الأمر الخامس فی أنّ ما وُضعت له الألفاظ هل هی المعانی الواقعیّة ، أو المعانی المرادة؟

الجهة الأولی فی أنّ الموضوع له هل المعانی الواقعیّة للألفاظ أو المعانی المرادة؟

الجهة الأولی فی أنّ الموضوع له هل المعانی الواقعیّة للألفاظ أو المعانی المرادة؟

‎ ‎

‏والکلام فیه فی مقامین: المقام الأوّل فی مقام الثبوت، وهو إمکان کون المعانی‏‎ ‎‏الواقعیّة موضوعة لها، والمقام الثانیفی وقوع ذلک.‏

‏فلو ذهبنا إلی الامتناع فی المقام الأوّل فالبحث فی المقام الثانی ساقط، کما أنـّه‏‎ ‎‏لو أمکننا إثبات وقوعه فهو أدلّ دلیل علی إمکانه، ولا یحتاج إلی تکلّف إثبات إمکانه،‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 193
‏وسیمرّ بک إثبات وقوعه، فلا یهمّنا إثبات إمکانه.‏

‏ولکن یظهر من المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ وجوب کون الموضوع له المعانی الواقعیّة،‏‎ ‎‏وتمتنع دخالة الإرادة فی الموضوع له بنحو من الأنحاء؛ سواء کان التقیّد داخلاً والقید‏‎ ‎‏خارجاً، أم کلاهما خارجین؛ بأن یکون الموضوع له هی الحصّة التی یوجبها اقتران‏‎ ‎‏المعنی بالإرادة؛ سواء کانت الإرادة إرادة استعمالیّة، وهی إرادة استعمال اللّفظ فی‏‎ ‎‏المعنی وإرادة إفنائه فی مطابقه، أم إرادة تفهیمیّة، وهی إرادة تفهیم المعنی الذی‏‎ ‎‏استعمل اللّفظ فیه للمخاطب، أم لا، أم إرادة جدّیّة، وهی إرادة المعنی المستعمل فیه‏‎ ‎‏اللّفظ جدّاً وحقیقة سواء کان فی مقام الإخبار عنه أو به، أم فی مقام الإنشاء بأیّ‏‎ ‎‏نحوٍ کان إنشاؤه‏‎[1]‎‏.‏

‏استدلّ ‏‏قدس سره‏‏ لعدم إمکان أخذ الإرادة ثبوتاً بوجوه‏‎[2]‎‏، ولکن ما یمکن أن یستدلّ‏‎ ‎‏به لمزعمته هو أحدها، وهو أنّ لازم أخذ الإرادة فی المستعمل فیه، کون شیء واحد فی‏‎ ‎‏آنٍ واحد متقدّماً ومتأخّراً بالطبع بالإضافة إلی شیء واحد.‏

‏وأمّا غیره من الوجوه التی ذکرها: 1 ـ من لزوم عدم صحّة الحمل فی القضایا‏‎ ‎‏الحملیّة إلاّ بتجرید المحمول عن التقیّد المزبور، 2 ـ وکون الموضوع له خاصّاً فی جمیع‏‎ ‎‏المعانی، حتّی مثل أسماء الأجناس لغرض تقیّد المعنی الموضوع له بإرادة المتکلّم، وهی‏‎ ‎‏جزئیّ حقیقیّ، 3 ـ ولزوم مخالفة طریق الوضع المستفاد من الاستقراء، فأجنبیّة عن‏‎ ‎‏مقام الثبوت، وغایة ما یمکن أن یستند بها لو تمّت، فإنّما هی راجعة إلی مرحلة‏‎ ‎‏الإثبات لا مرحلة الثبوت، کما لا یخفی.‏

‏وکیف کان، حاصل ما أفاده من المحذور العقلی فی أخذ الإرادة فی الموضوع له:‏‎ ‎‏وهو أنّ لازم ذلک کون شیء واحد ـ فی آنٍ واحد ـ متقدّماً ومتأخّراً بالطبع بالإضافة‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 194
‏إلی شیء؛ وذلک لأنّ الاستعمال متأخّر عن المستعمل فیه، فلو اُخذت الإرادة التی هی‏‎ ‎‏من قوام الاستعمال ـ أی الإرادة الاستعمالیّة ـ فی المستعمل فیه لزم أن یکون المستعمل‏‎ ‎‏فیه متقدّماً علی الاستعمال ومتأخّراً عنه، وهذا خُلْف.‏

