ذکر وتعقیب
تصدّی المحقّق العراقی قدس سره علی ما فی تقریر بحثه لدفع هذا الإشکال، فإنّه بعد أن ذکر: أنّ حقیقة کون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً عبارة عن تصوّر الواضع ـ حین إرادته الوضع ـ معنیً عامّاً ـ أی معنیً لا یمتنع فرض صدقه علی کثیرین ـ ثمّ یضع اللّفظ بـإزاء أفراد ذلک العامّ ومصادیقه.
قال ما حاصله: إنّ العناوین العامّة المُنتزعة علی أنواع:
فمنها: عنوان ینتزع من جهة ذاتیّة مشترکة بین الأفراد المتّحدة وجوداً معها، کعنوان الإنسان المنتزع عن الجامع الذاتی المشترک بین أفراده، کزید وعمرو وبکر... وهکذا، المتّحد معها وجوداً.
ومنها: عنوان ینتزع من جهة خارجة عن ذات الأفراد وذاتیّاتها؛ سواء کان لها ما بحذاء فی الخارج کالأبیض؛ حیث إنّه ینتزع عنوان الأبیض من البیاض الموجود فی الجسم، أو لم یکن کذلک کالممکن؛ حیث إنّه ینتزع عنوان الإمکان ولم یکن له مابحذاء فی الخارج.
ولا یخفی أنـّه فی هذین النوعین لا یحکی شیء منهما عن خصوصیّات الأفراد، بل مُتمحّضان للحکایة عن الجامع الساری فی الأفراد.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 90
ومنها: عنوان یحکی عن الخصوصیّات:
وهو تارة یحکی عن جهات قلیلة، کعنوان الشخص والفرد؛ حیث یحکی عن بعض الجهات، ویُسمّی هذا بالعنوان الإجمالی.
واُخری عن جهات کثیرة، کعنوان الشبح لما یتراءی من بعید، ویُسمّی هذا بالعنوان المُبهم.
والفرق بین العنوان الثالث والعنوانین الأوّلین من وجهین:
الأوّل: أنّ العنوان الثالث یحکی عن الخصوصیّات الفردیّة بالإجمال والإهمال، ولذا لو تصوّرنا فرداً مُبهماً بتوسّط هذا العنوان، ثمّ انکشف الفرد المُبهم، لوجدنا ذلک العنوان المُبهم مُنطبقاً علیه، انطباق العنوان التفصیلی الجامع لخصوصیّات الفرد علیه، بخلاف العنوانین الأوّلین؛ إذ هما لا یحکیان عن الفرد بما هو علیه من الخصوصیّات، بل یحکیان عن معنونهما الموجود فی الفرد.
ویتفرّع علی هذا: صحّة التقرّب بالخصوصیّات الفردیّة و تعلّق الأمر بشیء بعنوان مُبهم، کما لو قال: «صلّ فی أحد هذه المساجد»، فإنّه یصح أن یتقرّب المُکلّف بـإتیان الصلاة فی مسجد مُعیّن بخصوصه، بخلاف ما لو تعلّق الأمر بها مطلقة؛ بأن قال: «صل»، فإنّه لا یصح منه التقرّب بخصوصیّة المکان الذی توقع الصلاة فیه؛ لعدم تعلّق الأمر به تفصیلاً أو إجمالاً، کما هو شأن العنوانین.
والثانی: هو أنّ العنوانین ینتزعان من الموجود الخارجی بما أنـّه مُشتمل علی مطابق ذلک العنوان، بخلاف العنوان الثالث فإنّه من أنحاء المعانی الاختراعیّة التی تُنشئها النفس، وتشیر إلی بعض الوجودات الخاصّة الخارجیّة.
