المقصد الأوّل فی الأوامر

الخاتمة فی حکم صورة الشکّ

الخاتمة فی حکم صورة الشکّ

‏ ‏

‏ولا یخفیٰ : أنّ محطّ البحث فی مسألة الإجزاء حیث إنّه فی أنّ الإتیان بالمأمور به‏‎ ‎‏بالأمر الاضطراری مجزٍ عن المأمور به بالأمر الواقعی ، فلابدّ من حفظ عنوان المأمور‏‎ ‎‏به فی البحث ، والبحث فی حکم صورة الشکّ حیث إنّه فی الشکّ فی کونه مأموراً به‏‎ ‎‏خارج عن موضوع البحث ، لکن یکون داخلاً فی ملحقات البحث ، فینبغی البحث‏‎ ‎‏فیه لبعض الفوائد المترتّبة علیه ، فنقول :‏

‏قـد عرفت مقتضی الحال علی المختار فی مسألة الاضطـرار من وحـدة الأمـر‏‎ ‎‏وعلیٰ مختار المشهـور مـن تعدّد الأمـر فی صـورة إطلاق الأدلّة ، وأمّا مـع إهمال‏‎ ‎‏الأدلّة فـی المبدل والبدل إذا وقـع الشکّ فی إجزاء المأتی به حال الاضطـرار عـن‏‎ ‎‏المأمـور به بالأمـر الواقعی .‏

‏فعلی المختار ـ من وحدة الأمر وکون المأمور به طبیعة واحدة فی حالتی‏‎ ‎‏الاختیار والاضطرار ـ أو قلنا بتعدّد الأمر ولکن لم یکونا مطلوبین مستقلّین ،‏‎ ‎‏فالقاعدة تقتضی الاشتغال ؛ لأنّ التکلیف المتعلّق بنفس الطبیعة معلوم ، وحیث لم یکن‏‎ ‎‏إطلاق فی البین فی أنّ الإتیان بالفرد الاضطراری مسقط للأمر المتعلّق بالطبیعة أم لا ،‏‎ ‎‏فالقاعدة الاشتغال .‏

‏وبعبارة اُخریٰ : یشکّ فیما أتیٰ به أنّه مصداق للطبیعة التی تکون مأموراً بها أم‏‎ ‎‏لا ؟ مثلاً الأمر فی قوله تعالی : ‏‏«‏أقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إلیٰ غَسَقِ اللَّیلِ‏»‏‎[1]‎‏ ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 316
‏تعلّق بنفس طبیعة الصلاة بین الحدّین ، ودلیل اشتراط الطهارة دلّ علی أنّه إذا کنتَ‏‎ ‎‏واجداً للماء فیجب الطهارة المائیة ، وإلاّ فالطهارة الترابیة ، وفرض أنّه لم یکن لدلیل‏‎ ‎‏الشرط فی حالتی وجدان الماء وفقدانه إطلاق . فلو اضطرّ وأتیٰ بالفرد الاضطراری ،‏‎ ‎‏ثمّ ارتفع الاضطرار فشکّ فی إسقاط التکلیف المعلوم فالقاعدة تقتضی بقاء الخطاب‏‎ ‎‏المحدود بین الحدّین .‏

‏وأمّا علیٰ تعدّد الأمر بحیث تعلّق أحدهما بالصلاة مع الطهارة المائیة والآخر‏‎ ‎‏بالصلاة مع الطهارة الترابیة فلا یخلو إمّا أن نقول فی مورد العذر ـ سواء کان عقلیاً‏‎ ‎‏محضاً کعدم القدرة علی الامتثال ، أو عقلیاً غیر محض ؛ بأن تصرّف الشارع فیه ، کعدم‏‎ ‎‏وجدان الماء المأخوذ فی قوله تعالی : ‏‏«‏فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً‏»‏‎[2]‎‏ فإنّ المراد به عدم‏‎ ‎‏الوجدان العرفی لا العقلی ـ بسقوط التکلیف عند العذر ویُحییٰ عند القدرة ، أو نقول‏‎ ‎‏ببقاء التکلیف وفعلیته ، إلاّ أنّ المکلّف معذور عند ذلک .‏

