الجهة الثامنة فی ألفاظ الإشارة وضمائر الغیبة
اشتهر بین الاُدباء وغیرهم: أنّ ألفاظ الإشارة موضوعة لنفس المشار إلیه، فلفظة «هذا» ـ مثلاً ـ موضوعة للفرد المذکّر، وهکذا غیرها من ألفاظ الإشارة، وکذا ضمائر الغیبة، فإنّها عندهم لأفراد الغائب، کلفظة «هو» ـ مثلاً ـ فإنّها موضوعة للمفرد المذکّر الغائب، وهکذا غیرها من الضمائر، فعلی ما ذکروه یکون مفاد ألفاظ الإشارة والضمائر معانی اسمیّة مستقلّة.
ولکن حقیق النظر یقضی بخلافه؛ وذلک لأنـّه إذا تأمّلت فی قوله: «هذا زید» ـ مثلاً ـ فهناک اُمور:
1 ـ المشیر.
2 ـ والمشار إلیه.
3 ـ والإشارة، وهی الامتداد الموهوم المتوسّط بین المشیر والمشار إلیه.
4 ـ وآلة الإشارة.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 157
وبلفظة «هذا» یشیر إلی زید المشار إلیه، فلفظة «هذا» آلة لإیجاد الإشارة، نظیر إشارة الأخرس، وبکلٍّ منهما یحضر المشار إلیه فی الذهن من دون أن یکون المشار داخلاً فی معناهما أصلاً، غایة الأمر یکون إحضار المشار إلیه فی الذهن بإشارة الأخرس بغیر الوضع، بخلاف إحضاره بلفظة «هذا»، فإنّه بالوضع.
وهکذا الأمر فی ضمائر الغیبة، فإنّها موضوعة للإشارة إلی الغائب، ولذا یشترط فیها أن یکون مرجعها مذکوراً أو معهوداً؛ لتصحّ الإشارة إلیه، ومرجع الضمیر هو المشار إلیه، ونسبته إلیه کنسبة المشار إلیه إلی اسم الإشارة.
وبالجملة: ألفاظ الإشارة وضمائر الغیبة موضوعة لنفس الإشارة وإیجادها: إمّا للحاضر، کما فی ألفاظ الإشارة ـ علی اختلاف فیها من القریب والمتوسّط والبعید ـ فإنّه بلفظة «ذا» تشیر إلی المذکّر الحاضر القریب، وبـ «ذاک» للمتوسّط منه، وبـ «ذلک» للبعید... وهکذا.
أو للغائب، کضمائر الغیبة کـ «هو»، فإنّه یشار بها إلی المذکّر الغائب، وهکذا الأمر فی «هما»، و «هم» .
وإحضار المشار إلیه فی ذهن السامع تبعیّ من دون أن یکون دخیلاً فیه.
وبعبارة أوضح: هذه الألفاظ وضعت لنفس الإشارة، ولازمها إحضار المشار إلیه فی ذهن السامع.
ففرق بین قولنا: «زید قائم»، وبین قولنا: «هذا ـ أو ـ هو قائم»، فإنّ «زیداً» یحکی عن المحکوم علیه حکایة اللّفظ عن معناه الموضوع له، بخلاف لفظتی «هذا» و «هو» فإنّهما یُحضران المحکوم علیه فی ذهن السامع، نظیر إحضار الإشارة بالإصبع إیاه فی ذهنه؛ من دون أن تکون موضوعة له، ومن غیرأن تکون حکایة للّفظ عن معناه، وإلی ما ذکرنا یشیر ابن مالک فی ألفیّته بقوله:
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 158
بذا لمفردٍ مُذکّرٍ أشِرْ
بذی وذِه، تی تا علی الاُنثی اقتصرْ
... إلی آخر ما ذکره.
ولعلّ هذا هو مُراد الاُدباء، فما یظهر من بعضهم: من أنّ ألفاظ الإشارة موضوعة لنفس المشار إلیه، مثلاً لفظة «هذا» موضوعة للمفرد المذکّر المشار إلیه، وضمائر الغیبة موضوعة لأفراد الغائب؛ بعید عمّا یراه العرف والوجدان.
والعرف ببابک فاختبرهم، ووجدانک والتبادر أصدقا شاهد علی کلّ ما ذکرنا: من کون ألفاظ الإشارة وضمائر الغیبة ومُرادفاتها من أیّ لغة ـ کلفظتی «إین» و «اُو» فی لغة الفرس ـ من سنخ واحد، وأنـّها موضوعة لنفس الإشارة، لاللمشار إلیه، ومرجع الضمیر نظیر إشارة الأخرس، والفرق بینهما إنّما هو بالحضور والغیبة.
فعلی هذا تندرج ألفاظ الإشارة وضمائر الغیبة فی باب الحروف، وتدخل فی عداد مفاهیمها؛ من حیث عدم استقلالها فی المفهومیّة والوجود.
