعتبار علی المصدر ؛ لأنّه إضافة قائمة به فی الاعتبار ، وأمّا المفعول المطلق فهو عبارة عن حاصل المصدر ، وهو متأخّر رتبةً عن المصدر ، فکیف یجمع بینهما فی الاعتبار ؟ فیلزم ممّا ذکره اعتبار المتأخّر فی الاعتبار متقدّماً فی الاعتبار فی حال کونه متأخّراً .
ثمّ إنّه استشکل علی دلالة الآیة : بأنّ أقصی ما تدلّ علیه الآیة هو أنّ المؤاخذة لا تحسن إلاّ بعد بعث الرسل وتبلیغ الأحکام ، وهذا لا ربط له بما نحن فیه من الشکّ فی التکلیف بعد البعث والإنزال وعروض اختفاء التکلیف بما لا یرجع إلی الشارع .
فالآیة لا تدلّ علی البراءة ، بل مفادها مفاد قوله تعالی : «وَما کُنّا مُعَذِّبِینَ حَتّی نَبْعَثَ رَسُولاً» ، انتهی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 24
وفیه : ما عرفت فی توضیح دلالة الآیة المتقدّمة ؛ بأنّ المیزان هو الإبلاغ والإیصال فی استحقاق العقاب ، لا الإبلاغ ولو مع عدم الوصول .
علی أنّ دلالة تلک ـ بعد الغضّ عمّا ذکرنا من الإشکال ـ أوضح من المتقدّمة ؛ لوضوح دلالتها فی الإبلاغ والإیصال ، من دون أن نحتاج إلی إلغاء الخصوصیة ، کما لا یخفی .
ثمّ إنّ القوم استدلّوا ببعض الآیات ؛ وحیث إنّ فیما ذکرنا أو ما نذکره من السنّة والأدلّة العقلیة غنیً عن الخوض فیه طوینا البیان عنه ، ونذکر ما استدلّوا به من السنّة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 25