‏والحقّ عندنا ـ کما سنذکره فی مبحث الترتّب مفصّلاً ـ الأخیر ؛ لأنّ الأحکام‏‎ ‎‏القانونیة تتعلّق بالطبائع ، فإذا وقعت فی معرض الإجراء تکون فعلیة من دون لحاظ‏‎ ‎‏حالات آحاد المکلّفین ، ولا یکون الحکم فعلیاً بلحاظ حالة شخص وإنشائیاً بلحاظ‏‎ ‎‏حالة شخص آخر .‏

‏فالأحکام التی بلّغها النبی الأعظم ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ والأئمّة المعصومین ‏‏علیهم السلام‏‏ ، وصارت‏‎ ‎‏فی معرض عمل الاُمّة الإسلامیة کلّها أحکام فعلیة‏‎[3]‎‏ .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 317
‏نعم فی بعض الموارد یکون بعض آحاد المکلّفین معذورین فی مخالفتها .‏

‏فإن قلنا بالأوّل فالقاعدة لو خلّیت ونفسها تقتضی البراءة ؛ وذلک لأنّ الأمر‏‎ ‎‏المتعلّق بالصلاة مع الطهارة المائیة سقط بالتعذّر ـ حسب الفرض ـ وصار الحکم‏‎ ‎‏الفعلی فی حقّه فی ذلک الحال الصلاة مع الطهارة الترابیة ، وبعد زوال العذر یحتمل‏‎ ‎‏استیفاء ما أتیٰ به لتمام المصلحة ، ویحتمل عود التکلیف الساقط ، فالقاعدة تقتضی‏‎ ‎‏البراءة . ولا فرق فی جریان البراءة بین الشکّ فی أصل التکلیف وبین عود ما سقط .‏

‏وأمّا إن قلنا ببقاء التکلیف عند الاضطرار ، وغایة ما تقتضیه أدلّة الاضطرار‏‎ ‎‏هی معذوریة المکلّف عند ذلک ، فبعد ارتفاع الاضطرار فالقاعدة تقتضی الاشتغال .‏

‏ ‏

تذییل

‏ ‏

‏ثمّ إنّه قد یقرّر للاشتغال بأنّ المقام من باب دوران الأمر بین التعیین والتخییر .‏‎ ‎‏والحقّ ـ کما قرّر فی محلّه ـ أنّه لا مجال عند ذلک للتخییر ، بل التعیین ؛ وذلک لأنّ من‏‎ ‎‏اضطرّ فی بعض الوقت حیث یحتمل فی فعلیة الحکم الاضطراری فی حقّه استیعاب‏‎ ‎‏الاضطرار فیدور أمره بین لزوم الانتظار تعییناً إلی أن یرفع الاضطرار حتّیٰ یأتی‏‎ ‎‏المأمور به بجمیع أجزائه وشرائطه خالیاً عن الموانع ، وبین جواز البدار والإتیان بما له‏‎ ‎‏من الاضطرار ؛ لاحتمال عدم لزوم استیعاب الاضطرار .‏

‏فلو أتیٰ بالاضطراری ثمّ تبدّلت حالته إلی الاختیار یجب علیه الإتیان‏‎ ‎‏بالاختیاری أیضاً ؛ لأنّه لا یعلم خروج عهدته عن التکلیف القطعی بفعل‏‎ ‎‏الاضطراری ، فتدبّر .‏

‏ولکن التحقیق أن یقال : إنّ المقام إنّما یکون من باب دوران الأمر بین التعیین‏‎ ‎‏والتخییر لو قلنا بتنجیز العلم الإجمالی فی التدریجیات ؛ فعلیه ففی أوّل الوقت یکون‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 318
‏مکلّفاً بتکلیف فعلی ، ولکن یشکّ فی کونه مخیّراً بین التکلیف الاضطراری أو‏‎ ‎‏الاختیاری ، وبین وجوب الانتظار وتعیّن التکلیف الاختیاری .‏

