المقصد الأوّل فی الأوامر

الوجوه التی یستدلّ بها للإجزاء فی العمل بالأمارات ودفعها

الوجوه التی یستدلّ بها للإجزاء فی العمل بالأمارات ودفعها

‏ ‏

الوجه الأوّل :

‏وهو أنّ مقتضی أدلّة حجّیة خبر الواحد ـ الذی هو عمدة الأمارات ، وبه قوام‏‎ ‎‏الفقه والشریعة المقدّسة ـ تنزیل مؤدّیٰ خبر الثقة منزلة الواقع ؛ وذلک لأنّ مفهوم قوله‏‎ ‎‏تعالی فی آیة النبأ‏‎[1]‎‏ حجّیةُ قول العادل وتنزیل قوله منزلة الواقع ، وکذا معنیٰ‏‎ ‎‏قوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«لا ینبغی التشکیک فیما یرویه ثقاتنا»‎[2]‎‏ هو أنّ ما یرویه ثقاتنا منزّل‏‎ ‎‏منزلة الواقع ولاینبغی التشکیک فیه ، وکذا قوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«العمری وابنه ثقتان ما أدّیا‎ ‎فعنّی یؤدّیان»‎[3]‎‏ معناه أنّ ما أدّاه العمری وابنه منزّل منزلة الواقع ، أو ابن علیٰ أنّ‏‎ ‎‏مؤدّیٰ قول العمری وابنه مؤدّیٰ قولی ، ولازم ذلک أنّه لو أخبر الثقة بأنّ الشیء‏‎ ‎‏الفلانی جزء للصلاة أو شرط أو مانع لها فلابدّ من البناء العملی علی أنّه جزء أو‏‎ ‎‏شرط أو مانع لها وترتیب آثار الجزئیة أو الشرطیة أو المانعیة علیه ، وإن کان فی‏‎ ‎‏الواقع غیر جزء أو شرط أو مانع . ومن آثار هذا التنزیل عدم الإعادة فی الوقت لو‏‎ ‎‏انکشف الخلاف فی الوقت ، أو عدم القضاء خارج الوقت لو انکشف خارج الوقت .‏

وفیه أوّلاً :‏ أنّه لا یکون مقتضیٰ شیء ممّا استُدلّ به لحجّیة خبر الواحد تنزیل‏‎ ‎‏مؤدّاه منزلة الواقع ؛ لعدم دلالة شیء من الآیة المبارکة والروایات علیٰ حجّیة خبر‏‎ ‎‏العادل تأسیساً ؛ حتّیٰ آیة النبأ فإنّها تدلّ علی أنّهم قبل نزول الآیة المبارکة کانوا‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 329
‏یعملون بخبر الواحد والشارع اشترط العدالة فی العمل بخبر الواحد ، أو أنّه تعالیٰ‏‎ ‎‏أشار إلیٰ فسق ولید ، فأنّیٰ للآیة المبارکة وتنزیل المؤدّیٰ منزلة الواقع ؟ !‏

‏وقوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«لا ینبغی التشکیک فیما یرویه . . .»‏ إلی آخره ظاهر فی أنّ قول‏‎ ‎‏الثقة حجّة ومعذّر لا ینبغی التشکیک فیه .‏

‏وکذا قوله ‏‏علیه السلام‏‏ فی حقّ العمری وابنه بملاحظة صدر الروایة حیث أجاب‏‎ ‎‏الإمام ‏‏علیه السلام‏‏ عن أنّهما ثقتان : ‏«العمری وابنه ثقتان ما أدّیا فعنّی یؤدّیان»‏ یستفاد منه‏‎ ‎‏أنّ حجّیة قول الثقة کانت معلومة عند السائل ، والسؤال إنّما هو عن الصغریٰ وأنّهما‏‎ ‎‏ثقتان أم لا ، فقوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«ما أدّیا فعنّی یؤدّیان»‏ بعد قوله أنّهما ثقتان تأکید لوثاقتهما .‏

‏ولا یخفیٰ : أنّ المعنی الذی أشرنا إلیه فی معنی الآیة المبارکة والروایات هو‏‎ ‎‏المتبادر منه فی أمثال المقام . وإن کنت ـ مع ذلک ـ فی ریب من ذلک فالعرف ببابک ،‏‎ ‎‏فاستعلمهم واستخبرهم ، تجدهم أصدق شاهد علیٰ ما ذکرنا .‏

وثانیاً :‏ لو سلّم أنّ مفاد أدلّة حجّیة خبر الواحد تنزیل المؤدّیٰ منزلة الواقع‏‎ ‎‏فیخرج خبر الواحد عن الأماریة ، ویکون نظیر الحکم المجعول علی المشکوک فیه ،‏‎ ‎‏کقوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«إذا شککت بین الأقلّ والأکثر فابن علی الیقین»‎[4]‎‏ ، فکما أنّ حکم‏‎ ‎‏البناء علی الیقین والأکثر مجعول علی الشکّ بین الأقلّ والأکثر فکذلک حکم البناء‏‎ ‎‏علیٰ تنزیل المؤدّیٰ منزلة الواقع مجعول علیٰ خبر الثقة .‏

