ذکر وتعقیب
ثم إنّ المحقّق العراقی قدس سره تصوّر نحوین للوضع والموضوع له العامّین:
النحو الأولّ: وحاصل ما ذکره فی ذلک: هو أنـّه عبارة عن تصوّر الواضع معنیً وحدانیّاً مُنتزعاً من اُمور مختلفة ذاتاً أو عرضاً تشترک فیه، کمفهوم الإنسان، ثمّ وضعه اللّفظ: إمّا للماهیّة المتقیّدة بالإطلاق والسریان ـ أی الماهیّة بشرط شیءٍ ـ وهی الماهیّة المقیّدة بالشیوع والسریان، أو للماهیّة اللابشرط القسمی، وهو الجامع بین الشیوع البدلی والسریانی، أو للماهیّة المهملة؛ أی الماهیّة اللابشرط المقسمی.
والحقّ هو الأخیر.
وعلی الأوّل: حیث یکون الموضوع له ماهیّة مشروطة بالسریان، یکون استعماله فی بعض أفراده مجازاً مُرسلاً؛ لکونه بعض ما وضع له، بخلاف الثالث،
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 96
فلا یکون الاستعمال مجازیّاً، ولکن یحتاج إحراز السریان والشیوع إلی مُقدمات الحکمة، وکلّ من القسمین الأوّلین ـ الماهیّة المُقیّدة بالسریان، والماهیّة اللابشرط القسمی ـ یحتمل أن یکون مُراد المشهور منه الوضع والموضوع له العامّین.
وفیه: أنّ المراد بالطبیعة المُقیّدة بالسریان والشیوع ـ التی هی موضوع اللّفظ ـ: إمّا الموجودة فی الخارج، أو فی الذهن.
أمّا علی الأوّل فظاهر أنّ الطبیعة بقید السریان لا وجود لها فی الخارج، وما یکون موجوداً فی الخارج هو نفس الطبیعة.
وعلی الثانی یکون الموضوع له الطبیعة العقلیّة، وواضح أنـّها لا توجد فی الخارج، وما یوجد فی الخارج هو نفس الطبیعة، لا الطبیعة المقیّدة بالسریان، فإذن حمل کلام الأساطین علی أمر ممتنع لا وجه له، ولم أجد فی کلام أحد علی ما أظن تفسیره به.
وأمّا احتمال أن یکون مُراد المشهور الماهیّة اللابشرط القسمی، فسیظهر لک فی محلّه ـ إن شاء الله ـ أنـّه أیضاً غیر مُراد لهم، بل الذی یدّل علیه مقال المشهور فی الوضع والموضوع له العامّین هو المعنی الثالث ـ أی الماهیّة المهملة ـ کما لا یخفی، فلاحظ مقالهم.
النحو الثانی: هو عبارة عن تصوّر الجامع بین الأفراد الموجودة المختلفة الممتزجة بالخصوصیّات المفرِّدة.
وحاصل ما ذکره فی توضیح ذلک: هو أنّ الحقّ أنّ الوجود أصیل، والماهیّة اعتباریّة، ومعنی أصالة الوجود هو أنّ الحقیقة ذات الأثر هو الوجود، وهو ذو مراتب
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 97
لا تکاد تتناهی قوّة وضعفاً، ومعنی اعتباریّة الماهیّة: هو أنـّها أمر انتزاعیّ ینتزعه العقل من کلّ مرتبة من تلک المراتب.
مثلاً: الوجود یسیر فی الجوهر المحسوس، فیتکوّن الجسم قبل أن یصل سیره إلی النموّ، وینتزع العقل من مقدار ذلک الوجود المحدود بعدم النموّ، أنـّه جسم جامد، وإذا سار الموجود، واستکمل مرتبة النموّ فقط، انتزع العقل من هذه المرتبة عنواناً خاصّاً بها یُسمّی النبات، وهکذا کلّما سار الوجود وترقّی من مرتبة إلی مرتبة أعلی وأکمل من الاُولی، انتزع العقل من تلک المرتبة عنواناً خاصّاً بها یسمّی باسم من أسماء الماهیّات المعروفة، فالحقیقة ذات الأثر هو الوجود، والماهیّة عنوان یُشار به إلی مرتبة ذلک الوجود، لا أنـّها شیء فی قبال الوجود.
