الأمر الأوّل فی موضوع العلم

الجهة الرابعة فی موضوع علم الاُصول

الجهة الرابعة فی موضوع علم الاُصول

‏بعدما أحطت خُبراً بما ذکرنا عرفت : أنـّه لا دلیل علی لزوم وجود موضوع‏‎ ‎‏واحد لکلّ علم، وأمّا نفی وجود موضوع واحد عن کلّ علم فلا، فمن الممکن أن یکون‏‎ ‎‏لبعض العلوم موضوع واحد، فعلی هذا یقع البحث : فی أنـّه هل یکون لعلم اُصول‏‎ ‎‏الفقه أو علم اُصول الاستنباط موضوع واحد یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة أم لا؟‏

فنقول : ‏المشهور علی أنّ موضوع علم الاُصول الأدلّة الأربعة : ـ الکتاب‏‎ ‎‏العزیز، والسنّة، والعقل، والإجماع ـ بما هی أدلّة‏‎[1]‎‏، واختاره المحقّق القمی ‏‏قدس سره‏‎[2]‎‏، ولعلّ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 54
‏هذا هو مُراد الشافعی حیث یبحث فی رسالته عن حجیّة الحجج الشرعیّة.‏

فاُورد علیهم :

‏أولا : ‏‏بأنّ مقتضی ذلک خروج کثیر من المسائل المعنونة فی علم الاُصول من‏‎ ‎‏المسائل الاُصولیة، ودخولها فی المبادئ؛ لأنّ البحث فیها راجع إلی تعیین الحجّة، مثل‏‎ ‎‏أنّ الظاهر حجّة أم لا؟ وأنّ خبر الواحد حجّة أم لا؟ وأنّ الإجماع حجّة أم لا؟ وأنّ‏‎ ‎‏الشهرة حجّة أم لا؟ والبحث عن حجیّة الاُصول العملیّة، وعن الاستلزامات‏‎ ‎‏العقلیّة... إلی غیر ذلک من المباحث الراجعة إلی تعیین الحجّة، فتکون من المبادئ‏‎ ‎‏التصدیقیّة، وهو کما تری‏‎[3]‎‏.‏

نعم :‏ البحث عن مثل التعادل والترجیح ـ حیث یبحث فیه عن تقدّم إحدی‏‎ ‎‏الحجّتین علی الاُخری ـ من المسائل الاُصولیة‏‎[4]‎‏.‏

وبالجملة : ‏البحث عن العوارض بحث عن مفاد « کان » الناقصة، فلو کان‏‎ ‎‏موضوع علم الاُصول الأدلّة الأربعة بوصف دلیلیّتها، لزم أن یکون البحث عن حجّیّة‏‎ ‎‏الأدلّة الأربعة بحثاً عن وجود الحجّة التی هی مفاد «کان» التامّة، فیندرج البحث فیها‏‎ ‎‏فی المبادئ التصدیقیّة لعلم الاُصول، والالتزام بذلک کما تری.‏

وثانیاً : ‏أنّ موضوع أکثر تلک المباحث لم یکن خصوص الأدلّة الأربعة؛ وإن‏‎ ‎‏کان المهمّ معرفة أحوال خصوصها، فإنّ البحث عن حجّیّة الظاهر ـ مثلاً ـ هو أنـّه‏‎ ‎‏هل الظاهر حجّة مطلقاً ـ کان من الأدلّة أو غیرها ـ أم لا؟ والبحث عن خبر الثقة هو‏‎ ‎‏أنـّه هل خبر الثقة حجّة مطلقاً أم لا؟ وکذا سائر مباحث الألفاظ لم تکن مخصوصة‏‎ ‎‏بذوات الأدلّة بما هی أدلّة، بل هی مباحث کلّیّة، لا بما هی أدلّة، فتکون أبحاثها من‏‎ ‎‏عوارض ذلک الکلی، لا الأدلّة الأربعة‏‎[5]‎‏.‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 55
‏ولأجل توجّه الإشکال علی مقال المشهور عدل صاحب الفصول ‏‏قدس سره‏‏ عن‏‎ ‎‏مقالهم، وقال : إنّ موضوع علم الاُصول ذوات الأدلّة بما هی هی، فیکون البحث عن‏‎ ‎‏حجّیّة الأدلّة بحثاً عن عوارض الأدلّة، فیکون البحث فیها من المسائل الاُصولیة‏‎[6]‎‏.‏

‏ولا یخفی أنّ ما أفاده ‏‏قدس سره‏‏ وإن کان سلیماً عن الإشکال الأوّل؛ لأنّ البحث عن‏‎ ‎‏تلک المسائل علی هذا یکون بحثاً عن عوارض الأدلّة، إلاّ أنّ الإشکال الثانی وارد‏‎ ‎‏علیه؛ لعدم اختصاص تلک المباحث بالأدلة الأربعة، فیکون البحث حولها من‏‎ ‎‏عوارض ذلک الکلی.‏