‏نعم ، لا یکون علیٰ هذا أصلاً ؛ لأنّ الموضوع فی الأصل هو المشکوک بما هو‏‎ ‎‏مشکوک ، ولم یکن المقام کذلک کما لا یخفیٰ ، فتدبّر .‏

‏وبالجملة : لو کان مفاد حجّیة خبر الواحد تنزیل مؤدّاه منزلة الواقع یکون‏‎ ‎‏نظیر الأصل ، حیث أثبت الحکم علیٰ موضوع الشکّ ، من دون أن یکون له واقع‏‎ ‎‏تطابقه أم لا ، فتدبّر جیّداً .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 330
الوجه الثانی :

‏إنّ بین الأصل والأمارة وإن کان فرقاً من جهة إلاّ أنّ بینهما تساوی من جهة‏‎ ‎‏اُخریٰ ؛ وذلک لأنّ فی الأمارة وإن کانت جهة الکشف وإراءة الواقع بخلاف الأصل‏‎ ‎‏ـ بداهة أنّ فی الظنّ إراءة الواقع دون الشکّ ـ إلاّ أنّ الحکم الظاهری مجعول علیٰ‏‎ ‎‏مؤدّاهما ، ولا فرق فی ذلک بین أدلّة حجّیة الأمارة والأصل .‏

‏وبعبارة اُخریٰ : لسان أدلّة الاُصول والأمارات واحد ؛ وهو وجوب العمل علی‏‎ ‎‏الأمارة أو الأصل ، فکما أنّ فی مشکوک الطهارة ـ مثلاً ـ یترتّب آثار الطهارة علی‏‎ ‎‏المشکوک فیه فکذلک یجب العمل علیٰ مؤدّی الأمارة ، و«صَدِّق العادل» ینحلّ إلیٰ‏‎ ‎‏تصدیقات عدیدة بعدد إخبارات العدول .‏

‏وواضح : أنّ معنیٰ تصدیق العادل لیس إلاّ ترتیب آثار الواقع علیٰ مؤدّی‏‎ ‎‏الأمارة ، فإذا قامت الأمارة علیٰ عدم وجوب السورة فی الصلاة ـ مثلاً ـ فللمکلّف‏‎ ‎‏أن یبقیٰ علیٰ عدم وجوب السورة فیها ویصلّی بلا سورة ، وإن کانت السورة واجبة‏‎ ‎‏وجزءً للصلاة فی الواقع .‏

‏کما أنّ مقتضیٰ أدلّة الحلّ أو الطهارة ترتیب آثار الحلّیة والطهارة علیٰ مشکوک‏‎ ‎‏الحلّیة والطهارة ، وإن کان فی الواقع حراماً أو نجساً .‏

‏وبالجملة : الفرق بین الأمارة والأصل وإن کان فی الماهیة والحقیقة ، ولکن‏‎ ‎‏لایضرّ ذلک بحیثیة جعلهما واعتبارهما ، فإنّ لسان حجّیتهما واحد ؛ وهو جعل الوظیفة‏‎ ‎‏الظاهریة وترتیب آثار الواقع علیٰ طبقهما ومؤدّاهما . والعمل بکلّ منهما مُفرّغ للذمّة ،‏‎ ‎‏فکما یقال بالإجزاء فی باب الاُصول ، وأنّ من صلّیٰ فی ثوب مستصحب الطهارة وإن‏‎ ‎‏کان الثوب فی الواقع نجساً لا یجب إعادة صلاته وقضاها ـ بالتقریب الذی سیذکر فی‏‎ ‎‏الموضع الثالث ـ فلیقل بالإجزاء فی باب الأمارات .‏

وفیه أوّلاً :‏ لیت تذکر أدلّة حجّیة الأمارات حتّیٰ نلاحظ فیها ، فهل یوجد فی‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 331
‏واحد منها ما یکون لسانه مثل لسان «کلّ شیء طاهر» حیث جعل الطهارة علیٰ‏‎ ‎‏موضوع الشکّ ؟‏

‏ولعمر الحقّ إنّه لم یوجد دلیل یکون مفاده «صدّق العادل» ، بل جمیع ما ورد‏‎ ‎‏یکون إرشاداً إلیٰ ما هو المعلوم والمرتکز عند العرف والعقلاء ، وواضح أنّه کما أشرنا‏‎ ‎‏لیس عند العقلاء إلاّ أنّ الأمارة طریق إلی الواقع ، من دون تصرّف فیه .‏

‏نعم ، غایة ما یمکن أن یذعن به ویعترف به هو کون تصدیق العادل معنی‏‎ ‎‏اصطیادیاً من أدلّة اعتبار الأمارة .‏