وبهذا اتّضح لک معنی الکلی الطبیعی، وأنـّه هو العنوان المُنتزع من مرتبة خاصّة من الوجود السِّعیّ، المتحقّق فی ضمن الوجودات الشخصیّة المقترنة بالمُشخّصات الجزئیّة، ومنشأ انتزاع الکلی الطبیعی هو الموجود فی الخارج، ویکون له إضافة إلی کلّ فرد من الأفراد والخصوصیّات الخارجیّة، وباعتبار کلٍّ من الخصوصیّات یُقال له: الحصص، مثلاً بالإضافة إلی خصوصیّة الزیدیّة والعمریّة وغیرهما، حصّة من الطبیعی، فنسبة الإنسان إلی أفراده نسبة أب واحد إلی أولاده الکثیرین.
وبالجملة: لنا شیئان فی الخارج:
1 ـ الطبیعة المنقطعة الإضافة عن الخصوصیّات الفردیّة، وهی تکون منشأ انتزاع الکلی الطبیعی، وتکون نسبته إلی أفراده نسبة الأب الواحد إلی الولد الواحد.
2 ـ الطبیعة المضافة إلی الخصوصیّات الفردیّة، وبهذا تکون منشأ لانتزاع الحصّة، وتکون نسبته إلی الحصّة نسبة الآباء المتعدّدة إلی الأبناء المتعدّدین، وهذا هو المراد من الکلمة الدارجة بین أهل الفنّ من «أنّ نسبة الطبیعی إلی الأفراد نسبة الآباء
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 98
إلی الأبناء، لا نسبة الأب الواحد إلی أولاده الکثیرین»، فنسبةُ کلّ حصّة إلی الفرد الذی یُنتزع منه، نسبةُ الأب الواحد إلی الولد الواحد.
ولا یخفی أنـّه علی هذا لا یلزم أن لا یکون الفرد فرداً للطبیعی، بل فرداً للحصّة؛ حتّی یقال: کیف یکون کذلک مع أنّ الفرد فرد للطبیعی، والطبیعی لا ینطبق إلاّ علی فرده؟! ومحال أن یصدق وینطبق مفهوم علی موجود خارجیّ مع عدم احتواء المصداق علی المعنی الصادق علیه، وإذا استلزم الصدقُ تحقّقَ المعنی الصادق فی وجود المصداق، لزم تحقّق الطبیعی فی ضمن الفرد، فتکون نسبة الطبیعی إلی أفراده نسبة الأب الواحد إلی أولاده الکثیرین؛ وذلک لأنـّه لا معنی لأن یقال: هذا فرد لحصّة من الطبیعی؛ لأنّ الوجود الشخصی إنّما یکون فرداً للطبیعی باعتبار احتوائه علی حصّة من الطبیعی، فإذا کان مصحِّحُ الفردیّة احتواءه علی حصّة من الطبیعی، فکیف یُعقل أن یکون فرداً لنفس تلک الحصّة؟! وإلاّ لزم أحد المحذورین: إمّا التسلسل أو کون الوجود الخاصّ فرداً لمعنیً بلا مصحِّح للفردیّة، فصدق الطبیعی علی أحد أفراده فی عرض صدقه علی سائر الأفراد؛ لأنّ مُصحِّح الصدق فی جمیعها واحد، وهو احتواء الوجود علی مطابق ذلک الطبیعی المنتزع منه، وتکون نسبةُ الطبیعی إلی الأفراد ـ بلحاظ ذلک المصحِّح ـ نسبة الأب الواحد إلی الولد الواحد.
إذا عرفت ذلک فاعلم: أنـّه إذا لاحظنا کلّ مرتبة من مراتب الوجود السعیّ بآثارها وحدودها ـ مع قطع النظر عن اقترانها بالمشخِّصات الخارجیّة ـ یمکن انتزاع عنوان خاصّ بتلک المرتبة، ویعبّرعنه بالکلّی الطبیعی، وهیطریقة المشهور فی تصوّره.
