المقصد الأوّل فی الأوامر

الأمر الرابع محطّ البحث فی الإجزاء

الأمر الرابع محطّ البحث فی الإجزاء

‏ ‏

‏هل هو فیما إذا تعدّد أمرین تعلّق أحدهما بالطبیعة حال الاختیار والعلم ،‏‎ ‎‏والآخر بها حال الاضطرار أو الجهل ، أو فیما إذا کان هناک أمر واحد ومأمور واحد ،‏‎ ‎‏والاختلاف إنّما هو فی الفرد بلحاظ الحالات الطارئة ؟‏

ولیعلم :‏ أنّ معرفة هذا الأمر لها أهمّیة فی مبحث الإجزاء ، بل یمکن أن یقال :‏‎ ‎‏إنّها مفتاح باب الإجزاء .‏

یظهر من بعضهم :‏ أنّ محطّ البحث فی الإجزاء فیما إذا کان هناک أمرین مستقلّین‏‎ ‎‏تعلّق أحدهما بنفس الطبیعة بلحاظ حال الاختیار والعلم ، والآخر بتلک الطبیعة‏‎ ‎‏بملاحظة حالتی الاضطرار والجهل ، فیبحث فی أنّ إتیان متعلّق الأمر الاضطراری أو‏‎ ‎‏الظاهری یجزی عن المأمور به بالأمر الواقعی أم لا ؟ أی یبحث فی کفایة امتثال أحد‏‎ ‎‏الأمرین الاضطراری أو الظاهری عن امتثال الأمر الواقعی .‏

کما أنّه یظهر من بعض آخر :‏ أنّ محطّ البحث فیما إذا کان هناک أمر واحد تعلّق‏‎ ‎‏بنفس الطبیعة ، ولکن الأدلّة دلّت علی اختلاف أفراد هذه الطبیعة واختلاف الحالات‏‎ ‎‏الطارئة علی المکلّفین ، وأنّ کلّ واحد منهم یجب علیه إیجاد الطبیعة فی ضمن ما هو‏‎ ‎‏فرد لها بحسب حاله .‏

‏مثلاً قوله تعالیٰ : ‏‏«‏أقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إلیٰ غَسَقِ اللّیْلِ‏»‏‎[1]‎‏ یدلّ علیٰ‏‎ ‎‏وجوب الصلوات الیومیة فی أوقاتها المقرّرة علیٰ جمیع آحاد المکلّفین ؛ من القادر‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 290
‏والعاجز ، والصحیح والسقیم ، وواجد الماء وفاقده ، إلیٰ غیر ذلک من الحالات‏‎ ‎‏الطارئة . فالواجب علیٰ جمیع المکلّفین إیجاد طبیعة الصلاة لا غیر .‏

‏نعم ، القادر والصحیح یأتیانها بنحـو والعاجـز والسقیم یأتیانها بنحـو آخـر ،‏‎ ‎‏کما أنّ واجـد الماء یأتیها مـع الطهارة المائیة وفاقـده یأتیها مـع الطهارة الترابیـة ،‏‎ ‎‏فمرجعها إلـیٰ قیود المأمـور به ، فکأنّه یصیر المأمـور به علـی أصناف ویبحث فـی‏‎ ‎‏أنّ الإتیان بأحـد مصادیق المأمور به هل یوجب سقوط الأمـر المتعلّق بنفس‏‎ ‎‏الطبیعـة أم لا ؟‏

وبالجملة :‏ یظهر من بعضهم ـ ولعلّه الظاهر من کلمات أکثر المتأخّرین ؛ ومنهم‏‎ ‎‏المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ ـ أنّ محطّ البحث فیما إذا کان هناک أمران تعلّقا بشیئین ؛ حیث‏‎ ‎‏قالوا : إنّ المأمور به بالأمر الاضطراری ـ مثلاً ـ یجزی عن المأمور به بالأمر الواقعی ،‏‎ ‎‏وهذا بظاهره یدلّ علیٰ تعدّد الأمر ، کما لا یخفیٰ .‏