إذا عرفت حال هذه العناوین اتّضح لک: أنـّه لا یمکن تصویر الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ بأحد العنوانین الأوّلین: لعدم حکایة شیء منهما ـ ولو بنحو الإجمال ـ عن خصوصیّات الموضوع له لیتمکّن من الوضع له بعد تصوّره، نعم یتأتی
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 91
ذلک للواضع بنحو العنوان الُمجمل أو المُبهم الُمخترع للنفس، المُطابق لما تحاول الحکایة به عن الاُمور الخاصّة بما هی خاصّة ولو إجمالاً .
وفیه أوّلاً: أنّ عدّ النوع الثالث عنواناً اختراعیّاً قبال العنوانین الأوّلین ـ حیث یکونان منتزعین: إمّا من جهة ذاتیّة مُشترکة بین ذوات الأفراد، أو جهة خارجة عن ذواتها ـ لا یلائم ما صرّح به فی صدر کلامه؛ حیث قال: إنّ العناوین المُنتزعة علی أنواع.
وثانیاً: أنّ تصویر الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ بالعنوان المبهم الاختراعی، فرار عن عنوان البحث الذی ذکره أساطین الفنّ، وما فسّره قدس سره به؛ وذلک لأنّ عنوان البحث: هو أن یتصوّر الواضع حین الوضع معنیً لا یمتنع صدقه علی کثیرین، ثمّ یضع اللّفظ بـإزاء مصادیق ذلک المعنی، ومن الواضح أنّ اختراع العنوان المُبهم المُشار به إلی بعض الوجودات غیر العنوان الکلی ومصادیقه، فإن تمّ الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ باختراع العنوان المشیر، فهو شیء آخر غیر عنوان البحث الذی صرّح به أساطین الفن، وهذا المحقّق، کما لا یخفی، فتدبّر.
وثالثاً: أنّ عنوان الشخص أو الفرد أو الشبح من العناوین المُنتزعة، لاالعناوین الُمخترعة، والأولی أن یمثّل لذلک بلفظ «کلّ»؛ حیث یدلّ علی الکثرة الإجمالیّة، ولا یخفی أنّ هذا مناقشة فی المثال.
ورابعاً: أنـّه قدس سره مثّل للعنوان الإجمالی بالشخص أو الفرد، وللعنوان المُبهم بالشبح، ولا یخفی أنـّه معنیً واحد، فیصدق عنوان الشبح ـ مثلاً ـ علی هذا الشخص وذاک الشخص... وهکذا، وهذا العنوان إمّا یُشیر إلی الجامع بین الأفراد أو إلی الخصوصیّات، فعلی الأوّل یلزم کون الوضع والموضوع له عامّاً، وعلی الثانی یستحیل
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 92
الوضع کذلک، ومجرّد کونه عنواناً اختراعیّاً لا یصحّحه؛ لأنّ ملاک عدم الجواز هو عدم حکایة العامّ بما هو عامّ عن الخصوصیّات، والعنوان الاختراعی والانتزاعی فی هذا سیّان.
وبالجملة: لو کان العنوان المُشیر عنواناً واحداً اختراعیّاً جامعاً للأفراد، فلا یمکن أن یشیر إلی الخصوصیّات الفردیّة، وإن أمکن ذلک فلیجز فی الانتزاعیّات أیضاً، فالتفرقة بین العنوان الاختراعی والانتزاعی؛ بالجواز فی الأوّل دون الثانی لا یرجع إلی محصّل.
فتحصّل ممّا ذکرنا بطوله: أنّ المشهور قائلون بـإمکان تصویر الوضع العامّ والموضع له الخاصّ.
ودلیلهم: أنّ العامّ وجه للخاصّ وتصویر الشیء بوجه یکفی لوضع اللّفظ له.
واُشکل علیهم: أنـّه غیر تام، ولو تمّ فلیجز فی عکسه، وهو کون الوضع خاصّاً والموضوع له عامّاً، وما تکلّف به المحقّق العراقی قدس سره لدفع الإشکال، لا یُسمن ولا یُغنی شیئاً.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 93