وأمّا إذا لاحظنا کلّ مرتبة من ذلک؛ بما أنـّها ساریة فی الوجودات الشخصیّة واقترانها بالمشخصّات الجزئیّة، فمطابق هذا العنوان ـ المسمّی بالکلّی الطبیعی ـ یکون
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 99
ساریّاً فی الوجودات الشخصیّة أیضاً.
فتحصّل: أنـّه یمکن ملاحظة تلک المرتبة من الوجود السِّعیّ فی حال سریانها فی الوجودات الشخصیّة وتعانقها بالمشخّصات الجزئیّة؛ بحصول تلک المرتبة فی الذهن مع ما یلزمها من المشخِّصات التفصیلیّة، فیوضع اللّفظ لها.
ولا یتوجّه علی ما ذکرنا: من استلزام تصوّر المرتبة المتعانقة مع الخصوصیّات أن تتصوّر الوجودات الجزئیّة التی لا نهایة لها؛ وذلک لأنـّه یلزم ذلک فی کلّ مسألة بُنی الحکم فیها علی ما لا نهایة له، کالقضیّة الحقیقیّة، التی یکون العنوان فیها مرآة لملاحظة تلک المرتبة؛ من الوجود السِّعیّ وما سری فیه من الأفراد.
أقول: یستفاد من مقالته: أنّ المفهوم الواحد الانتزاعی لابدّ وأن ینتزع من موجود واحد خارجیّ، ولا یمکن أن ینتزع من اثنین بما هما اثنان، فعلی مقالته یلزم أن یکون لانتزاع مفهوم الإنسان ـ مثلاً ـ من منشأ انتزاع واحد موجود فی الخارج.
وقد یقال انتصاراً لمقالته: إنّ العلّتین المستقلّتین إذا تواردتا علی معلولٍ واحد لا یمکن استناد الأثر الواحد إلی کلّ واحد منهما مستقلاً، بل ینسب إلی الجامع بینهما؛ حذراً من صدور الواحد من الکثیر، ویمثَّل لذلک بأمثلة عرفیّة، مثل: أنّ کلاً من الرمحین إذا ورد علی قلب شخص یکون سبباً لهلاکه، فإذا وردا معاً یستند الهلاک إلی الجامع بینهما.
ومثل: أنـّه إذا قدر کلّ واحد من الرجال علی رفع حجرٍ، فإذا اجتمعوا لرفعه فالعلّة مجموعهم... إلی غیر ذلک من الأمثلة العرفیّة.
وبالجملة: علی مبناه لا یمکن انتزاع مفهوم واحد من الکثرات، بل لابدّ وأن ینتزع من الجامع بین الأفراد الموجودة فی الخارج.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 100
لکن یتوجّه علیه ـ بعد إیکال أمر أصالة الوجود واعتباریة الماهیّة إلی فنّه وأهله ـ أنّ النزاع المعروف بین الحکماء ـ القائلین: بأنّ الطبیعی یتکثّر بتکثّر الأفراد، وأنّ نسبة الطبیعی إلی أفراده نسبة الآباء إلی الأولاد، وبین الحکیم الذی رآه الشیخ الرئیس رحمه الله فی بلدة هَمَدان القائل: بعدم تکثّر الطبیعة فی الخارج، وإنّما الموجود منها فی الخارج جامع وحدانی یکون منشأً لانتزاع الکلی والطبیعی، وأنّ نسبة الطبیعی إلی أفراده نسبة أب واحد إلی أولاد متکثّرة لیس نزاعاً لفظیّاً، بل نزاعاً معنویّاً حقیقیّاً، یفرّون الحکماء ـ وفی طلیعتهم الشیخ الرئیس ـ عن مقالته، ویرون أنّ الالتزام بمقالته یستلزم محالات، مثل أنـّه لو کان الطبیعی واحداً فی الخارج یلزم أن یتخلّل العدم بین الشیء ونفسه، وأنـّه لو کان موجوداً فی الخارج لکان واحداً شخصیّاً، لا طبیعة واحدة، والطبیعة فی حدّ ذاتها غیر مقیّدة بالوحدة والکثرة، فاتّصافها بالوحدة فی قولهم: «طبیعة واحدة» لم یُرد بها الوحدة الشخصیّة، بل المراد الوحدة النوعیّة، یقال ذلک قبال الطبائع الاُخر.
