الجهة الثانیة فی حقیقة الوضع
قد ظهر لک فی الجهة السابقة: أنـّه لم یکن بین اللّفظ والمعنی قبل الوضع رابطة وخصوصیّة، فهل تکون بعد الوضع رابطة واقعیّة بینهما؛ بحیث تتحقّق بینهما ملازمة واقعیّة، نظیر لازم الماهیّة؛ بحیث لا یکون بینها وبین لازم الماهیّة فرق، إلاّ من جهة أنّ لازم الماهیّة ذاتیّ، وما بین اللّفظ ومعناه جعلیّ، أو لا تکون بعد الوضع أیضاً رابطة وخصوصیّة بینهما، ولا یمسّ الوضعُ کرامةَ الواقع؟ وجهان، بل قولان.
یظهر من المحقّق العراقی قدس سره: أنـّه یتحقّق الربط بین اللّفظ والمعنی بعد الوضع له، أو بعد کثرة الاستعمال الموجبة له، نحو تحقّق الملازمة بین الماهیّتین المتلازمتین وإن لم یوجد شیء منهما فی الخارج، کالحرارة اللازمة لماهیّة النار فی الواقع وإن لم توجد فی الخارج نار، والزوجیّة اللازمة لماهیّة الأربعة، فکما أنّ العاقل إذا تصوّر النار والحرارة أو الزوجیّة والأربعة، حکم بالملازمة بینهما فعلاً وإن جزم فعلاً بعدمهما فی الخارج، فکذلک الربط الوضعی بین اللّفظ والمعنی فی ذهن العالم بالوضع، فإنّ المُلتفت إلی الوضع یحکم فعلاً بهذه الملازمة عند تصوّر اللّفظ والمعنی وإن لم یوجد لفظ فی الخارج، غایة الأمر أنّ الملازمة الاُولی ذاتیّة، والملازمة الوضعیّة جعلیّة، وجعلیّتها لاتُنافی تحقّقها فی لوح الواقع، کما أنّ جمیع العلوم الُمخترعة ـ بعد جعلها واختراعها ـ کذلک وإن لم یوجد فی الخارج مَن یعلم شیئاً منها؛ لأنّ نظر من یحیط بها علماً ـ أو بشیء منها ـ طریق إلیه، لا محقّق وجاعل له بعد أن لم یکن.
وبهذا ظهر لک: أنّ الربط الوضعی بعد جعله لیس من منشآت نفس العالم به، ومن علومها الفعلیّة التی لا یکون لها تحقّق أصلاً قبل إنشاء النفس إیّاها، کأنیاب
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 80
الغول، أو یکون لها منشأ انتزاع، ولکن لیس لها وجود تفصیلاً، کالأجناس والفصول.
وبالجملة: وزان المُلازمة الوضعیّة بعد الجعل وزان لوازم الطبیعة، فما یجری فیها یجری فی الملازمة الوضعیّة أیضاً .
وفیه أوّلاً: أنـّه اشتبه علیه قدس سره لوازم الوجود بلوازم الماهیّة؛ لأنّ الحرارة من لوازم وجود النار خارجاً، لا من لوازم ماهیّته، وإلاّ یلزم أن توجد الحرارة فی الذهن عند وجود ماهیّة النار وتصوّرها، وهل یُعقل أن لا توجد النار فی الذهن، ولا فی الخارج، ومع ذلک تکون الحرارة موجودة؟!
ولا یخفی أنّ هذا مناقشة فی المثال.
وثانیاً: أنّ واقعیّة التلازم بواقعیّة المُتلازمین، فمع عدمهما لا تحقّق له.
وبعبارة اُخری: التلازم بین أمرین موجودین، فبانعدام أحدالطرفین کیف یُعقل أن یکون الربط والمعنی الحرفی موجوداً؟!
وثالثاً: أنـّه لو کان للتلازم بین الزوجیّة والأربعة تحقّق خارجیّ، یلزم وجود اُمور غیر متناهیّة مُترتّب بعضها علی بعض فی الخارج؛ بداهة أن لکلّ عدد من الأعداد ـ من حیث إضافة الصحاح علیه ونقص الکسور منه ـ مراتب غیر مُتناهیة؛ ضرورة أنّ لکلّ عددٍ نصفاً، ولنصفه نصفاً ... وهکذا، ولکلّ عدد مرتبة فوقه، وفوقها مرتبة ... إلی غیر النهایة، فلو کانت لهذه المُلازمات واقعیّات وتحقّق فی الخارج فعلاً، للزم تحقّق أعداد غیر متناهیّة ـ من حیث الکسر والصحاح ـ فی الخارج، وبرهان إبطال التسلسل یبطله.
