الإشکال الثانی :
وحاصله: أنّ الهیئة الدالّة علی معنیً لابدّ وأن یکون مدلولها معنیً حرفیّاً، وعلی فرض کون المعنی الحرفی إیجادیّاً، یلزم أن یکون معنی الهیئة متقدّماً فی حال کونه متأخراً، وبالعکس، وهذا خُلف.
وذلک لأنّ مادّة الجملة تدلّ علی معنیً اسمیّ، فتکون متأخّرة عن مدلوله طبعاً تأخّر الدالّ عن مدلوله، والهیئة العارضة علی المادّة متأخّرة عنها تأخّر العارض عن معروضه، ومعنی الهیئة متأخّر عن الهیئة تأخّر المعلول عن علّته؛ لأنّ الماهیّة موجدة للمعنی، فالمعنی الحرفی متأخّر عن المعنی الاسمی بثلاث رتب؛ لأنـّه:
1 ـ متأخّر عن الهیئة.
2 ـ المتأخّرة عن المادّة.
3 ـ المتأخّرة عن المعنی.
وواضح أنّ مدلول الهیئة معنیً حرفیّاً، فإذا کان ذلک المعنی الحرفی إیجادیّاً یلزم أن تُوجِد الهیئة معناها الحرفی ـ المتأخّر عن المعنی الاسمی بثلاث رتب ـ فی المعنی الاسمی، فیتقدّم علی علّته بثلاث رتب.
أقول: ینبغی الإشارة أوّلاً إلی أمر ربّما یکون مغفولاً عنه، وقد أورثت الغفلة عنه اشتباهات کثیرة: وهو أنـّه لیس کلّ ما مع المتقدّم علی الشیء متقدّماً علی ذلک
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 128
الشیء، وکذا لیس کلّ ما مع المتأخّر عن شیء متأخراً عن ذلک الشیء، وإنّما یتم ذلک فی التقدّم والتأخّر الزمانی والمکانی ونحوهما، وأمّا فی التقدم والتأخّر الرتبی غیر الفکّی، فلا یلزم أن یکون مع المتقدّم علی الشیء متقدّم علی ذلک الشیء، بل لا وجه له، وکذلک لا یلزم ولا وجه لأن یکون مع المتأخّر عن شیء متأخّر عن ذلک الشیء.
وذلک لأنـّه إذا کان هناک شیئان معاً فی رتبة واحدة؛ بأن کانا معلولی علّةٍ واحدة، فإن کان أحدهما علّة لأمر فتکون متقدّمة علی ذلک الأمر تقدّم العلّة علی معلولها، وذلک الأمر متأخّر عنه تأخّر المعلول عن علّته، ولا یوجب ذلک تقدّم ما یکون مع العلّة علیه وتأخّره عنه؛ لأنّ تقدّم العلّة إنّما هو بحسب تقدّم وجود المعلول بها؛ من دون أن یکون بین وجود العلّة ووجود معلولها انفکاک وفصل، فالتقدّم والتأخّر عقلیّان لا خارجیّان، فالذی مع العلّة لا وجه لتقدّمه علی ذلک الشیء؛ لعدم وجود الملاک فیه.
وکذا أجزاء المرکّب متقدّمة علی المرکّب تقدّماً جوهریّاً، فإذا کان شیء فی رتبة جزء من أجزاء المرکّب؛ من دون أن یکون دخیلاً فی حصول المرکّب، لا یکون مقدّماً علی المرکّب تقدّماً جوهریّاً.
وبما ذکرنا یظهر لک وجه اختصاص ما ذکرنا بالتقدّم والتأخّر غیر الفکّیّین؛ بداهة أنـّه لو کان شیء مع المتقدّم بالتقدّم المکانی أو الزمانی، لصحّ أن یقال: إنّ ما مع المتقدّم متقدّم، وبالعکس: ما مع المتأخّر متأخّر؛ لحصول الفصل بین المتقدّم والمتأخّر بالزمان أو المکان، فما کان معه یکون متقدّماً بحسب الزمان أو المکان أیضاً.
