الجهة الرابعة فی موضوع علم الاُصول
بعدما أحطت خُبراً بما ذکرنا عرفت : أنـّه لا دلیل علی لزوم وجود موضوع واحد لکلّ علم، وأمّا نفی وجود موضوع واحد عن کلّ علم فلا، فمن الممکن أن یکون لبعض العلوم موضوع واحد، فعلی هذا یقع البحث : فی أنـّه هل یکون لعلم اُصول الفقه أو علم اُصول الاستنباط موضوع واحد یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة أم لا؟
فنقول : المشهور علی أنّ موضوع علم الاُصول الأدلّة الأربعة : ـ الکتاب العزیز، والسنّة، والعقل، والإجماع ـ بما هی أدلّة، واختاره المحقّق القمی قدس سره، ولعلّ
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 54
هذا هو مُراد الشافعی حیث یبحث فی رسالته عن حجیّة الحجج الشرعیّة.
فاُورد علیهم :
أولا : بأنّ مقتضی ذلک خروج کثیر من المسائل المعنونة فی علم الاُصول من المسائل الاُصولیة، ودخولها فی المبادئ؛ لأنّ البحث فیها راجع إلی تعیین الحجّة، مثل أنّ الظاهر حجّة أم لا؟ وأنّ خبر الواحد حجّة أم لا؟ وأنّ الإجماع حجّة أم لا؟ وأنّ الشهرة حجّة أم لا؟ والبحث عن حجیّة الاُصول العملیّة، وعن الاستلزامات العقلیّة... إلی غیر ذلک من المباحث الراجعة إلی تعیین الحجّة، فتکون من المبادئ التصدیقیّة، وهو کما تری.
نعم : البحث عن مثل التعادل والترجیح ـ حیث یبحث فیه عن تقدّم إحدی الحجّتین علی الاُخری ـ من المسائل الاُصولیة.
وبالجملة : البحث عن العوارض بحث عن مفاد « کان » الناقصة، فلو کان موضوع علم الاُصول الأدلّة الأربعة بوصف دلیلیّتها، لزم أن یکون البحث عن حجّیّة الأدلّة الأربعة بحثاً عن وجود الحجّة التی هی مفاد «کان» التامّة، فیندرج البحث فیها فی المبادئ التصدیقیّة لعلم الاُصول، والالتزام بذلک کما تری.
وثانیاً : أنّ موضوع أکثر تلک المباحث لم یکن خصوص الأدلّة الأربعة؛ وإن کان المهمّ معرفة أحوال خصوصها، فإنّ البحث عن حجّیّة الظاهر ـ مثلاً ـ هو أنـّه هل الظاهر حجّة مطلقاً ـ کان من الأدلّة أو غیرها ـ أم لا؟ والبحث عن خبر الثقة هو أنـّه هل خبر الثقة حجّة مطلقاً أم لا؟ وکذا سائر مباحث الألفاظ لم تکن مخصوصة بذوات الأدلّة بما هی أدلّة، بل هی مباحث کلّیّة، لا بما هی أدلّة، فتکون أبحاثها من عوارض ذلک الکلی، لا الأدلّة الأربعة.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 55
ولأجل توجّه الإشکال علی مقال المشهور عدل صاحب الفصول قدس سره عن مقالهم، وقال : إنّ موضوع علم الاُصول ذوات الأدلّة بما هی هی، فیکون البحث عن حجّیّة الأدلّة بحثاً عن عوارض الأدلّة، فیکون البحث فیها من المسائل الاُصولیة.
ولا یخفی أنّ ما أفاده قدس سره وإن کان سلیماً عن الإشکال الأوّل؛ لأنّ البحث عن تلک المسائل علی هذا یکون بحثاً عن عوارض الأدلّة، إلاّ أنّ الإشکال الثانی وارد علیه؛ لعدم اختصاص تلک المباحث بالأدلة الأربعة، فیکون البحث حولها من عوارض ذلک الکلی.
ثمّ إنّه اُشکل علی مقال المشهور وظاهر ما فی «الفصول» بأنّ السنّة عبارة عن نفس قول المعصوم وفعله وتقریره، ومن الواضح أنّ البحث فی خبر الواحد وجملة من مسائل باب التعارض ـ مثلاً ـ لا یکون بحثاً عن عوارض الأدلّة؛ لا بما هی هی، ولابما هی أدلّة :
أمّا عدم کون البحث فیها عن الکتاب والإجماع والعقل فواضح، ولم یکن البحث فیها عن السنّة أیضاً؛ بداهة أنّ خبر الواحد أو أحد الخبرین المُتعارضین لیس نفسِ السنّة : حتّی یکون البحث عن عوارضها، بل حاک عن السنّة، فلا یرجع البحث فی حجّیة خبر الواحد، أو أحد الخبرین المتعارضین، إلی عوارض السنّة.
تصدّی شیخنا الأعظم الأنصاری قدس سره لدفع الإشکال عن مقال المشهور : بأنـّه یمکن إرجاع البحث فی هاتین المسألتین وما شابههما، إلی البحث عن أحوال السنّة وعوارضها؛ لأنّ مرجع البحث فیهما ـ حقیقة ـ إلی البحث عن ثبوت قول المعصوم أو فعله أو تقریره بخبر الواحد فی مسألة حجّیّة خبر الواحد، أو بأحد الخبرین المتعارضین فی الخبرین المتعارضین، فیکون الموضوع فی المسألة ـ حقیقة ـ نفس
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 56
السنّة.