‏وهکذا الأمر لو کان التقیید بنحو آخر من أنحاء الإرادة التی أشرنا إلیها؛ لاتّحاد‏‎ ‎‏الملاک فیها جمیعاً ‏‎[3]‎‏.‏

‏ولکن یتوجّه علی هذا الوجه وجوه من الإشکال.‏

منها: ‏أنـّه ـ کما ذکرنا فی المعانی الحرفیّة ـ أنّ رتبة المستعمل فیه لم تکن متقدّمة‏‎ ‎‏علی الاستعمال، بل فی رتبته؛ لأنـّه قد یستعمل الشیء بإیجاده من دون أن یکون له‏‎ ‎‏وجود فعلیّ، ومنشأ القول بالتقدّم هو تخیّل کون المستعمل فیه ظرفاً للاستعمال،‏‎ ‎‏والاستعمال مظروفه قضاء للفظة «فی»، وقد عرفت فساده.‏

ومنها: ‏أنّ مقصود القائل بدخالة الإرادة فی المعنی: هو أنّ إیجاد اللّفظ مثل سائر‏‎ ‎‏الأفعال الاختیاریّة معلّلة بالغرض، وله غایة، وهی التفهیم والتفهّم، فإرادة تفهیم‏‎ ‎‏المعانی والمقاصد أوجبت علی المتکلّم أن یتکلّم بما یُفهم مُراده ومقصوده، فهی علّة‏‎ ‎‏غائیّة للتکلّم، کما أنّ البُرء من المرض علّة غائیّة لشرب الدواء، فإرادة تفهیم الغیر‏‎ ‎‏أوجبت إیجاد مقدماته ومنها إیجاد اللّفظ المُفهم لذلک.‏

فلنا إرادتان:

‏إحداهما: ‏‏إرادة تفهیم المقاصد والمطالب، ومتعلّقها تفهیم المعنی للغیر، والإرادة‏‎ ‎‏قائمة بالنفس، ومُرادها غایة بالذات.‏

وثانیتها: ‏إرادة استعمال اللّفظ فی المعنی، وهذه متأخّرة عن تلک الإرادة، وتلک‏‎ ‎‏الإرادة أوجبت إیجاد هذه الإرادة عن مبادئها، فالإرادة المقوّمة للاستعمال هی هذه‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 195
‏الإرادة، لا الإرادة الاُولی، فالموضوع له عنده مقیّد بإرادة تفهیم المقاصد للغیر،‏‎ ‎‏لاالإرادة الاستعمالیّة، فلا یلزم من القول به محذور عقلی، وهو کون شیء واحد‏‎ ‎‏متقدّماً ومتأخّراً.‏

‏نعم، یرد علیه إشکال آخر ـ نشیر إلیه ـ فی مقام الإثبات: وهو أنّ دخالة‏‎ ‎‏الإرادة فی المعنی الموضوع له خلاف التبادر، بل التبادر یعطی بأنّ الموضوع له نفس‏‎ ‎‏المعانی من حیث هی هی.‏

والحاصل: ‏أنـّه قد تطلق الألفاظ ویراد بها المعانی المقصودة، وقد تطلق ویراد‏‎ ‎‏بها ما یفهم من الألفاظ، والقائل بکون الألفاظ موضوعة للمعانی المرادة، یعنی بها‏‎ ‎‏المعانی بالمعنی الأوّل؛ أی لم توضع الألفاظ لنفس المقاصد، بل وُضعت لها من جهة‏‎ ‎‏تعلّق الإرادة بها، وإرادة تفهیم المقاصد سابقة علی الوضع، فضلاً عن الاستعمال،‏‎ ‎‏فلایلزم تقدّم ما هو المتأخّر وبالعکس، فتدبّر واغتنم.‏