‏فلو قلنا : إنّ المرجع فی الدوران بین التعیین والتخییر ، الاشتغال ـ کما هو الحقّ ،‏‎ ‎‏کما قرّر فی محلّه ـ فلا محیص عن الاشتغال ، حیث لا إطلاق لشیء من الدلیلین حتّیٰ‏‎ ‎‏یرفع الشکّ به ، کما هو المفروض .‏

‏وأمّا لو لم نقل بتنجیز العلم الإجمالی فی التدریجیات فلا محیص عن البراءة ؛‏‎ ‎‏لأنّه فی وقت الاضطرار لا تکلیف جزمی علیه أصلاً ؛ أمّا التکلیف الاختیاری‏‎ ‎‏فواضح للاضطرار ، وأمّا الاضطراری فلاحتمال لزوم الاستیعاب فیه ، فلا یقطع‏‎ ‎‏بالاندراج تحته . فمع ذلک لو أتیٰ به اعتماداً علیٰ عدم لزومه ، ثمّ تبدّل حاله بالاختیار ،‏‎ ‎‏فیشکّ فی حدوث الأمر الاختیاری فی حقّه . نعم لو لم یأت به إلی زوال الاضطرار‏‎ ‎‏یجب علیه الاختیاری .‏

‏وبالجملة : أنّ المقام إنّما یکون من باب الدوران بین التعیین والتخییر إذا قلنا‏‎ ‎‏بتنجّز العلم الإجمالی فی التدریجیات ، وعلیه لابدّ من الاشتغال ، بناءً علیٰ ما هو الحقّ‏‎ ‎‏من الأخذ بالتعیین عند الدوران . وأمّا لو قلنا بعدم تنجّز العلم الإجمالی فیها فالبراءة ،‏‎ ‎‏فتدبّر جیّداً .‏

فحاصل المقال :‏ أنّ الحقّ فی صورة الشکّ فیما إذا کان الأمر واحداً حقیقةً أو‏‎ ‎‏حکماً هو الاشتغال ، وفیما إذا کان الأمر متعدّداً هو الاشتغال أیضاً علیٰ بعض الوجوه ،‏‎ ‎‏والبراءة علیٰ بعضها الآخر .‏

‏هذا حال الإعادة فی الوقت مع الإهمال وعدم الإطلاق .‏

‏وأمّا القضاء خارج الوقت بعد إتیانه بالاضطراری فالأصل الجاری فی المقام‏‎ ‎‏هو البراءة ، إلاّ إذا دلّ دلیل علیٰ لزوم الإتیان ؛ لأنّ موضوع وجوب القضاء ـ کما‏‎ ‎‏أشرنا ـ هو عنوان الفوت ، ولا یکاد یصدق بعد إتیان الاضطراری .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 319
‏وتوهّم إثبات الفوت باستصحاب عدم إتیان الفریضة فی الوقت المقرّر لها مبنی‏‎ ‎‏علیٰ حجّیة الاُصول المثبتة ؛ لأنّ عنوان الفوت غیر عنوان عدم الإتیان مفهوماً ، وإن‏‎ ‎‏کانا متلازمین فی الخارج . وإثبات عنوان الفوت باستصحاب عدم الإتیان کإثبات‏‎ ‎‏أحد المتلازمین باستصحاب الآخر ، فتأمّل جیّداً .‏

‏إذا أحطت خُبراً بما ذکرنا تعرف النظر فیما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ ،‏‎ ‎‏حیث اختار البراءة عند الإهمال وعدم الإطلاق من دون تفصیل‏‎[4]‎‏ ، کما أشرنا .‏

‏ ‏

ذکر وتعقیب

‏ ‏

‏أورد المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ علیٰ ما ذهب إلیه اُستاذه المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ ـ من‏‎ ‎‏القول فی البراءة علیٰ سبیل الإطلاق من دون تفصیل عند إهمال الأدلّة وعدم‏‎ ‎‏الإطلاق لها ـ بما حاصله :‏