والحقّ: أنّ الملازمة موجودة بتصوّر الأربعة مثلاً، وبمجرّد قطع التصوّر عنها تنعدم، وکذلک الحال فی الاُمور الاعتباریّة کالعلوم، فإنّه إذا انقرض البشر، وانعدمت
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 81
الکتب، لا تکون لها واقعیّة خارجیّة.
وبالجملة: العلوم وسائر الاُمور الاعتباریّة، لم یکن لها وجود وتحقّق إلاّ فی الأذهان والکتب، وبعد انعدامهما لا یبقی لها وجود فی الخارج.
فظهر: أنّ الأمر فی المقیس علیه من کلامه قدس سره لا یتمّ فما ظنّک فی المقیس، فتدبّر.
ورابعاً: أنـّه لو سُلِّم أنّ الأمر فی الماهیّات ولوازمها هو ما ذکره، لکن لا یتمّ فیما نحن فیه؛ ضرورة أنّ وضع لفظ لمعنیً لا یوجب له خاصّیّة واقعیّة بحیث لا یمکن رفعها، ولا یتصرّف الجعل فی الواقع؛ بحیث توجد خاصّیّة واقعیّة لم تکن قبل الوضع، ولعلّ إنکاره کاد أن یکون إنکاراً للضروری، فهل لا یمکن تغییر الرجل اسمه مثلاً، أو اسم من یتعلّق به بنحو من الأنحاء؟! وبعد تغییره هل یکون ذلک تصرّفاً فی التکوین والواقع؟! حاشا ثمّ حاشا.
وخامساً: أنـّه لو کان الأمر کما ذکره: من أنّ الوضع: عبارة عن جعل رابطة واقعیّة بین اللّفظ والمعنی، فیلزم أن یکون الواجب تعالی محلاًّ للحوادث، وذاته المقدّسة مُنفعلة من وضع الألفاظ لذاته، «ولله الأسماء الحسنیٰ»، فالواضع مُتصرف فی ذاته المقدسة تعالی الله عن ذلک عُلوّاً کبیراً.
وسادساً: أنـّه لو کانت الرابطة بین اللّفظ والمعنی موجودة، فلابدّ وأن تکون: إمّا فی الأذهان أو فی الکتب، ولم یکن لنا شیء ثالث فی الخارج، حتّی نسمّیه بلوح الواقع، فحدیث لوح الواقع لا محصّل له.
ثمّ إنّ ما یظهر من المحقّق الخراسانی قدس سره: من أنّ الوضع نحو اختصاص للّفظ بالمعنی وارتباط خاصّ بینهما.
غیر وجیه؛ لأنّ هذا الارتباط والاختصاص أمر مُترتّب علی الوضع وأثر له،
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 82
لا الوضع نفسه.
ثمّ إنّ شیخنا العلاّمة الحائری ـ وفاقاً للمحقّق الرشتیـ قال: إنّ الألفاظ لیست لها علاقة مع معانیها مع قطع النظر عن الوضع، وبه یوجد نحو ارتباط بینهما، ولا یُعقل جعل العلاقة بین الأمرین اللذین لا علاقة بینهما أصلاً، وإنّما المعقول تعهّد الواضع والتزامه، بأنـّه متی أراد معنیً وتعقّله، وأراد إفهام الغیر تکلّم بلفظ کذا، فإذا التفت المخاطب لهذا الالتزام ینتقل إلی ذلک المعنی عند استعمال ذلک اللّفظ فیه، فالعلاقة بین اللّفظ والمعنی تکون نتیجة لذلک الالتزام.
ثمّ قال قدس سره: ولیکن علی ذکر منک، ینفعک فی بعض المباحث الآتیة إن شاء الله . انتهی.
وفیه أوّلاً: أنـّه إنّما یتمّ إذا قلنا: بأنّ الوضع إیجاد عُلقة تکوینیّة بین اللّفظ والمعنی، وقد عرفت خلافه؛ لأنّ الحقّ ـ کما سنشیر إلیه ـ أنّ الوضع: عبارة عن جعل لفظٍ علامةً للمعنی، فکثیراً ما لا تلاحظ بین اللّفظ والمعنی مُناسبة، فتری أنـّه یوضع لفظ «بحر العلوم» ـ مثلاً ـ لمن لا علم له أصلاً، بل جاهل محض، وبعد وضعه له یتّبعه الناس فی التسمیة، إذا کان للواضع نفوذ وموقعیّة فی الأهل أو المجتمع، وهکذا ربّما یُوضع لفظ «عَلَم الهدی» لمن لا موقف له فی الهدایة، فضلاً عن أن یکون عَلَماً لها... وهکذا.