فإذاً الطبیعی موجود فی الخارج بوجود الفرد، ومتکثّر بتکثّر أفراده، ولذا یقال: الحقّ أنّ وجود الطبیعی بمعنی وجود أفراده.
ولا یکاد ینتزع الجامع من الأفراد الخارجیّة؛ لعدم نیل الذهن للخارج، ومعنی تعقّل الجامع وتصویره: هو أنّ النفس تتصوّر مفهوماً من زید الموجود فی الخارج ـ مثلاً ـ ولها أن تجرّد ذلک المفهوم عن الخصوصیّات، ثمّ إذا لاحظت عمراً تأخذ منه أیضاً مفهوماً، فإذا جرّدته عن الخصوصیّات تری أنّ المفهوم من عمرو ـ بعد التجریدـ
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 101
عین ما فهمته من زید بعد التجرید، وهکذا بالنسبة إلی سائر الأفراد، فتری أنّ الجامع بین الأفراد هو طبیعة الإنسانیّة، وهی الموجودة فی الذهن، والوحدة النوعیّة فی صُقع الذهن لا تنافی الکثرة العددیّة فی ظرف الخارج.
فإذاً للماهیّة والطبیعة نشأتان:
1 ـ نشأة عقلیة ذهنیّة هی نشأة الوحدة النوعیّة.
2 ـ نشأة خارجیّة هی نشأة الکثرة والتعدّد.
وإجمال المقال: هو أنّ الشیخ الرئیس رحمه الله بعد أن رأی مقالة الحکیم الهمدانی کتب رسالة فی الردّ علی مقالته، وقال: إنّ إنسانیّة زید ـ مثلاً ـ غیر إنسانیّة عمرو، ولا معنی لوجود الجامع فی الخارج؛ لوضوح أنّ الوجود مساوق للتشخّص والجزئیّة، فإذا کان الجامع بما هو جامع فی الخارج، یلزم أن یکون جمیع الأفراد إنساناً واحداً، وهو باطل.
ومعنی کون طبیعة الإنسان کلّیّة أنـّها غیر مرهونة بالکلّیّة والجزئیّة، فتصدق علی أفرادها. فلیس معنی قولهم: إنّ نسبة الطبیعی إلی أفراده نسبة الآباء إلی الأبناء، أنـّه معنیً واحد فی الخارج کذلک، بل معناه أنّ الطبیعی الملحوظ فی الذهن مجرّداً عن الخصوصیّات إذا وجد فی الخارج یتکثّر بتکثّر الأفراد ویکون کلّ فرد منها مشتمل علی تمام الطبیعة فیتحقّق فی کلّ فرد الطبیعی بتمام ذاته .
إذا تمهّد لک ما ذکرنا، فنقول: إنّ هذا المحقّق وإن قال: بأنّ الحصص متکثّرة الوجود ـ وهی غیر مقالة الرجل الهمدانی ـ إلاّ أنّ التزامه بالجامع الموجود فی الخارج بالوجود السِّعی، یکون من قبیل الفرار من المطر إلی المیزاب، وینطبق علی ما قاله الهمدانی، القائل بوجود الطبیعی فی الخارج بالوحدة العددیّة.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 102
فما توهمّه: من أنّ الشیء الواحد لا ینتزع من الکثیر بما هو کثیر، فلابدّ من وجود جامع فی الخارج.
مدفوع: بما أشرنا إلیه: من أنّ الذهن لا ینتقل إلی الخارج، ولا ینتقل الموجود الخارجی إلی الذهن، بل للماهیّة فی الخارج کثرة حقیقیّة عددیّة، وللعقل أن ینتزع من کلّ واحد من الکثرات الموجودة فی الخارج مفهوماً، ثمّ یجرده عن الخصوصیّات، فیری أنّ المفهوم من زید المجرّد عن الخصوصیّات، غیر المفهوم من عمرو بعد التجرید... وهکذا، فلم یکن للجامع بما هو جامع وجود خارجیّ مصبّ للکثرة.
وأظنّ أنّ محطّ البحث بین الشیخ الرئیس رحمه الله وبین الحکیم الهمدانی، غیر منقّح عند هذا المحقّق، والله العالم.
