الوجوه التی یستدلّ بها للإجزاء فی العمل بالأمارات ودفعها
الوجه الأوّل :
وهو أنّ مقتضی أدلّة حجّیة خبر الواحد ـ الذی هو عمدة الأمارات ، وبه قوام الفقه والشریعة المقدّسة ـ تنزیل مؤدّیٰ خبر الثقة منزلة الواقع ؛ وذلک لأنّ مفهوم قوله تعالی فی آیة النبأ حجّیةُ قول العادل وتنزیل قوله منزلة الواقع ، وکذا معنیٰ قوله علیه السلام : «لا ینبغی التشکیک فیما یرویه ثقاتنا» هو أنّ ما یرویه ثقاتنا منزّل منزلة الواقع ولاینبغی التشکیک فیه ، وکذا قوله علیه السلام : «العمری وابنه ثقتان ما أدّیا فعنّی یؤدّیان» معناه أنّ ما أدّاه العمری وابنه منزّل منزلة الواقع ، أو ابن علیٰ أنّ مؤدّیٰ قول العمری وابنه مؤدّیٰ قولی ، ولازم ذلک أنّه لو أخبر الثقة بأنّ الشیء الفلانی جزء للصلاة أو شرط أو مانع لها فلابدّ من البناء العملی علی أنّه جزء أو شرط أو مانع لها وترتیب آثار الجزئیة أو الشرطیة أو المانعیة علیه ، وإن کان فی الواقع غیر جزء أو شرط أو مانع . ومن آثار هذا التنزیل عدم الإعادة فی الوقت لو انکشف الخلاف فی الوقت ، أو عدم القضاء خارج الوقت لو انکشف خارج الوقت .
وفیه أوّلاً : أنّه لا یکون مقتضیٰ شیء ممّا استُدلّ به لحجّیة خبر الواحد تنزیل مؤدّاه منزلة الواقع ؛ لعدم دلالة شیء من الآیة المبارکة والروایات علیٰ حجّیة خبر العادل تأسیساً ؛ حتّیٰ آیة النبأ فإنّها تدلّ علی أنّهم قبل نزول الآیة المبارکة کانوا
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 329
یعملون بخبر الواحد والشارع اشترط العدالة فی العمل بخبر الواحد ، أو أنّه تعالیٰ أشار إلیٰ فسق ولید ، فأنّیٰ للآیة المبارکة وتنزیل المؤدّیٰ منزلة الواقع ؟ !
وقوله علیه السلام : «لا ینبغی التشکیک فیما یرویه . . .» إلی آخره ظاهر فی أنّ قول الثقة حجّة ومعذّر لا ینبغی التشکیک فیه .
وکذا قوله علیه السلام فی حقّ العمری وابنه بملاحظة صدر الروایة حیث أجاب الإمام علیه السلام عن أنّهما ثقتان : «العمری وابنه ثقتان ما أدّیا فعنّی یؤدّیان» یستفاد منه أنّ حجّیة قول الثقة کانت معلومة عند السائل ، والسؤال إنّما هو عن الصغریٰ وأنّهما ثقتان أم لا ، فقوله علیه السلام : «ما أدّیا فعنّی یؤدّیان» بعد قوله أنّهما ثقتان تأکید لوثاقتهما .
ولا یخفیٰ : أنّ المعنی الذی أشرنا إلیه فی معنی الآیة المبارکة والروایات هو المتبادر منه فی أمثال المقام . وإن کنت ـ مع ذلک ـ فی ریب من ذلک فالعرف ببابک ، فاستعلمهم واستخبرهم ، تجدهم أصدق شاهد علیٰ ما ذکرنا .
وثانیاً : لو سلّم أنّ مفاد أدلّة حجّیة خبر الواحد تنزیل المؤدّیٰ منزلة الواقع فیخرج خبر الواحد عن الأماریة ، ویکون نظیر الحکم المجعول علی المشکوک فیه ، کقوله علیه السلام : «إذا شککت بین الأقلّ والأکثر فابن علی الیقین» ، فکما أنّ حکم البناء علی الیقین والأکثر مجعول علی الشکّ بین الأقلّ والأکثر فکذلک حکم البناء علیٰ تنزیل المؤدّیٰ منزلة الواقع مجعول علیٰ خبر الثقة .