وثانیاً: أنـّه ربّما یکون الواضع غافلاً عن هذا التعهّد والالتزام، ومع ذلک تکون
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 83
دلالة اللّفظ علی معناه ثابتة .
وثالثاً: أنـّه ربّما یکون الواضع غیر المُستعمِل، بأن یضع اللّفظ لمعنیً لکی یستعمله غیره، ولم ینقدح فی ذهن المُستعمل تعهّد الواضع والتزامه، فحدیث التعهّد والالتزام کما تری.
فتحصّل: أنّ القول: بأنّ الوضع تعهّد الواضع والتزامه، کما یراه العلاّمة الحائری، وفاقاً للمحقّق الرشتی، أو القول: بأنـّه نحو اختصاص اللّفظ بالمعنی، کما یراه المحقّق الخراسانی قدس سره، أو الربط الواقعی بینهما، کما یراه المحقّق العراقی قدس سره، کلّها خارجة عن حریم وضع الألفاظ لمعانیها، وجُلّ ما ذُکر اُمور لاحقة للوضع؛ لأنّ الوضع ـ کما أشرنا ـ عبارة عن تعیین اللّفظ للمعنی وجعله علامة لها؛ من دون أن یتحقّق فی الخارج شیء من ربط وعلاقة واقعیّة بینهما، بل حال اللّفظ والمعنی بعد الوضع حالهما قبل الوضع، نعم یوجد بینهما ربط اعتباریّ.
وبالجملة: إذا کان للواضع نحو اختصاص بالموضوع له، کما إذا کان مُخترعه أو مصنّفه أو ولده، أو له نفوذ وموقعیّة فی الأهل والمجتمع... إلی غیر ذلک من المناسبات، فإذا وضع لفظ لمعنیً یتّبعونه فی التسمیة بتلک اللّفظة؛ من دون أن یتحقّق بینهما ربط واقعیّ، ولا فرق فی ذلک بین الأعلام الشخصیّة وأسماء الأجناس.
بقی فی المقام شیء ـ ربّما یختلج بالبال، بل ربّما قیل ـ: وهو أنـّه إذا کانت حقیقة الوضع عُلْقة اعتباریّة، ودائراً مدار الاعتبار، یلزم انعدام هذه العُلقة بانعدام المُعتبرین وانقراض الواضعین أو هلاک المستعملین، وهذا ممّا یأباه العقل السلیم والذوق المستقیم.
ولکن یمکن دفعه: بأنـّه یقبله العقل السلیم والذوق المستقیم بلا ریب، بل لابدّ
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 84
من الالتزام بذلک؛ ضرورة أنّ القوانین والأحکام المجعولة للزواج والملک والأنظمة وغیرها، باقیة ببقاء الاعتبار، فمع انعدام المُعتبرین ومناشئ اعتبارها لم یکن لها تحقّق، کما أنّ اللّغات والألسنة المتروکة البائد أهلها منقرضة معدومة، ولیس لها أثر فی الخارج والذهن، نعم القوانین العلمیّة التی لها موازین واقعیّة کشف عنها العلم، کقانون الجاذبة وأوزان الأجسام ومسیر النور... إلی غیر ذلک، لا تنعدم بانعدام المستکشفین، کما لم یکن وجودها رهن استکشافهم.
وبالجملة: فرق بین مثل قانون الجاذبة وبین الاُمور المجعولة، فقانون الجاذبة له واقع کُشف عنه أم لم یکشف، بخلاف المجعولات، کما لا یخفی علی الفطن.
ثمّ إنّه بعدما أحطّتَ خُبراً بما ذکرنا: من أنّ الوضع: عبارة عن جعل اللّفظ علامة للمعنی، یظهر لک أنـّه لا معنی لتقسیم الوضع إلی التعیینی والتعیّنی، بل له قسم واحد وهو الذی جعله الواضع علامة؛ لدوران الوضع مدار الجعل، وهو مفقود فی الوضع التعیّنی.
نعم، یمکن تقسیم الربط الاعتباری واختصاص اللّفظ بالمعنی؛ لأنّ الربط واختصاص اللّفظ بالمعنی: تارة یحصل بالوضع والتعیین واُخری بکثرة الاستعمال والتعیّن، فإذاً للارتباط والاختصاص سببان: إمّا الوضع، أو کثرة الاستعمال.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 85