الأمر الثانی : فی وجه تقدیم الأمارات علی الاُصول
قد عرّف المحقّقون الحکومة بتعاریف ، ولعلّ محصّلها یرجع إلی کون الدلیل الحاکم متعرّضاً للمحکوم نحو تعرّض ، ولو بنحو اللزوم العرفی أو العقلی ممّا لا یرجع إلی التصادم فی مرحلة الظهور . وإن شئت قلت : کون الدلیل متعرّضاً لحیثیة من حیثیات دلیل المحکوم ممّا لا یتکفّله دلیل المحکوم ؛ توسعة وضیقاً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 11
وبذلک ـ أی تعرّض الحاکم لما لم یتعرّض به المحکوم ممّا یرجع إلی حیثیة من حیثیاته ـ یعلم : أنّ الحکومة قائمة بلسان الدلیل الحاکم وکیفیة تأدیته ، فلا یتصوّر بین اللبّیة الصرفة کالإجماع أو الأدلّة العقلیة ، نعم یتصوّر بینهما الورود أو التخصیص وغیرهما .
إذا عرفت ذلک : المشهور أنّ الأمارات حاکمة علی الاُصول العملیة ، والظاهر أنّ فی هذا التعبیر مسامحة ؛ فإنّ الحکومة إنّما هو بین أدلّة الأمارات وأدلّة الاُصول لا بینهما ، کما لا یخفی .
علی أنّ أدلّة الأمارات لیست علی نسق واحد حتّی یصیر الترجیح علی أدلّة الاُصول بمثابة واحدة بل تختلف ، وباختلافها یختلف وجه الترجیح .
فإنّ من الأمارات قول الثقة ؛ فإن کان المدرک لحجّیة قوله آیة النبأ ، فالترجیح إنّما هو بالحکومة ؛ فإنّ لسانها أنّ خبر العدل متبیّن ، ولیس العمل علی قوله عملاً بجهالة ، فیقدّم علی الاُصول ؛ لکون موضوعاتها الجهالة وعدم العلم أو الشکّ .
وإن کان حجّیتها لأجل بعض الأخبار الواردة فیها فلا یبعد أن یکون التقدیم أیضاً علی نحو الحکومة ، مثل قوله علیه السلام : «ما أدّیا إلیک عنّی فعنّی یؤدّیان» .
وإن کان المستند هو بناء العقلاء علی العمل به فی اُمورهم : فلا شکّ أنّ التقدیم لیس لأجل الحکومة ؛ لتقوّمها بلسان الدلیل ودلالته اللفظیة ، ولا لسان للدلیل اللبّی . فلابدّ أن یکون التقدیم بنحو الورود أو غیره .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 12
ومن ذلک یعلم : أنّ تقدیم دلیل أصالة الصحّة فی فعل الغیر علی الاستصحاب لیس بنحو الحکومة ، لکونه لبّیاً ، وهو بناء العقلاء .
وأمّا تقدیم أدلّة قاعدة التجاوز علی دلیل الاستصحاب فالظاهر : أنّه علی نحو الحکومة ، بناءً علی أنّ الاستصحاب أصل ؛ فإنّ مفاده عدم نقض الیقین بالشکّ ، ولسان الأدلّة فی القاعدة هو عدم الشکّ أو عدم شیئیته ، وهذا لسان الحکومة ، بل أیّ حکومة أقوی من قوله : «إنّما الشکّ إذا کنت فی شیء لم تجزه» ، أو قوله علیه السلام : «فشکّک لیس بشیء» .
ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر نسب إلی الشیخ الأعظم أنّه قال هنا وفی مبحث التعادل والترجیح : إنّ التنافی بین الأمارات والاُصول هو التنافی بین الحکم الواقعی والظاهری وأنّ الجمع هو الجمع .
ثمّ أورد علیه : بأنّ المقامین مختلفان تنافیاً وجمعاً ، وأنّ الجمع بین الأمارات والاُصول إنّما هو بالحکومة لا بما أفاده ، انتهی .
وفیه : أنّ الشیخ الأعظم قد صرّح بحکومة الأمارات علی الاُصول فی کلا المقامین ، ولیس فی کلامه ما یوهم ما نسبه إلیه ، فراجع .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 13