ومنها: ‏أنّ ما أفاده هنا ـ من امتناع أخذ الإرادة ـ یناقض ما سیذکره بعد قلیل‏‎ ‎‏عند قوله: وإن اُرید من کون الموضوع له هو المعنی... إلی آخره‏‎[4]‎‏؛ حیث یصرح هناک‏‎ ‎‏بإمکان تعلّق إرادة المتکلّم بالموضوع علی نحو خروج القید والتقیّد معاً، وهذا‏‎ ‎‏عجیب منه‏‎[5]‎‏.‏

‏فظهر لک ممّا ذکرنا: أنّ القول بدخالة الإرادة فی المستعمل فیه لا یوجب محذوراً‏‎ ‎‏عقلیّاً.‏

نعم،‏ یتوجّه علی القائل به: بأنّ غایة ما یمکن أن یستدلّ به علی مقالته ـ کما‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 196
‏أشار إلیه المحقّق ‏‏قدس سره‏‏ أیضاً ـ : هو أنّ وضع الألفاظ لغایة، وهی تفهیم المقاصد، والعلّة‏‎ ‎‏الغائیّة علّة فاعلیّة الفاعل، وهی التی أوجبت وضع الألفاظ لما یکون موجباً للتفهیم‏‎ ‎‏والتفهّم، ولا یدلّ هذا علی کون المعانی مقیّدة بالإرادة، بل غایته هو أنـّه لابدّ وأن‏‎ ‎‏لاتخلو الألفاظ عن الإفادة والاستفادة، وهما موجودتان فی وضع الألفاظ لنفس‏‎ ‎‏معانیها النفس الأمریّة، فتدبّر.‏

‏هذا کلّه فیما یتعلّق بمقام الثبوت.‏

وأمّا مقام الإثبات: ‏فنقول: إنّ التبادر قاضٍ بانسباق نفس المعنی من اللّفظ‏‎ ‎‏الموضوع عند سماعه من المتکلّم؛ من دون أن تکون للإرادة ـ سواء أخذت بمعناه‏‎ ‎‏الاسمی أو بالمعنی الحرفی ـ دخالة فی ذلک أصلاً، والتبادر هو الرکن الوثیق، بل الرکن‏‎ ‎‏الوحید فی المسألة، لأنّ غیر التبادر من الوجوه التی یستدلّ بها لذلک ـ وقد أشار إلیها‏‎ ‎‏المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‎[6]‎‏ـ مرجعها إلی التبادر، وذلک مثل أنـّه لو قلنا بأخذ الإرادة فی‏‎ ‎‏الموضوع له، یلزم عدم صحّة الحمل فی القضایا الحملیّة، إلاّ بتجرید المحمول عن‏‎ ‎‏التقیید المزبور، وأنـّه یستلزم أخذ الإرادة فیه کون الموضوع له خاصّاً فی جمیع المعانی؛‏‎ ‎‏لفرض تقیید المعنی الموضوع له بإرادة المتکلّم، وهی جزئیّ حقیقیّ، وأنـّه یستلزم ذلک‏‎ ‎‏مخالفة طریقة الوضع المستفادة من الاستقراء... إلی غیر ذلک من الوجوه.‏

‏ولو أنکرنا التبادر فی المسألة لم یکن التجرید أو کون الموضوع له خاصّاً‏‎ ‎‏أومخالفة الوضع، وجهاً ومحذوراً للمنع؛ لإمکان التزام الخصم به، کما لا یخفی، فتدبّر.‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 197

  • )) بدائع الأفکار 1: 91.
  • )) نفس المصدر السابق 1: 92.
  • )) نفس المصدر.
  • )) نفس المصدر 1: 93.
  • )) قلت: لعلّ هذا الإیراد غیر وارد علیه قدس سره؛ لأنّ قوله: وإن اُرید... إلی آخره فی مقام تحلیل دلیل القائل بدخالة الإرادة فی الموضوع له، والمحقّق العراقی قدس سره لم یدّع برهاناً علی عدم إمکان أخذ الإرادة مطلقاً، بل کان بصدد ردّ القائلین بأخذ الإرادة، فلاحظ وتأمّل. المقرّر
  • )) بدائع الأفکار 1: 92.