‏فعلی هذا یکون فرق جلی بین لسان اعتبار الأمارة ولسان اعتبار الأصل ؛ لأنّ‏‎ ‎‏لسان اعتبار الأمارات التأسیسیة ـ فضلاً عن إمضائیاتها ـ لا یکون لسان تقیید‏‎ ‎‏الواقع ، بل مقتضاها تعیین طُرق إلیه لم یکن معهوداً بینهم ، ویفهم العرف جلیّاً من‏‎ ‎‏لزوم العمل علیٰ قول الثقة أنّه بلحاظ کشفه وإراءته للواقع ، من دون أن یکون‏‎ ‎‏مقتضاه جعل حکم علیٰ خبر الثقة .‏

‏وأمّا لسان اعتبار الاُصـول ـ کما سیمـرّ بک عـن قریب تفصیلها ـ فهـو جعل‏‎ ‎‏الحکـم والوظیفـة الظاهـریة علی المشکوک فیه مـن حیث هـو مشکـوک ، فارتقب‏‎ ‎‏حتّیٰ حین .‏

وثانیاً :‏ لو سلّم کون مفاد اعتبار الأمارة تعبّد الشارع بتصدیق العادل لخرجت‏‎ ‎‏الأمارة عن أماریتها ، وتکون هی موضوع رتّب علیه آثار الواقع ، کما رتّب آثار‏‎ ‎‏الطهارة الواقعیة علیٰ مشکوک الطهارة .‏

‏وبالجملة : یکون مقتضیٰ ذلک جعل حکم شرعی ؛ وهـو تصدیق العادل‏‎ ‎‏علـیٰ موضـوع یکون أمارة تکوینیـة ، مثل ما إذا قال المولیٰ : لـو أحرزتَ طلوع‏‎ ‎‏الشمس فابن علیٰ مجـیء زید ، کما أنّه جعل الشکّ موضـوعاً للحکم الشرعی . وأنت‏‎ ‎‏خبیر بأنّ هـذا اللسان غیر لسان اعتبار الأمارة من جهـة أماریته ؛ بداهـة أنّ لسانها‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 332
‏إنّما هـی إنفاذ الشارع ما یراه العـرف والعقلاء ، وواضـح أنّ الـذی عندهم هـو أنّ‏‎ ‎‏العادل لا یکذب علی الواقـع وقوله طریق إلیه ، فتدبّر جیّداً .‏

الوجه الثالث :

‏إنّ مقتضیٰ دلیل حجّیـة الأصل کما یکون جعل حکـم مماثل علیٰ مؤدّاه‏‎ ‎‏فکذلک مقتضیٰ دلیل حجّیة الأمارة هـو جعل حکـم مماثل علی مؤدّاها ، وواضـح‏‎ ‎‏أنّ لازم ذلک الإجزاء .‏

‏وبالجملة : لسان اعتبار الأمارة مثل لسان اعتبار الأصل ، فکما أنّ مقتضی‏‎ ‎‏اعتبار الاُصول تحکیم الأدلّة الواقعیة ، فلیکن کذلک مقتضی اعتبار الأمارات .‏

وفیه أوّلاً :‏ أنّه لـم یکـن لنا دلیل یکـون مقتضاه جعل حکـم مماثل علـیٰ‏‎ ‎‏طبـق الأمارة ، ولا یستفاد منـه أنّ الشارع بصـدد جعل أمارة تأسیسیـة . وغایـة ما‏‎ ‎‏یستفاد منه إمضاء ما علیه العقلاء کما عرفت ، وقـد عرفت أنّهم یرون أنّ للأمارة‏‎ ‎‏طریقیـة محضة ، من دون تصرّف فی الواقع کالقطع ، وواضح أنّ مقتضاه عدم الإجزاء‏‎ ‎‏عند کشف الخلاف .‏

وثانیاً :‏ أنّه لو سلّم ذلک یلزم خروج الأمارة عن أماریتها ، حیث إنّه علیٰ هذا‏‎ ‎‏لیس له واقع ـ تطابقه أم لا ـ بل یکون مفاده أنّه عند قیام الأمارة علیٰ وجوب صلاة‏‎ ‎‏الجمعة ـ مثلاً ـ جعل وجوب صلاة الجمعة ، وما هذا شأنه لم یکن إمضاء أمارة أو‏‎ ‎‏تأسیسها علیٰ ما هی علیها ، فلو کان ، یکون مقتضیٰ جعل المماثل الإجزاء ، کما ذکر فی‏‎ ‎‏التقریب ، ولکن دون إثباته خَرط القَتاد .‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 333

  • )) الحجرات (49) : 6 .
  • )) راجع وسائل الشیعة 18 : 108 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب11 ، الحدیث 40 .
  • )) الکافی 1 : 329 / 1 ، وسائل الشیعة 18 : 99 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب11 ، الحدیث 4 .
  • )) وسائل الشیعة 5 : 318 ، کتاب الصلاة ، أبواب الخلل الواقع فی الصلاة ، الباب8 ، الحدیث2 .