نعم ، لا یکون علیٰ هذا أصلاً ؛ لأنّ الموضوع فی الأصل هو المشکوک بما هو مشکوک ، ولم یکن المقام کذلک کما لا یخفیٰ ، فتدبّر .
وبالجملة : لو کان مفاد حجّیة خبر الواحد تنزیل مؤدّاه منزلة الواقع یکون نظیر الأصل ، حیث أثبت الحکم علیٰ موضوع الشکّ ، من دون أن یکون له واقع تطابقه أم لا ، فتدبّر جیّداً .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 330
الوجه الثانی :
إنّ بین الأصل والأمارة وإن کان فرقاً من جهة إلاّ أنّ بینهما تساوی من جهة اُخریٰ ؛ وذلک لأنّ فی الأمارة وإن کانت جهة الکشف وإراءة الواقع بخلاف الأصل ـ بداهة أنّ فی الظنّ إراءة الواقع دون الشکّ ـ إلاّ أنّ الحکم الظاهری مجعول علیٰ مؤدّاهما ، ولا فرق فی ذلک بین أدلّة حجّیة الأمارة والأصل .
وبعبارة اُخریٰ : لسان أدلّة الاُصول والأمارات واحد ؛ وهو وجوب العمل علی الأمارة أو الأصل ، فکما أنّ فی مشکوک الطهارة ـ مثلاً ـ یترتّب آثار الطهارة علی المشکوک فیه فکذلک یجب العمل علیٰ مؤدّی الأمارة ، و«صَدِّق العادل» ینحلّ إلیٰ تصدیقات عدیدة بعدد إخبارات العدول .
وواضح : أنّ معنیٰ تصدیق العادل لیس إلاّ ترتیب آثار الواقع علیٰ مؤدّی الأمارة ، فإذا قامت الأمارة علیٰ عدم وجوب السورة فی الصلاة ـ مثلاً ـ فللمکلّف أن یبقیٰ علیٰ عدم وجوب السورة فیها ویصلّی بلا سورة ، وإن کانت السورة واجبة وجزءً للصلاة فی الواقع .
کما أنّ مقتضیٰ أدلّة الحلّ أو الطهارة ترتیب آثار الحلّیة والطهارة علیٰ مشکوک الحلّیة والطهارة ، وإن کان فی الواقع حراماً أو نجساً .
وبالجملة : الفرق بین الأمارة والأصل وإن کان فی الماهیة والحقیقة ، ولکن لایضرّ ذلک بحیثیة جعلهما واعتبارهما ، فإنّ لسان حجّیتهما واحد ؛ وهو جعل الوظیفة الظاهریة وترتیب آثار الواقع علیٰ طبقهما ومؤدّاهما . والعمل بکلّ منهما مُفرّغ للذمّة ، فکما یقال بالإجزاء فی باب الاُصول ، وأنّ من صلّیٰ فی ثوب مستصحب الطهارة وإن کان الثوب فی الواقع نجساً لا یجب إعادة صلاته وقضاها ـ بالتقریب الذی سیذکر فی الموضع الثالث ـ فلیقل بالإجزاء فی باب الأمارات .
وفیه أوّلاً : لیت تذکر أدلّة حجّیة الأمارات حتّیٰ نلاحظ فیها ، فهل یوجد فی
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 331
واحد منها ما یکون لسانه مثل لسان «کلّ شیء طاهر» حیث جعل الطهارة علیٰ موضوع الشکّ ؟
ولعمر الحقّ إنّه لم یوجد دلیل یکون مفاده «صدّق العادل» ، بل جمیع ما ورد یکون إرشاداً إلیٰ ما هو المعلوم والمرتکز عند العرف والعقلاء ، وواضح أنّه کما أشرنا لیس عند العقلاء إلاّ أنّ الأمارة طریق إلی الواقع ، من دون تصرّف فیه .