ثم إنّه ربّما یرد فی المقام ـ مضافاً إلی ما اُورد علی إیجادیّة الحروف ـ أمران:
الأمر الأوّل: أنّ لفظتی «هذا» و «هو» فی قولک: «هذا زید» أو «هو قائم» ـ مثلاً ـ مبتدأ، ولو کانت حرفاً لما صحّ أن تخبر عنها وتجعلها مبتدأ ومسنداً إلیها، فوقوعها مبتدأ ومسنداً إلیها دلیل علی عدم کون «هذا» أو «هو» للإشارة التی یکون معناها حرفیّاً .
وفیه: أنّ المسند إلیه أو المبتدأ فی مثل ذلک، إنّما هو المشار إلیه بالمعنی الأعمّ الشامل لمرجع الضمیر، ولفظة «هذا» أو «هو» للإشارة إلیه، نظیر إشارة الأخرس، فکما أنّ إشارة الأخرس ـ عند الإشارة إلی شیء والإخبار عنه ـ لم تکن مسند إلیه،
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 159
بل المسند إلیه هو المشار إلیه، فکذلک المسند إلیه فی قولک: «هذا زید»، و «هو قائم»، لم یکن لفظة «هذا» أو «هو» بل المشار إلیه بهما، وتقدّم آنفاً الفرق بین إحضار «هذا» أو «هو» المشار إلیه، وبین حکایة لفظة «زید» عن الشخص الخارجی، فإنّ فی الأوّل یُحضران المسندَ إلیه فی ذهن السامع من دون أن یکونا موضوعین له، وفی الثانی تحکی عن المسند إلیه حکایة اللّفظ عن معناه الموضوع له.
ونحن وإن لا ننکر إجراء بعض أحکام المبتدأ والمسند إلیه علی ألفاظ الإشارة وضمائر الغیبة فی محیط الأدب وفی عبارات الاُدباء، ولکن لا یوجب ذلک کونها أسماء، کما لا یخفی، کما أنـّهم یُجرون أحکام العَلَم علی بعض النکرات کـ «اُسامة»، مع أنـّها لیست عَلَماً؛ لأنـّه لا فرق بینها وبین «الأسد» فی الدلالة علی المعنی المبهم، ومع ذلک تراهم یجرون أحکام العَلَم علی «اُسامة» دون «الأسد».
والقول بأنّ «اُسامة» عَلَم للجنس دون «الأسد» أمر لا یقبله الطبع السلیم، ولم یمکنهم إثباته بدون ورود الإشکال، کما لا یخفی، فتدبّر.
الأمر الثانی: أنـّه لو کانت معانی ألفاظ الإشارة وضمائر الغیبة معانی جزئیّة فلا یمکن تقییدها، وما لا یمکن تقییده لا یمکن إطلاقه؛ لأنـّهما متقابلان، فإذاً لا تقبل الإشارة لأن تُثنّی وتجمع؛ لأنّ تثنیتها وجمعها عبارة عن تکریرها وتقییدها، مع أنـّا نری بالوجدان صحّة أن یقال: «هذا، هذان، هؤلاء، هو، هما، هم...» إلی غیر ذلک.
مضافاً إلی عدم معهودیّة لحوق علامتی التثنیة والجمع للحرف.
وفیه: أنّ هذا الإشکال ینحلّ إلی أمرین:
أحدهما: عدم إمکان تقیید المعنی الحرفی.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 160
والثانی: عدم معهودیّة لحوق علامتی التثنیة والجمع للحرف.
أمّا الأوّل: فسیجیء مفصّلاً ـ فی باب الواجب المشروط ـ إمکان تقیید الوجوب الذی یکون معناه جزئیّاً، فارتقب.
ولو سُلّم عدم إمکان تقیید المعنی الحرفی، فنقول: إنّه فی المفروض لم تتعدّد الإشارة، بل المتعدّد إنّما هو المشار إلیه ومرجع الضمیر، ومجرّد لحوق علامتی التثنیة والجمع لها لا یوجب تعدّد الإشارة؛ لأنـّهما یلحقان الفعل، بل یمکن أن یقال: إنّهما یلحقان هیئة الفعل، کقولنا: «اضربا، اضربوا» ومع ذلک لا یفیدان تعدّد البعث والفعل، بل یدلاّن علی تعدّد الفاعل.
ألا تری أنـّه فیما یمتنع تعدّد الفعل کالقتل تلحقه علامتا التثنیة والجمع، فنقول: «اقتلا، واقتلوا زیداً»، فعلامتا التثنیة والجمع لحقتا الفعل، ولکن لا تدلاّن علی تعدّد الفعل، بل إنّما تدلاّن علی تعدّد الفاعل.
وبالجملة: حتّی لو قلنا بامتناع تقیید المعنی الحرفی نستطیع أن نقول: لا مانع من لحوق علامتی التثنیة والجمع لألفاظ الإشارة وضمائر الغیبة، لأنـّهما تدلاّن علی تعدّد المشار إلیه ومرجع الضمیر.
وأمّا إشکال عدم معهودیّة لحوق علامتی التثنیة والجمع للحروف.
ففیه: أنـّه اتّفقت کلمة النحاة علی أنّ کاف الخطاب حرف، ومع ذلک تلحقه علامتا التثنیة والجمع؛ لقولهم: ذلک، ذلکما، ذلکم.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 161