إذا عرفت ما ذکرنا فنقول: إنّ هیئة: «ضَرَبَ» ـ مثلاً ـ متأخّرة عن ذات مادّته ـ أعنی: الضاد والراء والباء ـ تأخّر العارض عن معروضه، ولا یلزم من تأخّر الهیئة عن المادّة تأخّر الهیئة عن مادّته بوصف دلالتها علی المعنی، بل هی فی عرضها؛ لأنّ وصف دلیلیتها ـ لو سُلّم تأخّرها عن مدلولها ومعناه ـ لا تکون دلالته علی المعنی
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 129
بالذات، بل بالوضع، ففی الحقیقة یکون للمادّة وصفان: أحدهما الهیئة العارضة علیها، والثانی وصف کونها دالّة الحاصل بالوضع، وهما فی رتبة واحدة فی العروض علی المادّة، فقوله قدس سره: إنّ الهیئة متأخّرة عن المادّة المتأخّرة عن معناها، من اشتباه ما بالعرض بما بالذات، وهو نوع من المغالطة؛ لأنّ الهیئة إنّما تأخّرت عن ذات المادّة بجهة عروضها علیها، لا بوصف دلالتها علی المعنی بالوضع، فتدبّر. هذا أوّلاً.
وثانیاً: أنـّه لم نفهم المراد من قوله قدس سره: إنّ الدالّ متأخّر عن مدلوله، هل مُراده أنـّه متأخّر عنه ذاتاً؟ فالضرورة قاضیة بعدمه.
وإن أراد أنّ المادّة بما أنـّها دالة متأخّرة، فنقول: إنّ المتضایفین متکافئان قوة وفعلاً حتّی فی العلّیّة والمعلولیّة؛ لأنّ المتقدّم هنا ذات العلّة، وأمّا ذات العلّة بوصف علّیّتها، فلا تقدّم لها علی ذات المعلول بوصف المعلولیّة، فإذاً لا تقدّم للمادّة ـ بما هی دالّة ـ علی المدلول بما هو مدلول، بل هما فی رتبة واحدة.
وثالثاً: أنّ المتخیَّل والمترائی فی النظر بدواً هو أنّ الدالّ مقدّم علی المدلول؛ لأنـّه باللّفظ الدالّ علی المعنی ینتقل الذهن إلی المعنی والمدلول دون العکس، ومجرّد کون وضع اللّفظ بعد وجود المعنی والماهیّة، لا یوجب تقدّم المعنی والمدلول علی اللّفظ الدالّ علیه، ولا یرتبط ذلک بباب الدلالة التی هی محلّ البحث، ولکن مع ذلک لایوجب تقدّم ذلک علیه رتبة.
وبالجملة: المترائی فی باب الدلالة وإن کان تقدّم اللّفظ الدالّ علی المعنی المدلول؛ بلحاظ أنّ اللّفظ هو الذی یدلّ علی المعنی، وبـإدراک اللّفظ یُدرَک المعنی، دون العکس.
ولکن مجرّد حضور المعنی بعد حضور اللّفظ لا یوجب التقدمِة؛ لأنّ ذلک باب الانتقال، ومجرّد انتقال الذهن إلی أمر لأجل توجّهه إلی شیء، لا یوجب تقدّم رتبةِ ذلک الأمر علی ذلک الشیء.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 130
ورابعاً: لو تمّ ما ذکره قدس سره فإنّه لا یوجب تقدّم المعنی علی علّته بثلاث رتب، بل برتبتین، کما لا یخفی، وإن کان المحذور مشکوک الورود علی التقدیرین.
وخامساً: أنـّه یمکن أن یقال ـ من قِبَل المحقّق النائینی قدس سره ـ : إنّ الحروف لا توجد الربط بین المعنیین، وإنّما شأنها إیقاع الربط بین أجزاء الکلام، فالهیئة ـ مثلاً ـ تُوقع الربط بین أجزاء الکلام، فتکون متأخّرة عن أجزاء الکلام، والارتباط من أوصافه.
وبالجملة: الباب باب إیقاع الربط بین الجزئین، فالحرف متأخّر عنهما، یوقع الربط بینهما، من دون أن یقع فی رتبة المعنی.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 131