کما أنّ صریح بعض آخرین‎[2]‎‏ : أنّ محطّ البحث فی أمر واحد تعلّق بنفس‏‎ ‎‏الطبیعة ، والاختلاف فی القیود والمشخّصات الفردیة یرجع إلی المأمور به ویجعله‏‎ ‎‏أصنافاً متعدّدة ، فیبحث فی أنّ الإتیان بفرد الاضطراری من الطبیعة أو الظاهری منها‏‎ ‎‏هل یوجب سقوط الأمر المتعلّق بنفس الطبیعة ، أم لا ؟‏

‏وذهب القائل بتعدّد الأمر بأنّه لو شکّ فی الإجزاء ولم یکن إطلاق فی البین‏‎ ‎‏فالأصل البراءة . ومراده بذلک هو أنّ الأمر المتعلّق بإتیان الصلاة مع الطهارة المائیة‏‎ ‎‏ـ مثلاً ـ قد سقط بالتعذّر عنها ، والأمر بالصلاة مع الطهارة الترابیة قد امتثلت . وبعد‏‎ ‎‏زوال العذر لو شکّ فی لزوم إتیان الصلاة مع الطهارة المائیة فمرجعه إلی الشکّ فی فعلیة‏‎ ‎‏أصل التکلیف بعد العلم بسقوطه ، وواضح أنّ مقتضی الأصل البراءة .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 291
‏وأمّا لو کان الأمر واحداً فمرجع الشکّ إلی أنّ المصداق الاضطراری الذی أتیٰ‏‎ ‎‏به هل یوجب سقوط الأمر المتعلّق بنفس الطبیعة أم لا ؟ وواضح أنّ مقتضی الأصل‏‎ ‎‏الاشتغال .‏

‏ولعلّ منشأ القول بوحـدة الأمر وتعـدّده هـو إمکان جعل الجزئیـة‏‎ ‎‏والشرطیـة والمانعیـة وعدمها ؛ فمـن قال بإمکان ذلک ـ کما ذهبنا إلیه ، ویأتـی‏‎ ‎‏الکـلام فیه مستـوفاة إن شاء الله فـی مبحث الاستصحاب ـ فلا مانـع لـه مـن‏‎ ‎‏أن یقول : إنّ الأمـر متعلّق بنفس الطبیعـة ، والأدلّة الاُخـر أثبتت قیوداً وشرائط‏‎ ‎‏اُخـریٰ فـی المتعلّق .‏

‏فعلیٰ هذا : لا یتصرّف فی ظواهر الأدلّة المثبتة للجزئیة والشرطیة والمانعیة ، بل‏‎ ‎‏یبقیها علیٰ ظاهرها .‏

‏فعلیٰ هذا لیس هنا إلاّ أمر واحد متعلّق بصیغة الصلاة ـ مثلاً ـ وإنّما القیود‏‎ ‎‏خصوصیات المأمور به ، فیبحث فی أنّ الإتیان بأحد مصادیق المأمور به ، هل یسقط‏‎ ‎‏الأمر المتعلّق بنفس الطبیعة ، أم لا ؟‏

‏وأمّا من یری امتناع جعل الجزئیة والشرطیة والمانعیة مستقلاًّ فلابدّ له من‏‎ ‎‏التصرّف فیما ظاهره الاستقلال فی الجعل ، وجعله إرشاداً إلیٰ ما جعله جزءً أو شرطاً‏‎ ‎‏أو مانعاً حین الأمر بالمرکّب .‏

‏وبالجملة : یریٰ أنّه لا یعقل طروّ التقیید علی الطبیعة المأمور بها بعد لحاظها‏‎ ‎‏وتعلّق الأمر بها . وإذا اُرید تقییدها فلابدّ من رفع الید عن الأمر بنفس الطبیعة من‏‎ ‎‏دون تقیید ، والقول بتعلّق الأمر بالطبیعة المتقیّدة .‏

‏وحیث إنّه وردت أدلّة تکـون ظاهرها إثبات الشرطیـة ـ مثلاً ـ کقوله ‏‏علیه السلام‏‏ :‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 292
«التراب أحد الطهورین»‎[3]‎‏ ، فیستکشف مـن ذلک عن وجـود أمـر متعلّق بالطبیعة‏‎ ‎‏المتقیّدة بالطهارة الترابیـة ـ مثلاً ـ فیلزم وجـود أمـرین تعلّق أحـدهما بالصلاة‏‎ ‎‏المتقیّدة بالطهارة المائیـة للمختار ، وتعلّق الآخـر بالصلاة المتقیّدة بالطهارة الترابیـة‏‎ ‎‏للمتعذّر ، هذا .‏