وجعل قدس سره ما أفاده مُغنیاً عن تجشّم صاحب الفصول قدس سره؛ بجعل الموضوع ذوات الأدلّة؛ لیکون البحث عن حجّیّة الخبر بحثاً عن عوارض ذات السّنّة.
هذا، ولکن لم یرتضِ المحقّق الخراسانی قدس سره ما أفاده الشیخ قدس سره، وردّه بما حاصله:
أنّ المراد بثبوت السنّة: إمّا الثبوت الحقیقی، وما هو مفاد «کان» التامّة، فلیس البحث فیه عن العوارض الذاتیّة؛ لأنّ البحث عن العوارض لابدّ وأن یکون بحثاً عمّا هو مفاد «کان» الناقصة، فلا یکون البحث فیه من المسائل الاُصولیّة، بل من المبادئ التصدیقیّة.
وإن اُرید به الثبوت التعبّدی، الذی مرجعه إلی حجّیّة خبر الواحد الحاکی للسنّة، أو حجّیّة أحد الخبرین الحاکیین للسنّة، فالبحث وإن کان عن العوارض ـ وما یکون مفاد «کان» الناقصة ـ إلاّ أنـّه عن عوارض الحاکی للسنّة، لا السنّة نفسها. هذا کلّه إن اُرید بالسنّة ماهو المصطلح علیها، وهو قول المعصوم أو فعله أو تقریره.
وإن اُرید بالسنّة ما هو الأعمّ منها ومن الطریق الحاکی عنها کخبر الواحد ونحوه، فالبحث فی تلک المباحث وإن کان فی أحوال السنّة بهذا المعنی، إلاّ أنـّه یلزم أن یکون البحث فی غیر واحد من المسائل الاُصولیّة ـ کمباحث الألفاظ وجملة من غیرها ـ خارجاً عن کونها مسائل اُصولیّة؛ لأنّ البحث فیها لم یکن مخصوصاً بالأدلّة الأربعة؛ بل یعمّ غیرها، کما أشرنا فی الإشکال الثانی علی مقال الشهرة، فلاحظ.
ولأجل التفصّی عن هذه الإشکالات قد یقال: إنّ موضوع علم الاُصول هو
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 57
الجامع بین محمولات مسائله، ولعله الظاهر ممّا حُکی عن الشافعی؛ حیث قال: إنّ موضوع علم الاُصول الحجّة فی الفقه.
ویظهر من الحکیم السبزواری رحمه الله : أنّ موضوع العلم هو الجامع بین محمولات المسائل؛ لأنـّه قال فی فنّ الطبیعیّات من «شرح المنظومة»: إنّ مسألة «الجسم موجود» فی الحقیقة: «الموجود جسم ».
واختار بعض أعاظم العصر دام ظلّه کون موضوع علم الاُصول هو الجامع بین محمولات المسائل وشیّـد مبناه بما لا مزید علیه، وقد ذکـرنا حاصل مقاله فی الجهة الثانیة.
ومجمله : أنّ المراد بموضوع علم الاُصول ـ مثلاً ـ ما یکون وجهة نظر الاُصولی ومحطّ نظره إلیه ولیس هو إلاّ الحجّة فی الفقه، والاُصولی بصدد تعیّنات الحجّة ومصادیقها، وما من مسألة من المسائل الاُصولیّة ـ سواء کانت متعلّقة بأماریّة شیء أو أصلیّته ـ إلاّ ویبحث فیها عن الحجّة فی الفقه، فجمیع المسائل الاُصولیّة عوارض ذاتیّة لموضوع علم الاُصول.
وفیه: أنـّه کما أشرنا فی الجهة الثانیة أنـّه لم یکن لنا فی العرض غیر اصطلاحین :
الأول: ما یذکر فی کتاب «قاطیقوریاس» ـ المقولات العشر ـ والمراد به ماهیّةٌ شأنُ وجودها فی الخارج أن یکون فی موضوع.
والثانی : ما یذکر فی صناعة «إیساغوجی» ـ الکلّیّات الخمس ـ وهو الخارج عن ذات الشیء المتّحد معه.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 58
ولا یکون لهم اصطلاح ثالث فی العرض، وما ذکره دام ظلّه لا ینطبق علی مذاق القوم بشیء من الاصطلاحین؛ ضرورة أنّ حجّیّة خبر الواحد ـ مثلاً ـ لو کانت من المجعولات التأسیسیّة الشرعیّة، فبعد حجّیّته لا یتّصف خبر الواحد فی الخارج بشیء کان فاقداً إیّاه، وعرض علیه شیء لم یکن واجداً له، بل هی أمر انتزاعیّ، ینتزع من أمر الشارع العمل به، فالحجّیّة أمر انتزاعیّ، لا وجود لها فی الخارج، فلا یصدق علیه العرض بشیء من الاصطلاحین.
وإن تصرّفت فی العرض، وعمّمته بما یشمل الأمر الانتزاعی الذی لا یکون له وجود فی الخارج، وإنّما الوجود لمنشئه، فهو اصطلاح لم یقل به أحد من القوم، فحمل کلماتهم علی أمر غیر معهود عندهم لیس کما ینبغی.
فلم یتحصّل لنا وجود أمر واحد وموضوع فارد، یکون البحث فی علم الاُصول عن عوارض الذاتیّة، وغایة ما تحصّل لنا: هو اشتراک جمیع مسائل علم الاُصول فی أنـّها یستفاد منها أحکام الله تعالی ووظائفه المقرّرة، والله الهادی.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 59