‏أنّ البراءة إنّما تتمّ إذا قلنا بأنّ متعلّق التکلیف فـی الصلاة ـ مثلاً ـ هـو الجامع‏‎ ‎‏بین صلاتی المختار والمضطرّ ، کالجامـع بین صلاتـی المسافـر والحاضـر ، وإنّما عیّن‏‎ ‎‏الشارع لکلّ واحـد من المکلّفین فرداً خاصّاً به مـن أفراد الجامع فـی مقام الامتثال ،‏‎ ‎‏فلا محالـة یکون المأتی به فـی حال الاضطرار هـو نفس المأمـور به فـی حال‏‎ ‎‏الاختیار ، غایته بفـرد آخر . فعلیه یکون الشکّ بعد رفـع الاضطرار فـی حدوث‏‎ ‎‏تکلیف جدید ؛ فالمرجـع البراءة ، ولا مجال للاستصحاب ، کما لا مجال للتمسّک‏‎ ‎‏بالإطلاق ، کما هو واضـح .‏

‏وأمّا لو قلنا بأنّ متعلّق التکلیف هو الصحیح الجامع لجمیع الأجزاء والشرائط‏‎ ‎‏الذی هو وظیفة المختار ، وإنّما المانع من تنجّز التکلیف به فی حقّ غیره هو الاضطرار ،‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 320
‏وعلیه لا محالة یکون العمل الاضطراری بدلاً عنه ، فیلزم ملاحظة وفاء البدل‏‎ ‎‏لمصلحة المبدل فی مقام إجزائه عنه . وعلیه بعد الامتثال ورفع الاضطرار یکون‏‎ ‎‏المرجع عند الشکّ الاستصحاب التعلیقی فی بعض الصور ، أو الاشتغال ؛ إمّا للشکّ فی‏‎ ‎‏القدرة أو لدوران الأمر بین التعیین والتخییر ، انتهی محرّراً‏‎[5]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّه ‏‏قدس سره‏‏ لیته عکس الأمر ، وقال بالاشتغال علی الأوّل والبراءة علی‏‎ ‎‏الثانی ؛ وذلک لأنّه لو کان الأمر واحداً وأتی بما یحتمل کونه مصداقاً بعد عدم القطع‏‎ ‎‏بکفایة العذر غیر المستوعب ، ثمّ تبدّل حالته بالاختیار ، یکون الشکّ فی امتثال ذلک‏‎ ‎‏الأمر الواحد الباقی علیٰ حاله ، ومعه لا محیص عن الاشتغال ؛ لعدم القطع بالامتثال‏‎ ‎‏مع احتمال لزوم استیعاب العذر ؛ حیث لا إطلاق ولا عبرة بما یدلّ علیٰ عدم لزومه ،‏‎ ‎‏وکفایة الاضطرار فی الجملة .‏

‏وأمّا لو کان وزان الاضطراری بالنسبة إلی الاختیاری وزان البدل بالنسبة إلی‏‎ ‎‏المبدل منه فلا ملزم لإحراز کونه تمام المبدل المعلوم عدم ذلک الأمر المتعلّق بالجامع‏‎ ‎‏حال الاضطرار . وحینئذٍ لو أتیٰ به حال الاضطرار ثمّ تبدّل حالته بالاختیاری وإن‏‎ ‎‏احتمل لزوم الاستیعاب فیه ولکنّه لا یقطع بحدوث الاختیاری أیضاً .‏

‏فانقدح بما ذکرنا : أنّ ما أورده المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ علی المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏غیر‏‎ ‎‏وارد ، فتدبّر .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 321

  • )) الإسراء (17) : 78 .
  • )) المائدة (5) : 6 .
  • )) قلت : وهی غیر الأحکام المذخورة عند ولی الله الأعظم ـ جعلنی الله من کلّ مکروه فداه ـ فإنّها أحکام إنشائیة غیر بالغة مرحلة الفعلیة ، تصیر فعلیة عند ظهوره ، عجّل الله فرجه الشریف وجعلنا من أنصاره وأعوانه ].المقرّر حفظه الله ] .
  • )) کفایة الاُصول : 110 .
  • )) بدائع الأفکار 1 : 276 .