‏وحیث إنّ المختار ـ کما سیجیء ـ إمکان جعل الجزئیة والشرطیة والمانعیة‏‎ ‎‏فلاوجه للتصرّف فی أدلّة الجزئیة والشرطیة والمانعیة وصرفها عن ظاهرها .‏

‏فإذن : لیس هنا إلاّ أمر واحد تعلّق بطبیعة الصلاة ـ مثلاً ـ وإنّما القیود من‏‎ ‎‏خصوصیات المصادیق ؛ إذ قوله تعالیٰ : ‏‏«‏أقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إلیٰ غَسَقِ‎ ‎اللّیْلِ‏»‏‎[4]‎‏ یدلّ علیٰ وجوب الصلاة فی هذا الوقت المضروب لها ، ثمّ دلّ دلیل علی‏‎ ‎‏اشتراطها بالطهارة المائیة حال الاختیار ، وعلی اشتراطها بالطهارة الترابیة عند فقدان‏‎ ‎‏الماء ؛ بحیث یکون المأتی بالشرط الاضطراری نفس الصلاة التی یأتیها المکلّف‏‎ ‎‏بالشرط الاختیاری بلا اختلاف فی المتعلّق والصلاة والأمر .‏

‏کما هـو ظاهر قوله تعالـیٰ : ‏‏«‏یَا أیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَی الصَّلاَةِ‎ ‎فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأیْدِیَکُمْ إلَی الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِکُمْ وَأرْجُلَکُمْ إلَی‎ ‎الکَعْبَیْنِ . . .‏»‏‏إلی أن قال سبحانه : ‏‏«‏فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً‏»‏‎[5]‎‏ .‏

‏فإنّ ظاهرها : أنّ الصلاة التی سبق ذکرها فی صدر الآیة واشترطت بالطهارة‏‎ ‎‏المائیة یؤتیٰ بها عند فقد الماء متیمّماً بالصعید ، وأنّها فی هذه الحالة عین ما تقدّم أمراً‏‎ ‎‏وطبیعة وماهیة .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 293
‏وبالجملة : أنّ الکیفیات الطارئة من خصوصیات المصادیق لا من مکثّرات‏‎ ‎‏موضوع الأمر ، ولا یکون للطبیعة المتقیّدة بکیفیة أمر ، وبکیفیة اُخریٰ أمر آخر .‏‎ ‎‏والنزاع وقع فی أنّ الإتیان بمصداق الاضطراری للطبیعة هل یوجب سقوط الأمر‏‎ ‎‏عنها ، أو لا ؟ وقس علیه الحال فی الأوامر الظاهریة حرفاً بحرف‏‎[6]‎‏ .‏

‏ ‏

تنبیه

‏ ‏

‏ولیعلم : أنّه ـ کما أشرنا إلیه غیر مرّة ـ أنّ ما ذکرناه هنا وما نشیر إلیه فی أثناء‏‎ ‎‏المباحث الآتیة إنّما هو ملاحظة حال الموالی العرفیة بالنسبة إلیٰ عبیدهم ومَن یکون‏‎ ‎‏تحت اختیارهم وسیطرتهم ؛ لأنّه لا طریق لنا إلی معرفة حال المبادئ العالیة فی کیفیة‏‎ ‎‏جعل الأحکام ووضع القوانین ، فلو قلنا فی هذا المضمار شیئاً فإنّما هو علیٰ سبیل‏‎ ‎‏المقایسة بین المولی الحقیقی والموالی العرفیة ، ولیکن هذا علی ذکر منک فلعلّه ینفعک .‏

‏إذا عرفت الاُمور التی ذکرنا فالکلام یقع فی مقامین :‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 294

  • )) الإسراء (17) : 78 .
  • )) قلت : ومنهم اُستاذنا الأعظم البروجردی ، دام ظلّه .
  • )) اُنظر وسائل الشیعة 2 : 991 ، کتاب الطهارة ، أبواب التیمم ، الباب 21 ، الحدیث1 .
  • )) الإسراء (17) : 78 .
  • )) المائدة (5) : 6 .
  • )) قلت : اقتبستُ الفقرات الأخیرة من «تهذیب الاُصول»  [المقرّر حفظه الله ] .