وأمّا حدیث أنّ العلّة فی توارد العلّتین علی أمر واحد هو الجامع، فتنقیح المسألة موکول إلی محلّه، ولیعلم أنّ الأمر لیس کما توهّم؛ لأنّ العلّة فی الأمثلة الجزئیّة لم تکن الجامع؛ لأنّ العلّة فی هلاک الشخص ـ عند توارد السهمین علی قلبه ـ هی خروج مقدار من الدم، وفی رفع الحجر هی القوّة الکذائیّة... إلی غیر ذلک.
ثمّ یرد علی قوله: إنّ الملحوظ الطبیعة الساریة فی الخارج.
أنّ اللّفظ إمّا یوضع لنفس الطبیعة الساریة بحسب الوجود، أو الطبیعة المضافة إلی هذا أو ذاک، أو یوضع لنفس الطبیعة.
فعلی الأوّل: یکون الموضوع له خاصّاً؛ لأنـّه لا یکون قابلاً للصدق علی الکثیرین.
وعلی الثانی: یکون الوضع والموضوع له عامّین، ومجرّد تصوّر أمر عند لحاظ معنیً عامّ لا یوجب أن یکون اللّفظ موضوعاً له أیضاً.
فإذا تصوّر عند لحاظ مفهوم کلی صورة دار ـ مثلاً ـ ووضع اللّفظ لذاک المفهوم، لا یدلّ اللّفظ الموضوع لذلک علی صورة الدار أیضاً.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 103
والسرّ فی ذلک: هو أنـّه بعدما لم تکن دلالة الألفاظ علی معانیها ذاتیّة، فلابدّ وأن یکون لإحضار اللّفظ معنیً بأحد وجهین: إمّا أن یکون المعنی موضوعاً له اللّفظ، أو لازماً بیّناً للموضوع له؛ بحیث ینتقل الذهن من اللّفظ إلی المعنی الموضوع له، ثمّ ینتقل الذهن من المعنی الموضوع له إلی اللازم، کلفظة النار حیث إنّها وضعت لموجود معروف، وحیث إنّ بین النار والحرارة تلازماً، تحضر الحرارة فی الذهن عند إلقاء لفظة النار، فیعدّ هذا أیضاً من دلالة الألفاظ، علی إشکال ذکرناه فی محلّه: أنـّه فی الحقیقة من دلالة المعنی علی المعنی، لا من دلالة الألفاظ.
وفی غیر ذینک الوجهین لا یُحضِر اللّفظُ المعنی؛ ولو کان بین المعنی الموضوع له وذلک المعنی تلازم خارجیّ، کالتلازم بین الإنسان وبین قابلیّته للصنعة والکتابة، أو التلازم بین زاویتین قائمتین وبین الزوایا الثلاث للمثلّث؛ حیث إنّ التلازم فی الموردین ـ مثلاً ـ إنّما هو واقعیّ وخارجیّ لا ذهنیّ؛ لأنـّه یحتاج فی إحضار طبیعة الإنسان لقابلیّة الصنعة والکتابة، إلی استقراء وتتبّع فی أفراد هذه الطبیعة، وفی إحضار الزاویتین للزوایا إلی إقامة برهان هندسیّ علیه. ومن الواضح أنّ للماهیّة ـ فی وجودها الخارجی ـ سعة وجودیّة متعانقة مع الخصوصیّات،سواء علم بها أو لا، ولم یکن بین الماهیّة وخصوصیّاتها تلازم ذهنیّ، ومجرّد لحاظ الخصوصیّات لا یوجب أن تکون موضوعة لها، فبإلقاء اللّفظ لا تحضر الماهیّة المعتنقة مع الخصوصیّات، وإنّما یحضر نفس المعنی والطبیعة.
والحاصل: أنـّه إذاوضع اللّفظ للطبیعة المضافة یکون الوضع والموضوع له خاصّین، وإن لوحظ السریان حال الوضع لنفس الطبیعة، ووُضع اللّفظ لنفس الطبیعة، فلا یُحضِرها إلاّ إذا کان بینهما تلازم بیِّن بالمعنی الأخصّ، وواضح أنـّه لم یکن التلازم بینهما کذلک، بل الموجود بینهما هو التلازم بحسب الوجود والخارج فتدبّر.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 104