‏ثمّ إنّه اُشکل علی مقال المشهور وظاهر ما فی «الفصول» بأنّ السنّة عبارة عن‏‎ ‎‏نفس قول المعصوم وفعله وتقریره، ومن الواضح أنّ البحث فی خبر الواحد وجملة من‏‎ ‎‏مسائل باب التعارض ـ مثلاً ـ لا یکون بحثاً عن عوارض الأدلّة؛ لا بما هی هی، ولابما‏‎ ‎‏هی أدلّة :‏

‏أمّا عدم کون البحث فیها عن الکتاب والإجماع والعقل فواضح، ولم یکن‏‎ ‎‏البحث فیها عن السنّة أیضاً؛ بداهة أنّ خبر الواحد أو أحد الخبرین المُتعارضین لیس‏‎ ‎‏نفسِ السنّة : حتّی یکون البحث عن عوارضها، بل حاک عن السنّة، فلا یرجع البحث‏‎ ‎‏فی حجّیة خبر الواحد، أو أحد الخبرین المتعارضین، إلی عوارض السنّة‏‎[7]‎‏.‏

‏تصدّی شیخنا الأعظم الأنصاری ‏‏قدس سره‏‏ لدفع الإشکال عن مقال المشهور : بأنـّه‏‎ ‎‏یمکن إرجاع البحث فی هاتین المسألتین وما شابههما، إلی البحث عن أحوال السنّة‏‎ ‎‏وعوارضها؛ لأنّ مرجع البحث فیهما ـ حقیقة ـ إلی البحث عن ثبوت قول المعصوم أو‏‎ ‎‏فعله أو تقریره بخبر الواحد فی مسألة حجّیّة خبر الواحد، أو بأحد الخبرین‏‎ ‎‏المتعارضین فی الخبرین المتعارضین، فیکون الموضوع فی المسألة ـ حقیقة ـ نفس‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 56
‏السنّة‏‎[8]‎‏.‏

‏وجعل ‏‏قدس سره‏‏ ما أفاده مُغنیاً عن تجشّم صاحب الفصول ‏‏قدس سره‏‏؛ بجعل الموضوع ذوات‏‎ ‎‏الأدلّة‏‎[9]‎‏؛ لیکون البحث عن حجّیّة الخبر بحثاً عن عوارض ذات السّنّة‏‎[10]‎‏.‏

‏هذا، ولکن لم یرتضِ المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ ما أفاده الشیخ ‏‏قدس سره‏‏، وردّه بما حاصله:‏

‏أنّ المراد بثبوت السنّة: إمّا الثبوت الحقیقی، وما هو مفاد «کان» التامّة،‏‎ ‎‏فلیس البحث فیه عن العوارض الذاتیّة؛ لأنّ البحث عن العوارض لابدّ وأن یکون‏‎ ‎‏بحثاً عمّا هو مفاد «کان» الناقصة، فلا یکون البحث فیه من المسائل الاُصولیّة، بل من‏‎ ‎‏المبادئ التصدیقیّة.‏

‏وإن اُرید به الثبوت التعبّدی، الذی مرجعه إلی حجّیّة خبر الواحد الحاکی‏‎ ‎‏للسنّة، أو حجّیّة أحد الخبرین الحاکیین للسنّة، فالبحث وإن کان عن العوارض ـ وما‏‎ ‎‏یکون مفاد «کان» الناقصة ـ إلاّ أنـّه عن عوارض الحاکی للسنّة، لا السنّة نفسها. هذا‏‎ ‎‏کلّه إن اُرید بالسنّة ماهو المصطلح علیها، وهو قول المعصوم أو فعله أو تقریره.‏

‏وإن اُرید بالسنّة ما هو الأعمّ منها ومن الطریق الحاکی عنها کخبر الواحد‏‎ ‎‏ونحوه، فالبحث فی تلک المباحث وإن کان فی أحوال السنّة بهذا المعنی، إلاّ أنـّه یلزم أن‏‎ ‎‏یکون البحث فی غیر واحد من المسائل الاُصولیّة ـ کمباحث الألفاظ وجملة من‏‎ ‎‏غیرها ـ خارجاً عن کونها مسائل اُصولیّة؛ لأنّ البحث فیها لم یکن مخصوصاً بالأدلّة‏‎ ‎‏الأربعة؛ بل یعمّ غیرها‏‎[11]‎‏، کما أشرنا فی الإشکال الثانی علی مقال الشهرة، فلاحظ.‏

‏ولأجل التفصّی عن هذه الإشکالات قد یقال: إنّ موضوع علم الاُصول هو‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 57
‏الجامع بین محمولات مسائله، ولعله الظاهر ممّا حُکی عن الشافعی؛ حیث قال: إنّ‏‎ ‎‏موضوع علم الاُصول الحجّة فی الفقه‏‎[12]‎‏.‏

