الجهة الثالثة : فی أثر الوضع
هل الواضع بوضعه اللّفظَ للمعنی یوجِد صفة حقیقیّة للّفظ، أو أمراً قائماً بنفس اعتبار الواضع، أو شیئاً ثالثاً متوسّطاً بینهما؟ وجوه:
قد عرفت فی الجهة السابقة: أنّ الوضع عبارة عن جعل لفظٍ علامةً للمعنی،
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 85
ومن الواضح أنـّه لا یحصل للّفظ بوضع الواضع صفة حقیقیّة خارجیّة له، نظیر عروض اللون للجسم، کما تقدّم، کما أنـّه لا یکون أمراً متقوّماً باعتبار المُعتبر وجوداً وعدماً؛ أی لا یکون الوضع أمراً ذهنیّاً قائماً باعتبار المُعتبر فقط؛ بداهة أنـّه یلزم علی هذا أن تنعدم صفه اللّفظ فی صورة غفلة الواضع عن الاعتبار، وفی صورة موته، والوجدان بخلافه، بل العقلاء یرون فی صورة غفلة الواضع أو موته أنّ اللّفظ لفظ المعنی، والمعنی معنی اللّفظ، فکأنـّهم یرون أنـّه صفة خارجیّة له، ولکن لا کعروض اللون علی الجسم، بل بنحو آخر؛ لأنّ بالوضع تحصل حالة اعتباریّة للّفظ، والأمر الاعتباری أمر متوسّط بین اللحاظ الذهنیّ الصِّرف والصفة الخارجیّة.
وذلک لأنّ العقلاء یعتبرون اُموراً دارجة بینهم ـ من غیر فرق بین کونهم منتحلین لنحلة أو شریعة، أو لا ـ کالملکیّة، والزوجیّة، والولایة، والحکومة، والاعتبارات الدارجة بین أفراد الجیش؛ من کون بعضهم جندیّاً، والآخر ضابطاً، وثالث قائداً... إلی غیر ذلک، ویرون تلک الاُمور اُموراً متحقّقة فی الخارج، ولکن فی عالم الاعتبار، ومعنی وجود الشیء اعتباراً أنـّه قائم بیدِ مَن بیده الاعتبار، ویکون زمام أمره بیده، مثلاً: إذا جعل الشارعُ الفقیهَ الجامع للشرائط والیاً وحاکماً، تری الاُمّةُ الإسلامیّة أنـّه له الحکومة والولایة علی الناس من قِبَل الشارع، وتری الولایة والحکومة أمراً ثابتاً له فی الخارج والفقیه حاکماً، لا بمعنی أنّ الحکومة أمر واقع فی الخارج، واتّصف الفقیه بها واقعاً، بل اتّصف بالحکومة، والحکومة أمر جعلیّ اعتباریّ له، ومعنی اعتباریّتها أنـّها بید الشارع، فمتی اعتبرها تکن باقیة، ومتی لم یعتبرها تکن زائلة.
فظهر ممّا ذکرناه: أنّ لدینا اُموراً ثلاثة:
أحدها: ما یکون له تحقّق ووجود فی الخارج حقیقة وواقعاً، کالأعیان الموجودة فی الخارج.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 86
ثانیها: ما لا تحقّق له فی الخارج أصلاً، وإنّما هو قائم بنفس اعتبار المعتبر، کتخیّل الأنیاب للغُول، ونتائج الأقیسة المبتنیة علی الفرض، أو کون مقدّماتها کاذبة.
ثالثها: ما لا یکون له تحقّق فی الخارج، إلاّ أنـّه صفة اعتباریة عند العقلاء، فإذاً الأمر الاعتباری أمر متوسّط وبرزخ بین القسمین، ووضع اللّفظ للمعنی من هذا القبیل، فمن کان له نحو اختصاص بالموضوع له إمّا لکونه مُخترعاً له أو مُصنِّفاً ومُؤلّفاً لکتاب، أو مُؤسِّساً لأساس، أو له نفوذ وتأثیر فی المجتمع ونحو ذلک، فله أن یضع لفظاً لمعنیً، فبوضعه أوجد حقیقة اعتباریّة عقلائیّة فی الخارج، فیتّبعونه فی التسمیّة، فکلّما یریدون إحضار ذلک المعنی فی ذهن أحد یعبّرون عنه بتلک اللّفظة.
فظهر: أنّ الأمر الاعتباری لیس اعتباراً صِرفاً قائماً بنفس المُعتبر؛ حتیّ ینعدم بموته، ولا أمراً واقعیّاً خارجیّاً، نظیر لون الجسم، بل أمراً برزخاً بینهما، وهو أمر حقیقیّ اعتباریّ یعتبره العقلاء.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 87