نعم ، غایة ما یمکن أن یذعن به ویعترف به هو کون تصدیق العادل معنی اصطیادیاً من أدلّة اعتبار الأمارة .
فعلی هذا یکون فرق جلی بین لسان اعتبار الأمارة ولسان اعتبار الأصل ؛ لأنّ لسان اعتبار الأمارات التأسیسیة ـ فضلاً عن إمضائیاتها ـ لا یکون لسان تقیید الواقع ، بل مقتضاها تعیین طُرق إلیه لم یکن معهوداً بینهم ، ویفهم العرف جلیّاً من لزوم العمل علیٰ قول الثقة أنّه بلحاظ کشفه وإراءته للواقع ، من دون أن یکون مقتضاه جعل حکم علیٰ خبر الثقة .
وأمّا لسان اعتبار الاُصـول ـ کما سیمـرّ بک عـن قریب تفصیلها ـ فهـو جعل الحکـم والوظیفـة الظاهـریة علی المشکوک فیه مـن حیث هـو مشکـوک ، فارتقب حتّیٰ حین .
وثانیاً : لو سلّم کون مفاد اعتبار الأمارة تعبّد الشارع بتصدیق العادل لخرجت الأمارة عن أماریتها ، وتکون هی موضوع رتّب علیه آثار الواقع ، کما رتّب آثار الطهارة الواقعیة علیٰ مشکوک الطهارة .
وبالجملة : یکون مقتضیٰ ذلک جعل حکم شرعی ؛ وهـو تصدیق العادل علـیٰ موضـوع یکون أمارة تکوینیـة ، مثل ما إذا قال المولیٰ : لـو أحرزتَ طلوع الشمس فابن علیٰ مجـیء زید ، کما أنّه جعل الشکّ موضـوعاً للحکم الشرعی . وأنت خبیر بأنّ هـذا اللسان غیر لسان اعتبار الأمارة من جهـة أماریته ؛ بداهـة أنّ لسانها
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 332
إنّما هـی إنفاذ الشارع ما یراه العـرف والعقلاء ، وواضـح أنّ الـذی عندهم هـو أنّ العادل لا یکذب علی الواقـع وقوله طریق إلیه ، فتدبّر جیّداً .
الوجه الثالث :
إنّ مقتضیٰ دلیل حجّیـة الأصل کما یکون جعل حکـم مماثل علیٰ مؤدّاه فکذلک مقتضیٰ دلیل حجّیة الأمارة هـو جعل حکـم مماثل علی مؤدّاها ، وواضـح أنّ لازم ذلک الإجزاء .
وبالجملة : لسان اعتبار الأمارة مثل لسان اعتبار الأصل ، فکما أنّ مقتضی اعتبار الاُصول تحکیم الأدلّة الواقعیة ، فلیکن کذلک مقتضی اعتبار الأمارات .
وفیه أوّلاً : أنّه لـم یکـن لنا دلیل یکـون مقتضاه جعل حکـم مماثل علـیٰ طبـق الأمارة ، ولا یستفاد منـه أنّ الشارع بصـدد جعل أمارة تأسیسیـة . وغایـة ما یستفاد منه إمضاء ما علیه العقلاء کما عرفت ، وقـد عرفت أنّهم یرون أنّ للأمارة طریقیـة محضة ، من دون تصرّف فی الواقع کالقطع ، وواضح أنّ مقتضاه عدم الإجزاء عند کشف الخلاف .
وثانیاً : أنّه لو سلّم ذلک یلزم خروج الأمارة عن أماریتها ، حیث إنّه علیٰ هذا لیس له واقع ـ تطابقه أم لا ـ بل یکون مفاده أنّه عند قیام الأمارة علیٰ وجوب صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ جعل وجوب صلاة الجمعة ، وما هذا شأنه لم یکن إمضاء أمارة أو تأسیسها علیٰ ما هی علیها ، فلو کان ، یکون مقتضیٰ جعل المماثل الإجزاء ، کما ذکر فی التقریب ، ولکن دون إثباته خَرط القَتاد .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 333