‏ویظهر من الحکیم السبزواری رحمه الله : أنّ موضوع العلم هو الجامع بین‏‎ ‎‏محمولات المسائل؛ لأنـّه قال فی فنّ الطبیعیّات من «شرح المنظومة»: إنّ مسألة‏‎ ‎‏«الجسم موجود» فی الحقیقة: «الموجود جسم »‏‎[13]‎‏.‏

‏واختار بعض أعاظم العصر دام ظلّه کون موضوع علم الاُصول هو الجامع‏‎ ‎‏بین محمولات المسائل وشیّـد مبناه بما لا مزید علیه، وقد ذکـرنا حاصل مقاله فی‏‎ ‎‏الجهة الثانیة.‏

ومجمله : ‏أنّ المراد بموضوع علم الاُصول ـ مثلاً ـ ما یکون وجهة نظر‏‎ ‎‏الاُصولی ومحطّ نظره إلیه ولیس هو إلاّ الحجّة فی الفقه، والاُصولی بصدد تعیّنات‏‎ ‎‏الحجّة ومصادیقها، وما من مسألة من المسائل الاُصولیّة ـ سواء کانت متعلّقة بأماریّة‏‎ ‎‏شیء أو أصلیّته ـ إلاّ ویبحث فیها عن الحجّة فی الفقه، فجمیع المسائل الاُصولیّة‏‎ ‎‏عوارض ذاتیّة لموضوع علم الاُصول‏‎[14]‎‏.‏

وفیه: ‏أنـّه کما أشرنا فی الجهة الثانیة أنـّه لم یکن لنا فی العرض غیر اصطلاحین :‏

الأول:‏ ما یذکر فی کتاب «قاطیقوریاس» ـ المقولات العشر ـ والمراد به ماهیّةٌ‏‎ ‎‏شأنُ وجودها فی الخارج أن یکون فی موضوع‏‎[15]‎‏.‏

والثانی : ‏ما یذکر فی صناعة «إیساغوجی» ـ الکلّیّات الخمس ـ وهو الخارج‏‎ ‎‏عن ذات الشیء المتّحد معه‏‎[16]‎‏.‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 58
‏ولا یکون لهم اصطلاح ثالث فی العرض، وما ذکره دام ظلّه لا ینطبق علی‏‎ ‎‏مذاق القوم بشیء من الاصطلاحین؛ ضرورة أنّ حجّیّة خبر الواحد ـ مثلاً ـ لو کانت‏‎ ‎‏من المجعولات التأسیسیّة الشرعیّة، فبعد حجّیّته لا یتّصف خبر الواحد فی الخارج‏‎ ‎‏بشیء کان فاقداً إیّاه، وعرض علیه شیء لم یکن واجداً له، بل هی أمر انتزاعیّ،‏‎ ‎‏ینتزع من أمر الشارع العمل به، فالحجّیّة أمر انتزاعیّ، لا وجود لها فی الخارج، فلا‏‎ ‎‏یصدق علیه العرض بشیء من الاصطلاحین.‏

‏وإن تصرّفت فی العرض، وعمّمته بما یشمل الأمر الانتزاعی الذی لا یکون له‏‎ ‎‏وجود فی الخارج، وإنّما الوجود لمنشئه، فهو اصطلاح لم یقل به أحد من القوم، فحمل‏‎ ‎‏کلماتهم علی أمر غیر معهود عندهم لیس کما ینبغی.‏

‏فلم یتحصّل لنا وجود أمر واحد وموضوع فارد، یکون البحث فی علم‏‎ ‎‏الاُصول عن عوارض الذاتیّة، وغایة ما تحصّل لنا: هو اشتراک جمیع مسائل علم‏‎ ‎‏الاُصول فی أنـّها یستفاد منها أحکام الله تعالی ووظائفه المقرّرة، والله الهادی.‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 59

  • )) حقائق الاُصول 1 : 12.
  • )) قوانین الاُصول 1 : 8 حاشیة المصنف فی أسفل الصفحة.
  • )) بحر الفوائد : 142 السطر ما قبل الأخیر، فوائد الاُصول 1 : 25 ـ 26، درر الفوائد : 33.
  • )) بدائع الأفکار 1 : 20.
  • )) ضوابط الاُصول : 9 السطر الأول، کفایة الاُصول: 22.
  • )) الفصول الغرویّة: 12 سطر 10.
  • )) کفایة الاُصول : 22 ـ 23.
  • )) فرائد الاُصول : 67 سطر 6.
  • )) الفصول الغرویة: 12 سطر 10.
  • )) فرائد الاُصول : 67 سطر 7.
  • )) کفایة الاُصول : 23.
  • )) اُنظر نهایة الاُصول 1 : 16.
  • )) شرح المنظومة (قسم الحکمة) : 206 سطر 9.
  • )) نهایة الاُصول 1 : 12 ـ 16.
  • )) شرح المنظومة (قسم الحکمة) : 137.
  • )) شرح المطالع: 61 سطر 9، شرح الشمسیّة : 34 و 43.